لم يحصل في التاريخ الحديث أن جمعت دولة أو جهة أو تنظيم، هذا الكم والنوع من الأعداء في زمن قياسي. «تنظيم الدولة» تمكّن من حشد المتناقضات في خندق واحد وفي معركة موحّدة. فقد آثر التنظيم إدارة عملياته انطلاقاً من خلفيات راديكاليّة خالصة، ابتعد معها أكثر من سلفه «القاعدة»، عن بعض الجوانب «البراغماتية» التي كانت لتسهّل عمله على أكثر من جبهة، وتسهل مروره في بعض المناطق الحارة، كما تضمن له نفساً أطول في إدارة الصراع. وهي السياسة التي مكّنت «القاعدة»، في عهد أسامة بن لادن، من نسج تحالفات تخطت القبائل الأفغانية والباكستانية، ووصلت الى بعض العواصم الآسيوية والإفريقية والعربية، وكان لها الدور الأساس في نجاح «جبهة النصرة» المنبثقة عن «القاعدة»، بخلق باب خلفي دائم مع بعض القنوات السياسية والأمنية الإقليمية «الصديقة».
هكذا اعتمدت قيادة «الدولة» على سلّة من الخيارات، أوصلتها إلى مرحلة المواجهة المباشرة مع الجميع، بعدما ظنت لوهلة أن فوضى «الربيع» ستطول، وأن جولات التفاوض السري والعلني لن تتمكن في المدى الزمني المنظور، من تحديد طبيعة الأعداء والحلفاء، وإعادة قولبة الخنادق على شاكلة أكثر وضوحاً. وبفعل فاعل، وبردة فعل آخر، وجد تنظيم «الدولة الإسلامية» نفسه أمام مجموعة قتالية «منقطعة النظير». يعمل فيها الأميركي والروسي والإيراني والسوري والعراقي، اضافة إلى الأطراف «الثانية» من دول وتنظيمات ناشطة في فلك «المتدخّلين الأوائل».
«عزل» الجبهات.. وقضم «الدولة»
شكلت بداية النهاية، التي تتقولب حالياً أمام أعين التنظيم وخصومه، مقدمة لإعادة دراسة الرقعة الجيوسياسية والمجتمعية الأساسية، التي بنت عليها «الدولة الإسلامية» ركائز نفوذها وعناصر قوتها، خاصة في الحاضنتين العراقية والسورية. إذ إن التسلسل الصعودي للعمليات العسكرية الدولية أو الإقليمية أو المحلية في مواجهة التنظيم، يؤشر الى قرب انتهاء تهديده، مع القضم المستمر للمحافظات والمدن والقرى التي يسيطر عليها، اضافة الى أخد الضربات منحى أكثر «جديّة» مع انخفاض منسوب الاستثمار السياسي المباشر «لإنجازات» التنظيم في مواجهة الدولة المركزية، سواء في بغداد أو دمشق، وبعدما فُرضت الأخيرتان بفعل الواقع وثقل الحلفاء، كرأس حربة في العملية العسكرية الهادفة لتفتيت التنظيم.
بمعزل عن كون التحالف «الدولي ـ الإقليمي» في مواجهة تنظيم «الدولة»، منتجاً غير معلن بشكل رسمي، وغير واضح المعالم بشكل نهائي، إلا أن أثره في الأداء العملي العسكري بات شديد الوضوح، خاصة أنه خلق آلية عزل للجبهات، وبوقت قياسي، سمحت للقوات السورية بتركيز عملياتها بشكل واسع في مواجهته، بعد تمكّن الأميركيين والروس من فرض هدنة عسكرية على غالبية المنخرطين في الحرب السورية وفي مقدمهم النظام، إضافة الى بروز الضربات الجوية المشتركة في السماء السورية، كوسيلة اساسية في تقطيع أوصال خطوط الإمداد والتذخير التابعة لتنظيم «الدولة».
في بغداد ودمشق قسمة ما بعد «النصر»
في المقلب العراقي، مررت العملية بسلاسة فاقت مجرى الحدث السوري. هناك، وبوقت قياسي، تمكنت الحكومة المركزية من إيجاد المخارج المطلوبة لإعادة دمج الميليشيات غير النظامية في عملياتها العسكرية في الوسط والغرب والشمال، خاصة بعد عمليات «الشيطنة» المنقطعة النظير التي تعرّض لها «الحشد الشعبي»، من خلال حرب علاقات عامة شنها ديبلوماسيون عرب ووسائل إعلامية عربية وغربية أيضاً. لكن النسخ الجديدة من «الحشد» الأكثر اعتدالاً من ناحية الخطابة والشكل، كـ «الحشد الوطني» مثلاً، فرضت على الأميركي التلاقي في منتصف الطريق، أو بالحد الأدنى، وجدها الأميركي أكثر ملائمة لتخريجته الخاصة بالحرب العراقية، وبالتالي القبول بتغطية عمليات شاملة ومشتركة من القوات العراقية والميليشيات الشعبية ومن ضمنها «البيشمركة»، ثم الانتقال الى مرحلة الانخراط المباشر بالمجهود البري، من خلال إنزال قوات استطلاع خاصة لتوجيه سلاح الجو، تحت تصنيف «المستشارين» الأكثر رواجاً في المنطقة.
ومع انطلاق العد العكسي الخاص بنهاية التنظيم كحالة عسكرية قائمة بفعل عناصر قوتها الخاصة، مهما بدت النهاية هذه قريبة أو بعيدة، تبدو الأرضية أكثر انشغالاً بمرحلة ما بعد التنظيم، إنما في البعد المنظور فقط. وعليه، تبنى سياسات المرحلة المقبلة باستبعاد شامل لـ «دولة البغدادي». وفي كلتا الحالتين السوريّة والعراقية، فالسوريون منشغلون بإنتاج مرحلة انتقالية مقبولة من الرعاة الدوليين والإقليميين، على أن لا تتعارض مع حاجات النظام المركزي الأساسية، وهي غالبية العناصر التي لا تتجاوز مبدأ «البقاء».
وعلى الطرف الآخر من الحدود، يعكف الجانب العراقي على الانخراط في دوامة نشاط سياسي داخلي، خاصة بالنخبة الحاكمة المنبثقة عن مرحلة ما بعد احتلال العام 2003، ومحاولة تأسيس حكومة أكثر قدرة على «هضم» مكونات «مشاكسة» كالتيار الصدري بزعامة السيّد مقتدى الصدر، وفي مرحلة أخرى إعادة دمج التيار الأقرب للأميركيين في بغداد، الممثل برئيس الوزراء السابق إياد علاوي. هكذا، تبدو بغداد ودمشق أكثر استعجالاً من أي طرف آخر، لحصاد ما بعد «تنظيم الدولة». على الصعد الأمنية والسياسية والعسكرية كافة.
نشأة «التنظيم» في الرواية الرسميّة
وبالعودة إلى السياق الأول «للحرب على الإرهاب»، المتمثل في هذه الحالة بتنظيم «الدولة»، يبدو أن الحاضنتين الرئيسيتين العراقية والسورية، أكثر رضا عن الذات، مقارنة بباقي المنخرطين في هذه الحرب. فقد بات للسرديّة الموحدة من بغداد الى الشام، المفسّرة لنشوء وصعود وتفشي التنظيم، حيّز أساسيٌ في قراءة وفهم الواقع والبناء عليه، في سبيل إنتاج خيارات المرحلة المقبلة. فالتنظيم عبارة عن «عصابات تكفيرية إرهابية»، استثمرها الخارج وبعض الداخل في مرحلة ما، واليوم تخطّت صلاحيتها، وبات الواجب إتلافها. مضافة الى هذه الرواية، مجموعة اخرى من المفاهيم والجمل والتهم «المعلّبة»، ككون التنظيم حالة مدعومة من الخارج، فرضت على قطاعات واسعة من المجتمع. إضافة إلى كون التنظيم مجرد منتج تعاونت على «فبركته» أجهزة أمنية إقليمية في مقدّمها الموساد الإسرائيلي والاستخبارات التركية.
لا تتخطّى الصور هذه مجرد عملية توصيف غير دقيق لتنظيم «الدولة». مع العلم أن غالبيتها لا تخالف الصواب، لكنها بطبيعة الحال، لا تعكس واقع نشوء التنظيم، إنما مجموعة العناصر التي التقت على تضخيمه أو استثماره أو نقله من حالة «شاذة» بالمفهوم الوطني، الى أخرى عابرة للحدود. فالجميع استثمر في التنظيم، إن من ناحية الخصوم، أو أصدقاء «المرحلة»، لكن أحداً من هذا «الجميع» لم يتجاوز، وفي أعقد نماذج تحليله، عملية نشأة «تنظيم الدولة الإسلامية» بمعزل عن تقرير لـ «دير شبيغل الألمانية» نشر في نيسان 2015 تحت عنوان «ملفات سرية تكشف هيكل تنظيم الدولة»، وهي عبارة عن وثائق قيل إنها تعود للعقيد السابق في مخابرات القوات الجوية العراقية قبل الاحتلال الأميركي سمير عبد محمد الخليفاوي، تحت الاسم المستعار «حجي بكر».
العراق.. البداية والنهاية
تشكّل الحالة العراقية، النموذج الأكثر واقعية لفهم «تنظيم الدولة». فالواقع أن الغزو الأميركي للعراق العام 2003، والمبارك تقريباً من دول الإقليم كافة، شكل انهياراً كاملاً لمنظومة عسكرية وأمنية ذات خلفية مجتمعية واسعة، وجدت نفسها معزولة عن باقي قطاعات البلاد والعالم، بل وملاحقة بسلسلة قوانين تبدأ بقانون بـ اجتثاث «البعث» لتتطور الى حالات أكثر قسوة. وقد أُنتجت الحالة هذه، الخاضعة لسنوات من القراءة والتحليل، انطلاقاً من تفتيت الحاكم الأميركي بول بريمر للقوات العسكرية والأمنية العراقية، وصولاً الى اعلان «داعش» ثم «تنظيم الدولة بنسخته «الأحدث». والراسخ أن البيئة الحاضنة للتنظيم، لم تتوقف عن إنتاج نماذج مشابهة طوال الفترة الماضية، فيما لم تشكل «العصاة» العسكرية والأمنية، سوى مقدمة لإعادة إنتاجها وبفصول أكثر دموية وقسوة.
ففي السنوات التي أعقبت الغزو وبداية تشكل التنظيمات المقاومة للاحتلال الأميركي من رحم التشكيلات العسكرية الاساسية الخاضعة لقانون «التشتيت» من فرق الحرس الجمهوري الى الجيش فـ «فدائيي صدام» وميليشيا حزب «البعث» وغيرها، كانت الفترة التالية لعام 2006 الأكثر تعبيراً عن المقبل من الأحداث. فقد شكل العام هذا مرحلة جديدة لإعادة صياغة الواقع العسكري في منطقة الوسط والغرب وبعض الشمال العراقي. إذ اشتبكت غالبية الفصائل العسكرية هناك في معركة نفوذ واضحة، بين الأجنحة السلفية بقيادة ممثلة «دولة العراق الإسلامية» المنبثقة من «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين»، وبين جماعة «الإخوان المسلمين» وفصائل «الجيش الإسلامي» و «حماس العراق» و «أنصار السنة» و «جيش الراشدين» وغيرها.
من «الدولة» إلى «تنظيم الدولة» دائرة مغلقة
أنتجت المعارك هذه، خاصة في الأنبار والكرخ القريبة من بغداد، انهياراً تاماً بعد سنة ونصف لـ «دولة العراق الإسلامية». وهي حالة منفصلة ومختلفة عن «تنظيم الدولة» الحالي. وقد جاء الانهيار بفعل جمع غالبية الفصائل الأخرى المناوئة لـ «القاعدة» تحت راية «الصحوات». التي تلقت مع الوقت دعماً أميركياً مباشراً، وآخر من بغداد. اذ إن المنهج المتطرف الذي اتّبعته جماعة أبو عمر البغدادي، عجز بن لادن شخصياً عن هضمه، وسماه بـ «الأخطاء» في خطابه الشهير الموجّه لعشائر الأنبار العام 2007.
فشلت الدولة العراقية المركزية في احتواء «الصحوات» واستثمارها ودمجها في مشروع «وطني» جامع. ومع هذا الفشل باتت «الصحوات» عبئاً إضافياً على كاهل النظام العراقي الجديد. ومع تراجع تمويلها وتضاؤل نفوذها، عادت الغالبية من سكان الأنبار وجوارها الى مرحلة عدم التيّقن التالية لاحتلال البلاد، ما شكل مرحلة جديدة، من بناء تراكمات مجتمعيّة تقوم على اساس التفرقة والاستبعاد لشرائح واسعة من المجتمع العراقي، بفعل قوانين «المحاسبة» التي لم تتوقف طوال ثلاثة عشر عاماً. هكذا وجدت الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي نفسها مجدداً أمام «انتفاضة» سلميّة مطلبية، قامت بمواجهتها يوم 30 كانون الثاني 2013 حين اقتحمت قوات الأمن العراقية ساحة بمدينة الرمادي اعتصم فيها ممثلون لعشائر الأنبار لنحو سنة، وقتل 10 أشخاص على أقل تقدير، بعد وصف المالكي الاعتصام بأنه «بؤرة للقاعدة»، وقد شكلت الخطوة هذه، مقدمة أخرى لاحتضان أكثر «حرارة» لأي نموذج مارق قادر على تقديم بديل سياسي وأمني ومالي للدولة المركزية المفقودة، وهي الحالة التي رسخت انسلاخاً عملياً لمنطقة شاسعة من العراق طوال الفترة التالية للاحتلال.
---------------------
* نقلا عن المصري اليوم، 1-4-2016.