عرض: أحمد محمود مصطفي باحث في العلوم السياسية
Robert D. Blackwill and Jennifer M. Harris, War by Other Means: Geoeconomics and Statecraft, (Massachusetts: Harvard University Press, 2016)
يقدم روبرت بلاكويل وجينيفر هاريس في هذا الكتاب نبذة تاريخية لاستغلال الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية للأدوات الاقتصادية، وتوظيفها لتحقيق أهدافها الجيوسياسية، وما حدث بعد ذلك من تراجع الجغرافيا الاقتصادية ضمن أدوات السياسة الخارجية، ثم محاولات الولايات المتحدة لاستعادة أدواتها الجيو-اقتصادية.
يعرف المؤلفان "الجغرافيا الاقتصادية" بأنها استخدام الأدوات والآليات الاقتصادية لتعزيز مكانة الدولة، وتحقيق مصالحها القومية، علاوة علي استكشاف آثار السياسات الاقتصادية للدول الأخرى علي الأهداف الجيوسياسية للدولة. ووفقا لهذا التعريف، يمكن للدولة أن توظف عددا من الأدوات لتحقيق أهدافها، وذلك من قبيل: التبادل التجاري، والاستثمار، والعقوبات الاقتصادية، والمساعدات. وترتبط كفاءة الدولة في استخدام هذه الأدوات بعدد من المحددات، أهمها: مدي مركزية الدولة في النظام المالي العالمي، وهيكل السوق داخل الدولة من حيث الحجم الكلي، ودرجة التحكم في الاستثمارات الواردة والصادرة، وتوقعات النمو المستقبلي.
الجغرافيا الاقتصادية في التاريخ الأمريكي:
يشير المؤلفان إلي أنه عقب الثورة الأمريكية، كان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة علي اقتناع بأن الأدوات الاقتصادية يمكن أن تحقق للولايات المتحدة أهدافها ومصالحها بفعالية. وقد ظهرت هذه الأفكار لدي ألكسندر هاميلتون -مؤسس الرأسمالية الأمريكية- الذي عدّ التجارة أحد الأسلحة المهمة للسياسة الخارجية الأمريكية. كما تبني الرئيس الأمريكي، الأسبق توماس جيفرسون، الرؤية ذاتها، حينما قام بشراء إقليم لويزيانا في عام 1803 من فرنسا، وتجنب استخدام القوة العسكرية للسيطرة علي الإقليم.
كما استخدمت الولايات المتحدة الاستثمارات الخاصة العابرة للبحار في تعزيز ارتباطها بدول أمريكا اللاتينية، والتكريس لفكرة الفناء الخلفي للولايات المتحدة. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولي، وظفت واشنطن الأدوات الاقتصادية في الضغط علي ألمانيا. وقد شهدت مرحلة الحرب الباردة استمرارية للمسار الجيو-اقتصادي لتحرير التجارة بين الشرق والغرب لمواجهة النفوذ السوفيتي، وتقويض النموذج الاقتصادي الاشتراكي.
تحولات ما بعد الحرب الباردة:
يلاحظ بلاكويل وهاريس أنه علي الرغم من تفاخر الولايات المتحدة بأنها الاقتصاد الأقوى دوليا، فإنها تلجأ في كثير من الأحيان إلي القوة العسكرية بدلا من الضغط الاقتصادي في سياساتها الخارجية. ويرجع المؤلفان ذلك إلي البعد العسكري للسياسة الخارجية الأمريكية، منذ الحرب الباردة، وتحول الزخم البيروقراطي من وزارة الخارجية إلي وزارة الدفاع منذ عام .1980
ويوضح الكتاب أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 كانت إيذانا بمرحلة جديدة في السياسة الخارجية الأمريكية تتسم بالعسكرة، والنزوع المتنامي نحو التدخل العسكري، بصورة أدت إلي تضاؤل أولوية الأبعاد الجيو-اقتصادية لدي صانع القرار الأمريكي. ويصف المؤلفان هذا التراجع في الأبعاد الجيو-اقتصادية بأنه تجاهل لإرث تاريخي طويل، فضلا عن الانعكاسات السلبية لهذا التوجه علي مكانة الولايات المتحدة ونفوذها.
وفي الوقت الذي تراجع فيه الاهتمام الأمريكي بالآليات الجيو-اقتصادية، اهتمت الصين وروسيا، كقوي دولية صاعدة تنافس الولايات المتحدة الأمريكية علي المكانة والنفوذ الدولي، بهذه الآليات. فجزء كبير من تحركات روسيا علي الساحة الدولية يستند إلي الأدوات الاقتصادية. ومن النماذج المهمة علي ذلك طريقة تعامل روسيا مع أوكرانيا، والضغط الروسي المستمر علي كييف، عبر الإيقاف الدوري لإمدادات الطاقة إلي أوكرانيا، والاتجاه نحو نقل خطوط الغاز الروسية من أوكرانيا إلي دول أخري، بصورة تؤثر اقتصاديا في كييف، نظرا لأنها تحرمها من العوائد الاقتصادية التي كانت تحصل عليها، نتيجة لمرور خطوط الغاز في أراضيها. كما تهدد روسيا بشكل مستمر دول الاتحاد الأوروبي بإيقاف تدفقات الطاقة، في حال انخرطت في سياسات عدائية مشتركة مع الولايات المتحدة ضدها. وسعت روسيا، خلال السنوات الماضية، إلي توظيف أدواتها الاقتصادية عبر مسارين، أحدهما ضمان خضوع دول الاتحاد السوفيتي السابق (المجال الحيوي الروسي) للنفوذ الروسي، فضغطت اقتصاديا علي بعض الدول التي حاولت الابتعاد عن المجال الروسي. ومن جهة أخري، سعت لاستخدام الأدوات الاقتصادية في تقويض نفوذ القوي المنافسة، سواء الولايات المتحدة، أو حتي الاتحاد الأوروبي.
وتقدم الصين النموذج الأهم للسياسة الخارجية للدولة القائمة علي الأدوات الاقتصادية. فخلال السنوات الماضية، استخدمت بكين الاقتصاد لتكوين تحالفات دولية، فقامت بمساعدة الشركات التايوانية المتفقة مع السياسات الصينية، وعاقبت الشركات المعارضة لها. كما أنها وعدت كوريا الجنوبية بعلاقات اقتصادية وتجارية، في ضوء قرارها الرافض لسياسة الولايات المتحدة بنشر أنظمة دفاع صاروخية علي أراضيها، وتزعمت مبادرة تأسيس مجموعة "البريكس" لتكون بمنزلة منافس للولايات المتحدة، وتعهدت برعاية البنك الأسيوي للاستثمار في البنية التحتية، والذي طرح كمنافس للبنك الدولي، علاوة علي تقديم قروض لدول أمريكا اللاتينية بصورة تفوق ما يقدمه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لهذه الدول، فضلا عن دعمها المستمر للدول الإفريقية، والذي أسس لنفوذ حقيقي للصين بالقارة. ويشير الكتاب إلي أن هذه السياسة أسهمت في تحقيق الكثير من الأهداف الصينية، فقد تمكنت بكين، عبر الأدوات الاقتصادية -علي سبيل المثال- من إيقاف عمليات بيع الأسلحة إلي تايوان، وتخفيض عدد الدول المعترف بها.
أمريكا واستعادة الأدوات الجيو-اقتصادية:
يري المؤلفان أنه بعد عقود من الإهمال الأمريكي لإمكانياتها الجيو-اقتصادية، هناك مؤشرات علي محاولات صناع القرار الأمريكي إعادة توظيف الأدوات الاقتصادية -التي لا تزال تملك درجة كبيرة من التأثير- بصورة تتوافق مع مكانة الولايات المتحدة كدولة قائدة في النظام الدولي.
ويري المؤلفان أن ذلك يقوم بشكل أساسي علي تحديد التحديات، والخروج برؤية محددة للجغرافيا الاقتصادية، ودورها في السياسة الخارجية الأمريكية، وترجمتها لخطوط عريضة قابلة للتطبيق. ولأنها مهمة معقدة، فهي تحتاج إلي حلول سياسية محددة.
ويري المؤلفان أن قطاع الطاقة أحد أهم القطاعات الواعدة للجغرافيا الاقتصادية في الولايات المتحدة. فثورة النفط الصخري تعيد تشكيل الحقائق الجيوسياسية حول العالم. فبجانب المكاسب الاقتصادية من التحول الأمريكي للاعتماد علي مصادر الطاقة المحلية، فإنه يقوض النفوذ السياسي لكثير من موردي الطاقة لعدة عقود، ومن ثم تتحرر السياسة الخارجية الأمريكية من كثير من القيود التي كانت مفروضة لديها، في ضوء اعتمادها علي الطاقة المستوردة من الخارج.
وفي نهاية كتابهما، طرح المؤلفان مجموعة من التوصيات التي تمكن الولايات المتحدة الأمريكية من استعادة المكون الاقتصادي ليكون أحد المكونات المهمة والقائدة للسياسة الخارجية الأمريكية، ومنها: تعزيز النمو الاقتصادي الأمريكي، وتحويل الموارد من وزارة الدفاع لوزارة الخارجية، وأن تستخدم الولايات المتحدة موقعها كقوة عظمي في مجال الطاقة لمساعدة حلفائها، مثل بولندا وأوكرانيا، وتأمين الصفقات التجارية والشراكة الاستثمارية عبر المحيط الهادي، وعبر الأطلسي، للمساعدة علي تحقيق التوازن لمواجهة المكاسب الاقتصادية والسياسية التي حققتها الصين وروسيا، من خلال توظيف الاقتصاد لتحقيق أهدافهما السياسية علي الصعيدين الإقليمي والدولي. ويؤكد المؤلفان أهمية أن تقوم الولايات المتحدة بمساعدة حلفائها في آسيا ليصبحوا قوي مؤثرة وموازنة للنفوذين الروسي والصيني، فيريان أن دعم واشنطن لاقتصادات حلفائها الآسيويين سيكون أحد العوامل الحاسمة لقدرتها علي مقاومة التوغل الصيني، والحفاظ باستمرار علي توازن القوي في آسيا.