قرر مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، عقد جلسة مفاوضات بين السلطة السورية ومعارضيها يوم 25 من الشهر الجاري في جنيف، تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الرقم 2254 بهدف الوصول إلى تسوية للأزمة السورية، والصراع الدموي الذي يجري في سوريا منذ خمس سنوات. وكي تنجح هذه المفاوضات، زار دي ميستورا الرياض واجتمع مع الهيئة العامة للتفاوض التي اختارها مؤتمر القوى المعارضة في اجتماعه هناك مطلع الشهر الماضي، كما زار إيران وسوريا للغرض نفسه.
بغض النظر عن نشاطات دي ميستورا ومقتضيات قرار مجلس الأمن ومؤتمر جنيف الأول (حزيران 2012) ومؤتمري فيينا (تشرين الثاني 2015)، فإن هذه المفاوضات المحتملة (إن عُقدت) نهاية الشهر الحالي، لن تحقق - في الغالب - نتائج إيجابية، كما هو مرجوّ منها، بل ربما لن تحقق أي نتائج، بسبب اتساع الفجوة بين مطالب المعارضة من جهة ورؤية السلطة السورية للتسوية من جهة أخرى، حيث مازال الطرفان مختلفين على المبدأ، أي على هدف هذه المفاوضات.
فالسلطة السورية ترى أن المهمة الرئيس لها وللمعارضة هي محاربة الإرهاب، كما ترى أن الحل النهائي للأزمة يكون بتشكيل حكومة وحدة وطنية (أي تعيين عدد من الوزراء من المعارضة في الحكومة المشكلة) وترفض رفضاً قاطعاً تشكيل هيئة حكم انتقالية، كما قرر مؤتمر «جنيف الأول» وقارب «مؤتمر فيينا»، لأنها ترفض الانتقال إلى نظام سياسي آخر غير النظام الحالي، ولا تجد أي مبرر لوضع دستور جديد على أنقاض الدستور المعمول به اليوم، وأن تقوم الحكومة المشكّلة أيضاً بإجراء انتخابات لمجلس الشعب فقط خلال عام ونصف. وهذا كل شيء، وليس للمفاوضات المحتملة اتخاذ أي إجراءات أخرى، ولا يحتاج الأمر بنظر السلطة أكثر من هذه الإجراءات التي ترى فيها الترياق. أما هيئة الحكم الانتقالية، وتغيير النظام (بنية وهيكلية) وتعديل صلاحيات السلطات الموجودة في الدستور الحالي، ونقل السلطة المركزية إلى هيئة الحكم بما يجرد الرئيس من صلاحياته، فهذه ترفضها السلطة رفضاً مطلقاً، بل ترفض حتى وضعها في جدول الأعمال. أما وفد المعارضة فهو محكوم بقرارات مؤتمر الرياض وخلاصتها البدء بتشكيل هيئة حكم انتقالية (مما يعني التخلي عن النظام القائم والبحث عن نظام جديد). ولتحقيق ذلك تقوم هيئة الحكم بتولي سلطات الرئيس، وتضع دستوراً جديداً على أنقاض الدستور الحالي (وليس تعديله) وطرحه على الاستفتاء، وبعد ذلك إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، إضافة إلى إخراج المعتقلين من معتقلاتهم، وإقرار وقف إطلاق النار وفرضه وتهيئة الشروط اللازمة لإعادة اللاجئين في الخارج والنازحين في الداخل إلى مدنهم وبلداتهم، فضلاً عن مهمات إجرائية أخرى. والملاحظ أن خريطة طريق وفد المعارضة لا تتقاطع البتة مع خريطة طريق وفد السلطة، وتندر المشتركات بين ما سيطرحه الوفدان، ولن تكون المفاوضات، في الواقع، سوى حوار طرشان، خالية من نقاط اتفاق أو رؤى مشتركة وثقة متبادلة.
وفي الواقع، لم يتغيّر رأي السلطة وموقفها تجاه إصلاح النظام أو تطويره أو تغييره منذ آذار 2011، أي منذ اليوم الأول للانتفاضة حتى اليوم، وهو ثابت على رفض أي إصلاح أو تغيير في بنية النظام ولا في هيكليته، وعلى إبقاء الدولة الأمنية قائمة من دون أي تعديل، واستمرار حصر السلطات بيد الرئيس، ورفض تطبيق معايير الدولة الحديثة، وخاصة احترام وتطبيق مبادئ الحرية والديموقراطية وفصل السلطات، وعدم احترام سيادة القانون وغيرها من الممارسات التي تشتهر بها الدولة الشمولية. ولذلك رُفضت المبادرات جميعها التي تطرح بعض التعديلات أو التغييرات في هذه القضايا، ولم تغير رأيها هذا، أي في حقيقة ترفض السلطة المساواة والمشاركة بين جميع المواطنين مهما كانت الظروف. ولذلك استخدمت العنف مبكراً، وكانت موهومة دائماً بأنها قادرة على الانتصار بالحل العنفي والأمني والعسكري، ولذلك لم تجد ضرورة لعقد محادثات للوصول لحل سياسي أو قبول مبادرة سلمية من أي جهة كانت داخلية أم خارجية. وقد ورّطها موقفها بممارسة العنف بتحمل مسؤولية نتائج كارثية، منها تدمير البلاد، واستقدام ميليشيات خارجية (مما أضفى على النظام صفة الطائفية) كما ورّطها باستخدام أسلحة عسكرية مدمّرة كالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، أي في الخلاصة تدمير البلاد عمرانياً واقتصادياً وسياسياً وإنسانياً وإجبار ملايين السوريين على النزوح أو اللجوء إلى مدن أخرى وبلدان أخرى لتفادي القصف العشوائي والمميت. لم تتراجع المعارضة أو معظمها، العسكرية والمدنية، عن مطالبها التي طرحتها منذ استخدمت السلطة العنف لإيقاف ملايين المتظاهرين المطالبين بالحرية والكرامة وإصلاح النظام ومحاربة الفساد. وبينما كانت المظاهرات في الأشهر الأولى تنادي بذلك، أصبحت المطالب بعد استخدام العنف تنادي بإسقاط النظام، خاصة بعدما تبلورت فصائل المعارضة وصار لبعضها حلفاء في الخارج، كما صار لهذا البعض فصائل مسلحة، ولم تعُد تقبل بأقل من إسقاط النظام السياسي وإقامة نظام جديد على أنقاضه. ويعني هذا أيضاً تخلي الرئيس عن منصبه، ومحاكمة من ارتكب أعمال العنف وأعمالاً ضد الإنسانية، أو جرائم حرب. واستمرت المعارضة على هذه الأهداف ولم يعُد بإمكانها التراجع، خاصة أن حلفاءها في الخارج يريدون ذلك، ويشجعونها على التمسك بمطالبها. وهكذا صارت الأزمة السورية أمام موقفين متباينين بل متناقضين، ويصعب الحصول على مشتركات بينهما، كي تشكل نقطة انطلاق لهما يمكن تطويرها وصولاً إلى تسوية مقبولة من الطرفين. حتى أن وقف إطلاق النار لم يعُد صالحاً ليكون مقبولاً من كليهما، إذ يرى فيه النظام سبيلاً يمنع تحقيق أهدافه العسكرية التي يرى أنها سوف تحقق له التسوية التي يريد، خاصة بمعونة حلفائه الروس والإيرانيين. ويستبعِد هذا التباين بين ما سيطرحه كل من الوفدين المفاوضين، الوصول إلى اتفاق الحد الأدنى أو تحقيق أي تسوية مقبولة من الطرفين، إذ إن كلاً منهما يرفض رأي الآخر رفضاً كاملاً ولا يتفق معه ولا حتى على الخطوة الأولى. وعلى ذلك فإن جولة المفاوضات المقبلة ستكون تقطيعاً للوقت وإملاء الفراغ بانتظار أن تتفق الدول ذات النفوذ في الأزمة السورية على تسوية تلزم بها الطرفين اللذين سيُضطران لقبولها من دون شك وسيتخليان عن عنترياتهما.
----------------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 16-1-2016.