"تسهيلا للأمر نجمع الناس الأكثر اختلافا تحت الاسم ذاته، وتسهيلا للأمر نعزو لهم أيضا جرائم وأفعالا جماعية وآراء جماعية: "لقد ذبح الصرب..."، "لقد هدم الإنكليز..."، "لقد صادر اليهود..."، "أحرق السود..."، "يرفض العرب..."، "ودون أي اضطراب نطلق الأحكام على هذا الشعب أو ذلك فهو "شغيل"، أو "ماهر"، أو "كسول"، أو "حساس"، أو "ماكر"، أو "متكبر"، أو "عنيد"، وهذا ما يؤدي أحيانا إلي إراقة الدم"(1).
من خلال هذه الكلمات، يشير الكاتب أمين معلوف إلي أنه يوجد اتجاه إلي بناء صورة اجتماعية عامة لوصف وتعريف مجموعة ما تنتمي إلي دين ما، أو عرق ما، أو جنسية معينة، وبالتالي يتم عزو سلوك هذه المجموعة بناء على ما تم إطلاقه من أحكام مسبقة. وفي حقيقة الأمر، فإن بعض الصور الاجتماعية يكون مبالغا فيها، والبعض الآخر يأخذ طابع الوصم، الأمر الذي ينتج عنه فيما بعد ظهور العداءات، التي قد تمتد إلي نزاعات بين المجموعات الاجتماعية المختلفة داخل الدولة الواحدة، أو بين المجتمعات العابرة للحدود.
ويزخر التاريخ الإنساني بالعديد من أمثلة النزاعات التي نشأت بين مجموعتين اجتماعيتين أو أكثر كنتيجة لسيادة صورة نمطية معينة تصم الطرف محل النزاع، حيث تسعي مجموعة اجتماعية ما إلي تهميش واستبعاد المجموعة الأخرى، من خلال وصمها بمجموعة من الافتراضات التي تعمل على ترسيخ عملية التنميط، وقولبة المجموعة محل الوصم. ومن الأمثلة المعاصرة لتداعيات الإدراك الخاطئ، وبناء صورة نمطية معينة عن مجموعة اجتماعية ما، وضع "المسلمين" في أوروبا وأمريكا الشمالية، أو ما يسميه البعض بـ"الإسلاموفوبيا".
وعلى عكس ما يعتقده البعض، فإن إشكالية الإسلاموفوبيا لم يذع صيتها عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، بل أخذت في الظهور على المستوى الإعلامي منذ ثمانينيات القرن الماضي. وعلى المستوى الأكاديمي، فقد نال المصطلح صك الشرعية منذ تسعينيات القرن الماضي كما سنري فيما بعد. وعلى الرغم من عدم اتفاق الحقل الأكاديمي حول تعريف محدد لما يسمي بالإسلاموفوبيا، فإن الظاهرة في شكلها الحالي تعني وجود بعض السلوكيات المعادية للمسلمين نتيجة وجود معتقدات سابقة، وصورة نمطية معينة عن هذه المجموعة.
وفي هذا الإطار، فإن السؤال الأساسي الذي تسعي هذه الورقة للإجابة عليه هو إلي أي مدي تؤدي سيادة صورة نمطية معينة لمجموعة اجتماعية ما إلي ظهور حالات التمييز العنصري التي قد تمتد إلي تهميش واستبعاد اجتماعي لبعض المجموعات؟. وتتخذ الورقة من ظاهرة الإسلاموفوبيا مجالا تطبيقيا للنظريات المطروحة في هذا الصدد، محاولة أيضا فهم دور السياسات العامة للحكومات الأوروبية والأمريكية، وكذا وسائل الإعلام في ترسيخ الاستبعاد الاجتماعي تجاه "المسلمين".
وللخروج من الأطر التحليلية التقليدية بالعلوم السياسية التي تتجه إلي التركيز على دراسة الفاعلين الدوليين، فإن كلا من علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع قد قدما مفاتيح مفاهيمية لفهم ظاهرة الأزمات والصراعات التي تقع بين المجموعات الاجتماعية المختلفة. ومن خلال إعادة قراءة بعض الوقائع وربطها بما قدمته العلوم الاجتماعية من مفاتيح مفاهيمية، فإن هذه الورقة تفترض أن حالات تنميط واستبعاد مجموعات "المسلمين" بالدول الأوروبية والأمريكية قائمة على أن الصورة الاجتماعية لهذه المجموعات قد خضعت لبناء اجتماعي في إطار تاريخي معين جعل منها "مجموعات موصومة".
على أن ذلك لا ينفي أن هذه الصورة النمطية تعتمد أيضا على الكيفية التي تقوم هذه المجموعات بتعريف ذاتها أمام الآخر، وهذا يعني بصيغة آخرى أن هناك مسئولية مشتركة تجاه وجود صورة نمطية معينة. إلا أن هذا لا يمنع وجود عوامل خارجية تعمل على ترسيخ الصورة النمطية في الوعي الجمعي، كالدور الذي تلعبه وسائل الإعلام، والفن، فضلا عن سياسات بعض الدول التي تؤجج عملية التمييز العنصري.
الوصم والاستبعاد .. مدخل نفسي اجتماعي:
يقوم علم النفس الاجتماعي منذ خمسينيات القرن الماضي بخط التفاعلات بين المجموعات الاجتماعية المختلفة، فضلا عن التفاعلات التي تجمع مختلف الأفراد. وفي هذا السياق، فإنه يهتم بكيفية تشكيل صور نمطية Stereotypes تجاه الأفراد والمجموعات الاجتماعية المختلفة، ومدي تأثير هذه الصورة في سلوك الأفراد. وفي واقع الأمر، فإن دراسة التنميط تساعد في فهم إشكالية النزاعات بين مختلف المجموعات الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، لن تخلو دراسة أسباب مذبحة رواندا في عام 1994 بين قبيلتي الهوتو والتوتسي من تحليل الصورة النمطية التي شكلتها كل قبيلة عن نظيرتها، وأثرها في تأجيج النزاع. وقد تزايدت الأبحاث التي تستخدم مصطلح التنميط منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، خاصة بعد أن اتجهت العلوم الاجتماعية لدراسة العرق والنوع الاجتماعي(2).
وفي هذا الإطار، فإن عالم النفس الأمريكي ديفيد شنايدر David Schneider قد قام بتعريف الصور النمطية كأنها - بصفة عامة - معتقدات عن أشخاص، أو معتقدات عن فئة ما، وبالتالي فهناك صور نمطية عن السيارات، والأشجار، والفراشات(3). وفي الوقت الذي قام فيه شنايدر بتسليط الضوء على الصور النمطية كمعتقدات يتم بناؤها لدي الأفراد تجاه فئة معينة تجمع بين عنصرين أو أكثر، قام كل من أجزين Ajzen، وفيشبين Fishbein بالربط بين الصور النمطية والتمييز العنصري(4). فوفقا لهذين العالمين، فإن المعتقدات (Beliefs) تؤثر في اتجاهات (Attitudes) الأفراد، وهو ما يؤثر فيما بعد في السلوك (Behavior) الذي يختاره الفرد. وبالتالي، فإن الصورة النمطية بحسبانها معتقدات تجاه فئة معينة، تدفع الفرد إلي تبني أحكام مسبقة (Prejudices) تؤثر في سلوكه تجاه هذه الفئة.
وهكذا، فإن أي سلوك عدائي (كالتمييز العنصري الذي يصل إلي حد النزاع)، أو أي اتجاه إلي الكراهية، يكون مدفوعا بالصورة النمطية المتبناة لدي الأفراد. ويؤكد علماء النفس أنه على الرغم من أن الصورة النمطية قد تنشأ كنتاج لتجارب يتعرض لها البعض مع الطرف محل الصورة النمطية، فإن هذا لا يمنع وجود مسببات أخرى لبناء الصور النمطية، كالتنشئة الاجتماعية التي يخضع لها الفرد في عائلة، والتعليم الذي يتلقاه بالمدارس، فضلا عن دور المؤسسات الدينية التي يتردد عليها الأفراد، والتي غالبا ما تتجه إلي بناء صورة نمطية سلبية عن المجموعات الاجتماعية المختلفة عنها(5). وقد تنتج هذه الصور النمطية على أساس ديني (المسلمون في مواجهة اليهود)، أو على أساس عرقي (السود والبيض)، أو على أساس جنسي (الرجال والنساء)، أو على أساس الانتماء إلي مهنة ما (الفلاحون والوزراء)، أو الانتماء إلي منطقة جغرافية ما (سكان الجنوب وسكان الشمال)، كما قد تنتج في سياق سياسي تاريخي (الشيوعيون في الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب الباردة، والفلول والثوريون عقب ثورة 25 يناير في مصر في عام 2011).
وبرغم الدور الذي لعبه علم النفس الاجتماعي في إضافة بعد أكاديمي لدراسة النزاعات بين المجموعات المختلفة، من خلال تسليط الضوء على "ظاهرة التنميط"، فإنه عجز عن توضيح آليات التمييز العنصري كسلوك خارجي ناتج عن التنميط. فعلى سبيل المثال، يسهم علم النفس الاجتماعي في المساعدة في فهم إشكالية التنميط على أساس العرق -كالصور النمطية على الوضع المهني، والمستوى اللغوي للنوبيين في الأدب والسينما المصرية - إلا أنه لم يقدم مفاتيح لفهم ما يتعرض له "السود" بأمريكا الشمالية من عنصرية، وعدم مساواة عبر صيرورة تاريخية، أو كيف ظهر مصطلح "الديمقراطية العرقية" في البرازيل، كحل للقضاء على عدم المساواة بين "البيض" و"السود". وهنا، أسهم علم الاجتماع في تقديم زوايا تحليلية أخرى لفهم كيف يتم تحويل الصور النمطية لأداة في يد الفئات المهيمنة للعمل على زيادة تهميش الفئات المهيمن عليها.
وهنا، يجب الأخذ في الحسبان بما قدمه علم الاجتماع في هذا الصدد، خاصة ما طرحه عالما الاجتماع نوربيرت إلياس Norbert Elias وإيرفينج جوفمان Erving Goffman. حيث قام الأول بدراسة آليات الاستبعاد الاجتماعي، وكيف تستخدم المجتمعات الصور النمطية، وترويج الشائعات، فضلا عن تعزيز هوية قوية قائمة على إرث تاريخي، وذلك للإعلاء من شأنهم، مقابل الحط من شأن المجتمعات الأخرى، وتهميشها، واستبعادها(6). في حين أن الآخر درس كيف يقوم المجتمع بوصم مجموعة من الأفراد لمجرد اختلافهم جسديا مع هو متعارف عليه، حيث قام بدراسة ذوي الإعاقة الجسدية. فقد أوضح جوفمان الكيفية التي يقوم المجتمع فيها بوصم الأفراد إذا ما اتضح امتلاكهم لسمة مرئية متعارف عليها اجتماعيا أنها من أمارات الوصم، كلون البشرة، أو إعاقة جسدية، أو جنسية ما (من خلال امتلاك ملامح فيزيائية تنتمي إلي منطقة جغرافية ما)، أو الانتماء إلي دين ما (من خلال إظهار إحدى علامات الانتماء إلي هذا الدين)، وهو ما اطلق عليه الوصم القبلي Tribal stigma(7).
الإسلاموفوبيا .. معضلة السياق التفسيري:
ثمة التباس تتعرض له العديد من الكتابات العربية في التعاطي مع ظاهرة الإسلاموفوبيا، إذ عادة ما تغفل البعد الجغرافي المكاني عند تناول الظاهرة، فضلا عن عدم تعريف من هم "المسلمون" الذين يتعرضون للإسلاموفوبيا، وفي أي سياق (وذلك لأن "المسلمين" ليسوا كيانا متجانسا). وبالتالي، فإن هذه الكتابات لا تتناول الموضوع سوي في إطار ثنائية "الغرب" في مواجهة "المسلمين"، وهو ما تسعي هذه الورقة لتجنبه.
وفي واقع الأمر، فليس هناك تاريخ محدد عن أول استخدام لمصطلح الإسلاموفوبيا. فهناك من يشير إلي أن أول استخدام له تم على يد إدوارد سعيد في مقالة له عام 1985(8)، وهناك من يؤكد أن بدايات ظهور المصطلح كانت في المجال الأكاديمي الفرانكوفوني عام 1910 على يد مجموعة من علماء الإثنولوجيا للحديث عن السياسات التي تتبعها الإدارة الاستعمارية الفرنسية تجاه المسلمين بإفريقيا.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المصطلح لم ينتشر في المجال الأكاديمي، فضلا عن المجال العام، إلا بعد أن تم نشر تقرير Runnymede Trust البريطاني عن الإسلاموفوبيا في عام 1997(9). وقد تناول هذا التقرير -المعنون "الإسلاموفوبيا: تحد لنا كلنا"
Islamophobia: a challenge for us all ماهية الأحكام المسبقة التي يتم إطلاقها على مسلمي بريطانيا، وحالات الاستبعاد الاجتماعي، والعنف الجسدي الذي يتعرضون له، وتاريخ وجود المسلمين ببريطانيا، فضلا عن دور الإعلام في تعزيز الإسلاموفوبيا(10).
وقد قام هذا التقرير بتعريف الإسلاموفوبيا على أنها حالة عداء للإسلام تنتج عنها مجموعة من الممارسات المعادية والتمييز غير العادل ضد الأفراد والمجتمعات المسلمة، فضلا عن استبعاد المسلمين من الشئون السياسية والاجتماعية السائدة(11). ثم تبع هذا التقرير دراسات أخرى لم تخرج كثيرا عن تعريف الإسلاموفوبيا كحالة عداء للمسلمين، إلي أن قام عالما الاجتماع الفرنسيان عبد العلي حاجات Abdelalli Hajjat ومروان محمد Marwan Mohammed بالتركيز على أبعاد أخرى لظاهرة الإسلاموفوبيا، حيث تم النظر لها كعملية تغريب معقدة تقع على عاتق كل من يملك أمارة انتماء فعلى، أو مزعوم للدين الإسلامي. ونتيجة لهذا التغريب، يتم اختزال الفعل الاجتماعي لهؤلاء الأفراد إلي فعل ديني فقط، من خلال محو تعددية وتعقيد المكون المجتمعي لهذه المجموعة(12).
اللافت للانتباه في هذا التعريف هو أن الكاتبين أشارا إلي تعقيد عملية بناء صورة نمطية عن المسلمين، فضلا عن صعوبة تعريف الفرد المسلم الذي قد ينتمي إلي هذه المجموعة لمجرد أنه يحمل اسما عربيا، يحمل علامة دينية مرئية (كارتداء الزي الإسلامي)، أو أن تكون بنيته الجسدية تدل على انتمائه إلي بلد إسلامي. وفي واقع الأمر، وبالاستناد إلي المفاهيم السابق ذكرها، يمكن القول إنه بمجرد أن يقع الفرد في تفاعلات مختلطة مع فرد يمتلك إحدى أمارات الانتماء إلي مجتمع "المسلمين"، حتى وإن لم يكن مسلم الديانة، فإنه يتخذ سلوكا مختلفا قبل أن يختبر فرضيات حكمه المسبق. هذا السلوك قد يبدأ من مجرد أحكام مسبقة عن الممارسات الدينية للفرد، وقد يصل إلي السلوك العدائي للآخر.
ويرجع ذلك لوجود صورة نمطية عن المسلمين بالدول الأوروبية والأمريكية على أنهم "إرهابيون"، و"راديكاليون"، "متطرفون"، و"غير متقبلين للآخر"(13)، فضلا عن الصور النمطية عن المرأة المسلمة أنها "تخضع لسلطة الرجل"، فضلا عن اتجاه الكثير من الأفراد في التفاعلات مع المجموعات الاجتماعية المختلفة عنهم إلي تبني حكم مسبق عن الآخر، وذلك لتسهيل الأمر عليهم في معرفة أي سلوك سيتخذونه.
وبالاستناد إلي ما سبق، فقد تم تسجيل العديد من الوقائع المعادية للمسلمين، كان آخرها انتشارا هذا العام (2015) في مواقع التواصل الاجتماعي الطفل الأمريكي الذي قام باختراع ساعة. وعند عرضها على معلمه، تم الاشتباه فيه بأنه قد اخترع قنبلة قابلة للتفجير، مما دفع الأخير إلي احتجازه لحين التحقق من هويته. ولمجرد أن الطفل يحمل اسما يدل على انتمائه الديني (أحمد)، جاء سلوك المعلم معاديا له، ومدفوعا بما اختزنه من صورة نمطية عن "المسلمين"(14). هذا السلوك ليس الأول من نوعه. فمنذ عام مضي، امتنع أستاذ جامعي بجامعة فرنسية عن إلقاء محاضرته لوجود طالبة محجبة بالمحاضرة، إلي أن احتشد الطلبة وبعض الأساتذة، فيما بعد، تضامنا مع الطلبة، حتى تم وقف الأستاذ الجامعي عن العمل(15).
وقد يحدث هذا السلوك المعادي بطريقة أكثر تنظيما وغير مصرح بها علنيا، مثل موجات الرفض في سوق العمل، والتي يتعرض لها العديد من حاملي الأسماء العربية في فرنسا(16). وفي حالات أخرى، يكون السلوك المعادي منظما من قبل الشرطة نفسها، كحملات التفتيش العشوائي التي تتم في وسائل المواصلات في فرنسا، والتي تستهدف بنسبة كبيرة أصحاب الملامح التي تدل على أصلهم العربي أو الإفريقي(17).
على صعيد آخر، فإن هذا السلوك يتم تعزيزه بسياسات الحكومة من جهة، ووسائل الإعلام والفن من جهة أخرى. ففي عام 2009، ساد جدل على الصعيد الدولي، بعد أن قام الحزب اليميني السويسري بشن حملة تعبئة لمنع بناء المآذن. وبالفعل، جري استفتاء جاءت نتيجته إيجابية لمصلحة حظر بناء المآذن(18). وفي فرنسا، تم منع ظهور أي علامة دينية في الوظائف الحكومية، وذلك بالاستناد إلي القانون المؤسس للعلمانية الفرنسية في عام .1905 وفي عام 2004، قام البرلمان الفرنسي بالتصويت لمصلحة قانون يمنع ارتداء أي رمز ديني بالمدارس الحكومية(19). إلا أنه على الرغم من عمومية القانون التي تشمل كافة الأديان، ففي العديد من المنشآت العامة، فضلا عن المنشآت الخاصة، يتم ذكر الحجاب الإسلامي على وجه التحديد(20). وبالتوازي مع هذه السياسات الحكومية، يلعب الفن دورا أساسيا في تعزيز هذه الصور النمطية كالرسوم الساخرة من "المسلمين" والتي تختزل هذه المجموعة في صورة الرجل ذي اللحية الشعثاء، والجلباب الأبيض بجوار مآذن في شكل أسلحة، كتلك التي نشرت في الجرائد الدنماركية، والسويسرية، قبيل الاستفتاء، فضلا عن الجرائد الفرنسية(21).
من جهة أخرى، فقد لعب الإعلام دورا جوهريا في شيطنة "المسلمين". وفي هذا الإطار، أشار عالم الاجتماع الأمريكي ستانلي كوهين Stanley Cohen إلي كيف يقوم الإعلام بخلق حالة هلع أخلاقية Moral Panic لدي الجماهير من خلال إيهامهم بأن نظامهم الاجتماعي مهدد(22)، وهو ما حدث في سويسرا عندما انتشرت حالة هلع أخلاقية لدي الشعب من أن بناء المآذن سيهدد القيم السويسرية. وللأسف، لا يهتم الإعلام كثيرا بالأخذ في الحسبان مدي تعقيد وتعددية بنية مجتمع "المسلمين". ولذا، نجد العديد من عناوين الصحف الأوروبية والأمريكية تتحدث عن "المسلمين" كأنهم كيان متجانس وواحد، غير مراعية في ذلك حالات الالتباس التي تنتج فيما بعد.
الإسلاموفوبيا والتنميط .. صيرورة تاريخية:
السؤال الذي يطرح نفسه، هو: كيف تشكلت ظاهرة الإسلاموفوبيا؟. هنا، تبين القراءة التاريخية الكيفية التي تطورت بها الصور النمطية ضد المسلمين. فيعتقد البعض أن الإسلاموفوبيا أخذت في التنامي على المستوى الدولي عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. إلا أن عالمة الاجتماع الفرنكو-تركية نيلفور غول Nilfer Gole أكدت أن طرح القضية، خاصة على المستوى الدولي، أخذ في التبلور منذ ثمانينيات القرن الماضي. ويعود هذا التاريخ إلي ارتباط منع ارتداء الحجاب الإسلامي في المدارس الفرنسية بواقعة إصدار الإمام الخميني فتوي حل دم الكاتب البريطاني - الإيراني سلمان رشدي، بعد نشر روايته "آيات شيطانية"(23).
من جهة أخرى، نجد أنه على الرغم من إرجاع البعض ظاهرة الإسلاموفوبيا إلي ارتفاع موجات الهجرة ما بعد الكولونيالية إلي الدول الأوروبية، فهناك من يري أن جذور الظاهرة تعود إلي حقبة العصور الصليبية. وفي هذا الصدد، شدد عالم الاجتماع البريطاني كريستوفر آلان Christopher Allen في كتابه عن الإسلاموفوبيا على أهمية دراسة الجذور التاريخية، وإلي أي مدي أثر تطور النظام العالمي منذ حقبة الحروب الصليبية في ظهور الإسلاموفوبيا في شكلها الحالي. فوفقا للكاتب، فالنظام العالمي كان قائما على هيراركية دينية بين قوتين تتنازعان باسم الدين: العالم الإسلامي الشرقي، الذي كانت تمثله الدولة العباسية، ثم الإمبراطورية العثمانية فيما بعد، في مواجهة العالم المسيحي الغربي، متمثلا في الإمبراطورية البيزنطية، ثم القوى الأوروبية العظمي. وعلى الرغم من مدي تعقيد هذه الحقبة، وأن السعي الرئيسي لم يكن وراء تحقيق غلبة دينية بقدر ما كان قائما على أساس اقتصادي، وتوسيع الإمبراطوريات الحاكمة، فإنه اكتسب صبغة دينية.
وفي غضون هذه السنوات، تم نقل صورة نمطية عن "المسلمين" من واقع الحياة آنذاك على يد المستشرقين بأن رجالهم كثيرو الزواج، فضلا عن الحياة التي تتسم بالبذخ. وهكذا، استمر الوضع حتى الحقبة الكولونيالية والإمبريالية، بعد أن تفتت الإمبراطورية العثمانية، وخضعت أراضيها العربية للاحتلال الأوروبي(24). وعلى صعيد آخر، أفاد باحثون بأن تاريخ الغزو الإسلامي للأندلس ومعارك الاسترداد La Reconquista كان مغذيا محوريا في تعزيز السلوك المعادي للمسلمين. فقد صاحب حرب الاسترداد مباركة بابا الفاتيكان. وبمجرد استرداد أوروبا لشبه الجزيرة الأيبيرية، بدأت موجات من إجبار السكان المسلمين واليهود على التحول إلي المسيحية. ثم تبع ذلك حملات تمييز عنصري ضد المسلمين المتحولين للمسيحية (الموريسكيون Moriscos)، واليهود المتحولين للمسيحية (المارانوس Maranos) بدعوي الحفاظ على "نقاء الدم" Purity of blood في إسبانيا(25). وعلى الرغم من قدم هذه الأحداث التاريخية - التي تعود إلي قرون ماضية - فإن قراءتها تعد مؤشرا على فهم الواقع المعاصر، وكيف يستمر التنميط عبر الحقب التاريخية المختلفة.
في الختام، فإن إشكالية الإسلاموفوبيا لا تخرج عن إطار الزيونوفوبيا، أو الخوف من الآخر المختلف. وفي واقع الأمر، فإن هذه الظاهرة تعتمد أيضا على مدي قدرة هذا الآخر على تعريف نفسه. فمع انتشار الاعتداءات الإرهابية "الإسلامية" على المستوى الدولي (كالعمليات الإرهابية التي قامت بها تنظيما القاعدة و"داعش" حول العالم)، أصبح من الصعب على من ينتمي إلي فئة "المسلمين" إعادة تعريف نفسه، ومفاوضة اختياراته أمام الآخر، في إطار التفاعلات المختلفة.
ويشير الواقع إلي وجود العديد من المبادرات الأكاديمية والاجتماعية في الدول الأوروبية والأمريكية لمحاولة فهم أسباب الإسلاموفوبيا، والقضاء عليها، كتنظيم العديد من المؤتمرات الأكاديمية، وتأسيس مراكز بحث لدراسة الإسلاموفوبيا، ونشر دوريات أكاديمية عن تلك الظاهرة، فضلا عن ظهور حركات اجتماعية تهدف إلي تغيير الصورة النمطية عن "المسلمين" من خلال نشر فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن هذا لا يمنع من أن قضية الإسلاموفوبيا في العديد من هذه الدول لا ترتبط بالخوف من الإسلام كدين بقدر ما ترتبط بأبعاد أخرى، كسياسات الهجرة، وانتشار العنف، ومعدلات الجريمة في الأحياء العشوائية (ذات الأغلبية المسلمة والعربية). إلا أنه في النهاية، يتم الربط بين هذه المشكلات والوجود الإسلامي في وسائل الإعلام، مما يساعد على تعقيد القضية أكثر فأكثر، إلي أن أصبحت كـ "الحلقة المفرغة".
الهوامش:
1- أمين معلوف، الهويات القاتلة "قراءات في الانتماء والعولمة"، ترجمة: د. نبيل محسن، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولي، 1999، دمشق، ص23.
2- David Schnieder, The psychology of stereotyping, New York, The Guilford Press, 2004, p. 15.
3- Ibid
4- Icek Ajzen & Martin Fishbein, Attitudes and the Attitude-Behavior Relation: Reasoned and Automatic Processes, European Review of Social Psychology, 11:1, 2000, pp. 1-33.
5- David Schnieder, op. cit., p. 338.
6- Norbert Elias, John L. Scotson, The established & the outsiders. A sociological enquiry into community problems, London, SAGE Publications, 1994.
7- Erving Goffman, Stigma: Notes on the management of spoiled identity, New York, Simon & Schuster, Inc., 1963.
8- Edward Said, Orientalism reconsidered,Cultural Critique, vol. 1, pp. 89-107.
9- Houda Assal, Islamophobie: la fabrique d'un nouveau concept. Etat des lieux de la recherche., Sociologie,1 l 5, 2014, pp. 13-29.
10- Gordan Conway, Islamophobia: a challenge for us all, Runnymede Trust, London, 1997.
11- Ibid, p. 4.
12- Marwan Mohammed, Un nouveau champ de recherche, Sociologie ]En ligne[, 1: 5, 2014, mis en ligne le 12 mai 2014, consult le 03 novembre 2015, URL: http://sociologie.revues.org/2108
13- John Sides, Kimberly Gross, Stereotypes of Muslims and Support for the war on terror, Journal of Politics, 3: 75, 2013, p. 583-598, URL: http://journals.cambridge.org/action/displayAbstractfromPage=online&aid=8948583&fileId=S0022381613000388
14- Ashley Fantz, Steve Almasy & AnneClaire Stapleton, Muslim teen Ahmed Mohamed creates clock, shows teachers, gets arrested, CNN, 16 September 2015, URL: http://edition.cnn.com/16/09/2015/us/texas-student-ahmed-muslim-clock-bomb/
15- Paris 13: un enseignant dmis aprs s'en tre pris une tudiante voile , Le Parisien, mis en ligne 16 fvrier 2015, URL: http://www.leparisien.fr/societe/paris-13-un-enseignant-demis-apres-s-en-etre-pris-a-une-etudiante-voilee-10-02-2015-.4522031php#xtref=https%3A%2F%2Fwww.google.fr%2F
16- جاءت هذه المعلومة في إطار ندوة قام بتنظيمها عالم الاجتماع الفرنسي عبد العلي حاجات بجامعة باريس 10، يوم 16 أكتوبر 2015، لمناقشة الفيلم الفرنسي "لقد فعلوها" (Ils l'ont fait). حيث قام مخرجا الفيلم، سعيد بهيج Said Bahij وماجد إدايخان، Majid Eddaikhane بتأكيد ما يعانيه الفرنسيون من أصل عربي من عنصرية في سوق العمل، فيضطرون لإرسال سير ذاتية لهم بدون اسم، حتى لا تحول هويتهم دون قبولهم.
17- Indira Goris, Fabien Jobard et Ren Lvy, Police et minorits visibles: les contrles d'identit Paris, New York, Open Society Institute, 2009, pp. 25-30.
18- Les Suisses votent massivement l'interdiction de nouveaux minarets, Le Monde, mis en ligne le 29 novembre 2009, URL: http://www.lemonde.fr/europe/article/29/11/2009/les-suisses-se-prononceraient-en-faveur-de-l-interdiction-des-minarets_1273728_.3214html
19- Port du voile: ce que dit la loi, Le Figaro, mis en ligne le 20 octobre 2014, URL: http://www.lefigaro.fr/actualite-france/01016/20/10/2014-20141020ARTFIG00055-port-du-voile-ce-que-dit-la-loi.php
20- بالاستناد إلي العديد من الشهادات التي تقوم بها "مجموعة ضد الإسلاموفوبيا" (Collectif Contre l'Islamophobie en France) بفرنسا. لمزيد من الشهادات التي تم توثيقها فيما يخص قضية الحجاب بفرنسا:
http://www.islamophobie.net/tag/voile
21- Olivier, Truc, En 2005, l'affaire des caricatures Mahomet au Danemark et la solidarit de "Chrlie Hebdo", Le Monde, mis en ligne le 7 janvier 2015, URL: http://www.lemonde.fr/attaque-contre-charlie-hebdo/article/07/01/2015/en-2005-l-affaire-des-caricatures-de-mahomet-au-danemark-et-la-solidarite-de-charlie-hebdo_4551135_.4550668html
22- Stanley Cohen, Folk Devil and Moral Panics. The creation of the mods and rockers, Abingdon, Routledge, 2002
23- Nilufer Gole, Musulmans au quotidien. Une enqure europenne sur les controverses autour de l'islam, Paris, La Dcouverte, 2015.
24- Christopher Allen, Islamophobia, Farmham, Ashgate Publishing, 2010, pp. 25-33.
25- Ramon Grosfoguel, The multiple faces of Islamophobia, Journal of Islamophobia Studies, 1: 1, 2012, pp. 9-33.