تعتمد الخطط الحكومية لإنقاذ الاقتصاد المصرى على رفع معدلات الاستثمار ولاسيما الأجنبى حتى يمكن سد الفجوة التمويلية التى قدرها صندوق النقد الدولى بنحو ٢٠ مليار دولار سنويا فى ٢٠١٤، وفى الوقت ذاته انتشال الاقتصاد من انخفاض معدلات النمو والتشغيل والاستثمار منذ ٢٠١١، وليس سرا أن جذب رءوس الأموال الأجنبية يستوجب قدرا من الاستقرار السياسى والأمنى والمؤسسى. ومن الثابت فى أدبيات التنمية على اختلاف مشاربها أن ارتفاع معدلات الفساد فى الجهاز الحكومى لأغلب البلدان النامية يعد عاملا سلبيا ينتقص من فرص الاستثمار سواء المحلى أو الأجنبى نظرا لما يتسبب فيه الفساد من رفع التكاليف التنظيمية وعدم انتظام وضع وتطبيق القوانين واللوائح علاوة على تكلفة الفرص الضائعة نتيجة إحجام المستثمرين بأنواعهم عن ضخ أموال فى الاقتصادات التى تعانى من معدلات مرتفعة من الفساد.
وفى هذا السياق حدثت أزمة المستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزى للمحاسبات بكشفه عن تقدير الجهاز لتكلفة الفساد فى مصر بـ٦٠٠ مليار جنيه أى نحو ثلث الناتج المحلى الإجمالى، وبما أن الدراسة لم تنشر قط، وأنها ظلت محل تداول فى دهاليز السلطة التنفيذية (والبرلمان أخيرا) فسيكون من الصعب تقييم دقة بيانات ومنهجية الدراسة، خاصة فى ظل تضارب تصريحات جنينة نفسه حول المدى الزمنى، ومصادر المعلومات التى اعتمد عليها الجهاز لوضع تقديره، وبالإضافة بالطبع للمبلغ شديد الضخامة، الذى من الصعب اعتباره تكلفة دقيقة فى سنة أو ثلاث سنوات ولكن هذا كله ليس مهما.
إذ إنه قد يكون من المحتمل وغالبا من المرجح أن فريق البحث بالجهاز المركزى للمحاسبات قد أخطأ، وأن رئيس الجهاز قد تبنى تقديرات الجهاز غير الدقيقة وقام بإذاعتها على نحو قد يراه البعض مضرا باقتصاد يصارع من أجل اجتذاب الاستثمار وتحسين البيئة المؤسسية فيه. ولكن ماذا إن أخطأ الجهاز فى التقدير؟ ومن المتداول فى أوساط الإدارات الحكومية التى يراقب عليها الجهاز أنه يعانى بالفعل من ضعف فى الكفاءات البشرية، وأن هناك خبرات وتخصصات قد لا تكون متوفرة لدى الجهاز ما قد يكون قد انعكس على التقدير. إن هذه مشكلة فنية متصلة بكفاءة العاملين بالجهاز، خاصة وأن التقرير مبنى على عمل فريق بحثى كامل فى إطار برنامج تعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائى، ما يحصر دور جنينة الفعلى فى الكشف عن النتائج للإعلام لا إعداد التقرير نفسه محل الجدل.
إن التقرير مهما شابه من عدم مصداقية أو خلل منهجى لا يغير شيئا كيفيا عن مصر فى نظر المستثمرين الأجانب والمحليين، إذ إنه لا يدعى أن مصر بلد يعانى فسادا كثيفا يرفع من تكلفة الاستثمار ويكبد الاقتصاد الكثير، فهذا من المعلوم بالضرورة للجميع، وطبقا لمنظمة الشفافية العالمية فإن مصر قد احتلت فى ٢٠١٥ المركز رقم ٨٨ من ١٦٨ دولة، وأن المجموع الذى حققته مصر هو ٣٦ من مائة (يكون المجموع أفضل كلما ارتفع أى أن البلاد أقل فسادا تحقق ١٠٠٪ كفنلندا). وتتكامل تلك الصورة وفقا لمؤشرات البنك الدولى للسيطرة على الفساد، والتى تشير إلى تدهور مركز مصر فى السيطرة على الفساد من ٤١ من مائة فى ٢٠٠٩ إلى ٣٢ من مائة فى ٢٠١٤، وهذا مؤشر منخفض عن أقران مصر ضمن بلدان الدخل المتوسط: ٣٧ من مائة، والشرق الأوسط وشمال إفريقيا: ٤٤ من مائة وبالطبع البلدان المتقدمة أعضاء منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (٨٥ من مائة).
إن مصر كما هو مثبت الآن ومنذ تم اختراع قياسات للفساد الإدارى وأثره على عمل القطاع الخاص والاستثمار، بلد يعانى معدلات مرتفعة من الفساد، وهذه حقيقة لا سبيل لتغييرها بالسلب أو بالإيجاب إلا بشكل نسبى وكمى لا كيفى. ولا شك أن صورة مصر كبلد يعانى الفساد ستضرر أكثر عندما يرى المستثمرون أن رئيس جهاز رقابى منصوص على استقلاليته فى دستور البلاد قد أقيل من منصبه من قبل رئيس الدولة ــ ورئيس السلطة التنفيذية طبقا للدستور ذاته ــ نتيجة تقديرات للفساد الحكومى ــ وإن كانت مغلوطة أو غير دقيقة ــ. فهذه رسالة غاية فى السلبية تفيد عدم استقلالية الأجهزة الرقابية، بل وعما قد يرى تكميما لأفواه أجهزة الرقابة من جانب السلطة التنفيذية التى من المفترض أن يكون الجهاز هو الذى يراقب عليها لا العكس.
ومن ثم فلعله كان من الأنجع أن يتم التعامل مع التقرير من زاوية فنية ــ علما بأنه هو نفسه تقرير محاسبى أى فنى بالضرورة ــ وأن تتم إحالة التقرير للجنة مستقلة من أساتذة محاسبة وإحصاء واقتصاد ليقدموا نقدا لمنهجية البحث وللبيانات المعتمد عليها فى وضع التقدير، وأن يتم نشر التقريرين على الجمهور المصرى، أو على الأقل ملخصا لهما مع إتاحة المجال للمهتمين والمختصين بالاطلاع على التقريرين، وساعتها كان يمكن تفنيد التقرير الذى تزعم الحكومة عدم دقته، وبيان مسئولية رئيس الجهاز على التسرع فى نشر تقرير غير ذى أساس بكل ما قد يسببه هذا من أضرار.
وبما أن السيف قد سبق العزل فلعل أفضل ما يمكن فعله الآن هو الالتفات إلى المشكلات الهيكلية فى الجهاز المركزى للمحاسبات كونه بحاجة لبناء قدرات إدارية وبشرية ومالية كى يضطلع بدوره كما ينص الدستور، وأن يتم تعديل قانون الجهاز بما يضمن نشرا أوسع للتقارير الصادرة عنه فلا تكون حكرا فحسب على السلطتين التنفيذية والتشريعية، خاصة وأن الجهاز يغطى إدارة المال العام من قبل الجهاز التنفيذى للدولة، وهو ما ينبغى أن يكون متاحا للجمهور خاصة المهتم بالشأن العام، فى وقت تطورت فيه وسائل الإعلام والتواصل على نحو يسمح بتوسيع قاعدة نشر المعلومات.
------------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية،31-3-2016.