إذا كان الواقع الدولي قد شهد خلال العقود الأخيرة مجموعة من التبدلات والتغيرات الجذرية، إن على مستوى القضايا والاهتمامات أو المشاكل والأزمات، فإن النظام القانوني الدولي باعتباره ضابطاً مفترضاً للعلاقات الدولية، ظل جامداً ولم يواكب هذه التحولات.
لا يحتمل القانون القداسة والخلود، فهو مجموعة من القواعد المسايرة والمواكبة لتطور المجتمعات، غير أن القانون الدولي أضحى في العديد من مقتضياته الراهنة متجاوزاً، بل ويحول في كثير من الأحيان دون تأطير العديد من القضايا والأزمات الدولية الراهنة بصورة فعالة، بما يفتح باب التكييفات المنحرفة والخطيرة التي غالباً ما تخضع في مضمونها لموازين القوى.
إن التطورات التي أعقبت نهاية الحرب الباردة واستفراد الولايات المتحدة بالساحة الدولية واقعياً، سمحت للكثير من الدول بإعمال تدخلات كثيرة تنوعت بين الضغوطات السياسية والاقتصادية إلى العمل العسكري، سواء بشكل فردي أو من خلال استغلال الأمم المتحدة في هذا الشأن، حيث تبرر الدول التي تقدم على مثل هذه الممارسات مواقفها وسلوكاتها بالاستناد إلى القانون الدولي انطلاقاً من تكييف منحرف لبنوده، كالتوسع في تفسير حق الدفاع الشرعي، ومبدأي عدم التدخل أو منع استخدام القوة أو التهديد باستعمالها في العلاقات الدولية والاستثناءات الواردة عليهما.
من الواضح أن هناك مجموعة من مقتضيات القانون الدولي التي تم تفعيلها في العقد الأخير، وبخاصة على مستوى تحريك العقوبات الجماعية التي قادتها الأمم المتحدة بشكل مكثف في مواجهة بعض الدول، أو تفعيل نظام الأمن الجماعي، لكن الملاحظ هو أن هذا التفعيل الذي لحق بالأمم المتحدة، لم يوازه تطور على مستوى إشراك العديد من الدول التي ظلت على الهامش في بلورة القرارات الدولية في هذا الخصوص، ما جعل هذه الأخيرة تصب في خدمة مصالح صانعيها.
كما أن هناك عدداً من الاتفاقيات الدولية التي تجسد في مضمونها مصالح القوى الكبرى، فالنظام الدولي المتعلق بالحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل - على سبيل المثال- الذي تجسده الاتفاقية الموقعة في هذا الشأن لسنة 1968، أقر بواقع امتلاك القوى النووية الكبرى لهذا السلاح، وحاول وضع مجموعة من العراقيل أمام أية دولة أخرى تطمح في الحصول على هذا السلاح النووي، ولذلك أصبح الدخول إلى النادي النووي يقوم على سبل ملتوية تعتمد على فرض الأمر الواقع، وهو ما عكسته عدة حالات دولية في كل من الهند، باكستان وكوريا الشمالية.. فيما نجد استهتاراً من بعض القوى الدولية الكبرى كالولايات المتحدة و«إسرائيل» بعدد من الاتفاقيات المرتبطة بالتسلح والبيئة وحقوق الإنسان.. وهذا ما يؤكد أن المجتمع الدولي لم ينجح بعد في بناء مؤسسات دولية قوية وفعالة، قادرة على الحسم مع مظاهر الاستخفاف بالاتفاقيات والمواثيق الدولية.
كما أسهم هذا التفعيل في تحريف العديد من المبادئ القانونية وأفرغها من محتواها، كما هو الشأن بالنسبة لممارسة حق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي، فيما أضحت مكافحة الإرهاب داخل بعض الدول ذريعة للإجهاز على حقوق الإنسان.. وأدى تزايد الاهتمام بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى تراجع مبدأ عدم التدخل.
ومما يعمق الأزمة أكثر، هو أنه في مقابل تنصيص ميثاق الأمم المتحدة على العديد من المبادئ الأساسية للقانون الدولي، وردت الكثير من المصطلحات المتصلة بهذه المبادئ، كما هو الشأن بالسلم والأمن الدوليين، والاختصاص الداخلي والعدوان.. مبهمة وتحتمل التأويل الواسع..
إذا كان من اللازم أن يستجيب القانون الدولي إلى المتغيرات والمستجدات التي يفرزها التحول الدولي، فإن التوازنات الدولية الراهنة غالباً ما تجعل هذه الاستجابة خاضعة في مجملها لاعتبارات وخلفيات تعكس مصالح القوى الدولية الكبرى.
أضحى تطوير القانون الدولي والنهوض بمستواه في ارتباطه بالمتغيرات الدولية القائمة أمراً ضرورياً وملحاً، ليعكس التطورات الحالية الحاصلة في العلاقات الدولية، وذلك عبر الموازنة بين حقوق الفرد من جهة وحقوق الدولة من جهة أخرى، وتحقيق الانسجام بين مختلف مقتضياتها، ففي الوقت الذي يؤكد فيه ميثاق الأمم المتحدة منع استعمال القوة في العلاقات الدولية أو التهديد باستخدامها، نجد أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يحث على حماية حقوق الأفراد من الانتهاكات التي تمارسها بعض الأنظمة.
بل إن الكثير من قرارات مجلس الأمن المعتمدة في العقود الأخيرة تجاوزت التفسيرات التقليدية لمجمل مبادئ القانون الدولي، بعدما شرعنت التدخل العسكري أو الاقتصادي في العديد من الدول بمبررات «إنسانية» أو «ديمقراطية»..
إن الاجتهادات والتأويلات الراهنة لمبادئ القانون الدولي، أصبحت تدفع باتجاه دعم الوظيفة التدخلية للقانون الدولي بدل التنسيق، بذريعة ترسيخ الأمن والتضامن الدوليين. فالتدخل باسم حقوق الإنسان أو الديمقراطية أصبح يثير مخاطر وإشكالات عديدة، فعلى الرغم من إقرار الفقه بشرعية التدخلات التي تتم بناء على اتفاقات مسبقة بين الدولة أو الدول المتدخلة والدولة التي سيتم التدخل فوق ترابها أو شؤونها، فإن هناك العديد من الإشكاليات التي تظل مطروحة في هذا الصدد من حيث كلفة هذه التدخلات والجهات المسؤولة عن إقرارها.
أصبحت الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى إلى تجاوز أزمة القانون الدولي الراهنة، والحد من التضاربات والممارسات الناتجة عن غموض وقصور مقتضياته التقليدية، عبر السعي للموازنة بين ضمان احترام سيادة الدول من جهة أولى، والحرص على حفظ السلم والأمن الدوليين من جهة ثانية، خصوصا وأن عدم التحرك في هذا الاتجاه من شأنه خدمة القوى الدولية الكبرى بتمكينها من استغلال الفراغ أو الغموض القانونيين لتكييف الحالات المطروحة مع القواعد التقليدية القائمة بشكل منحرف وتعسفي أحياناً، ومراكمة سوابق تؤسس لمقاربات وتصورات تعكس مصالحها في آخر المطاف.
إن غياب ضوابط دولية تحمل قدراً من التوافق بين جميع دول العالم، تؤطر مختلف التدخلات والممارسات الدولية، من شأنه أن يعجل بانهيار القانون الدولي برمته.
--------------------
* نقلا عن دار الخليج، 26-1-2016.