يزيد عمر الإرهاب بمعناه المعاصر على قرن من الزمن، وإذا اعتبرنا أن العنف الذي حدث خلال الثورة الفرنسية 1789 ،وأُطلق عليه «إرهاب» كان عشوائياً غير منَّظم ومرتبطاً بتصفية حسابات، يمكن أن نعيد بداية الإرهاب المعاصر إلى أواخر القرن التاسع عشر، مع ازدياد أعمال الاغتيال السياسي.
وعلى رغم أنه كان محدوداً في بدايته تلك، لا ننسى أنه كان السبب المباشر لاندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 عقب اغتيال ولي عهد النمسا برصاص طالب صربي.
وظلت ممارسة الإرهاب ظاهرة فردية في الأغلب الأعم حتى ثلاثينيات القرن الماضي، حين أدى الخلاف بين دعاة استقلال إيرلندا عن المملكة المتحدة إلى اختيار قطاع من «الجيش الجمهوري الحر» طريق العنف المسلح.
وعلى رغم خصوصية حالة إيرلندا، فهي تدل على أن الإرهاب المعاصر بدأ نتيجة نزعات قومية متطرفة، ولم يكن الإرهاب المترتب على تفسيرات دينية متشددة ومنحرفة معروفاً في ذلك الوقت، كما أن إرهاصاته الأولى التي بدأت في أربعينيات القرن الماضي كانت محدودة، فقد مضت بعدها ثلاثة عقود قبل أن يلد التطرف الديني في السبعينيات إرهاباً مستنداً إلى تفسيرات فقهية مغالية في التطرف. وحدث ذلك بعد أن كان عنف بعض المنظمات اليسارية الماركسية قد تصدر مشهد الإرهاب في العالم في منتصف القرن الماضي.
وهكذا سبق العنف الذي مارسته تلك المنظمات تحت راياتها الحُمر، وقبله عنف تنظيمات قومية متطرفة، إرهاب الجماعات الإسلامية المتشددة التي رفعت رايات سوداً.
واستند «الإرهاب الأحمر» على تأويل بعض ما ورد في كتابات فردريك إنجلز وفلاديمير لينين لتبرير اللجوء إلى «الكفاح المسلح»، حين يكون طريق النضال السلمي مسدوداً، ولكن هذا التأويل الأيديولوجي حدث، بعد أن كانت إرهاصات «الإرهاب الأحمر» قد بدأت.
وكان لتجربة الحرب الأهلية الإسبانية، التي دفع الجنرال فرانكو معارضيه إليها في الثلاثينيات، أثر مهم في ذلك التطور، إذ عبر شبان يساريون من بلاد أوروبية عدة الحدود للالتحاق بأولئك المعارضين الذين لجأوا إلى العنف المسلح.
وعلى رغم أن هذا اللون من العنف لم يخلُ من ظواهر فردية، فقد استمد أهميته من ممارسات المنظمات اليسارية التي حملت السلاح، مثل «توباماروس» في أوروجواي، و«ساندنيستا» في نياكاراجوا، و«الطريق المضيء» في بيرو وغيرها في أميركا اللاتينية، و«الألوية الحمراء» و«بادر ماينهوف» في أوروبا، و«الجيش الأحمر الياباني» في آسيا، وغيرها.
وهكذا يُعد العنف المسلح المعتمد على تفسيرات دينية متطرفة نوعاً واحداً من أنواع عدة من الإرهاب، بخلاف صورة شائعة في العالم اليوم توحي بأنه لا إرهاب غيره، وتسيء إلى الإسلام والمسلمين بسببه.
ولا يعرف المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترامب مثلاً أن شعرة رفيعة فقط تفصل بين أحد ألوان الإرهاب ونزعته القومية المتطرفة التي لا تقتصر على المطالبة بعدم دخول مسلمين الولايات المتحدة، وهو لا يدرك أن الإرهاب المعاصر بدأ من هذه النزعة القومية المتطرفة التي ما زالت تجلياتها العنيفة موجودة في عالمنا حتى اليوم. ولكن ممارسات تنظيم «داعش» الوحشية تصرف الأنظار عنها، أو تؤدي إلى التعامل معها بمنهج مختلف عن ذلك المتبع في مواجهة «الإرهاب الأسود» على رغم أنهما متجاوران في الشرق الأوسط، فما هي إلا عشرات قليلة من الكيلومترات هي تلك التي يتعين عبورها للانتقال من مناطق سورية يمارس «داعش» الإرهاب فيها إلى أخرى تركية تكاثرت فيها عمليات حزب العمال الكردستاني مجدداً في الشهور الأخيرة.
وعندما أُنشئ هذا الحزب القومي المتطرف في الثمانينيات، لم يكن العالم قد عرف «القاعدة»، ولا «داعش» بطبيعة الحال. ومع ذلك لم ينشغل العالم في أي وقت بالإرهاب ذي الدوافع القومية بمقدار ما اهتم بنظيره المستند على تفسيرات دينية. ويمكن تفسير ذلك بأن للثاني طابعاً عالمياً على المستويين المفهومي والعملياتي.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن «الإرهاب الأسود» ينطوي في المرحلة الراهنة على توحش لا سابق له في تاريخ العنف، يمكن فهم لماذا ينشغل العالم بهذا اللون من ألوان الإرهاب دون غيره، غير أن هذا كله لا ينبغي أن يحجب عن الأميركيين الذين يؤيدون ترامب، والأوروبيين الذين يدعمون أحزاباً قومية متطرفة، ويمكن أن يحملوا أحدها إلى السلطة في فرنسا بعد شهور، أنهم يلعبون بالنار حين يلجؤون إلى تطرف يمكن أن ينتج لوناً من الإرهاب بسبب خوفهم من لون آخر يطغى على غيره في المرحلة الراهنة.
-------------------------------
نقلا عن الاتحاد الإماراتية، 13-7-2016.