الأنهار كائن حي له نبض فيض وغيض خلال حياتها. ضبط هذا النبض شيء عرفه الإنسان من قديم، ومارسه بصور شتي، بعضها سلبي يسكن بعيدا عن جموح الفيض، وقليلها إيجابي بإقامة جسور وسدود كنوع من الجراحة لمصلحة الإنسان، لكنها ضارة بحياة النهر.
وأخيرا، تنبهنا لحقيقة أن المحافظة علي صحة النهر أهم من مكاسب استزراع أرض أو توليد طاقة، هي في وجهة نظر يجب أن تكون نهاية لعصر السدود الكبيرة، حتي برغم الحاجة، لأن تكبيل الأنهار في النهاية يتضمن أبعاد تغيير غير مُدركة بكفاية.
أولا- الصراع علي المياه:
لأنواع معينة من الموارد الطبيعية، أو من نتاج النشاط البشري جيوبوليتيكية خاصة. فكلما كان المورد مركزا في مناطق محدودة، يصبح التنافس عليها حادا بين القوي العالمية وشركاتها الكبري، بينما جيوبوليتيكية الموارد ذات الانتشار في معظم مناطق العالم تصبح هاجسا سياسيا فقط في دول الندرة. كما أن الموارد التي تتناقص أعمارها نتيجة الاستهلاك الجائر تصبح أيضا مجالا لصراعات عالمية بين المنتج والمستهلك، ومجالا للمناورات السياسية بين قوي الاحتكارات المعولمة.
تمثل حقول البترول، والمياه النهرية العذبة طرفي نقيض: فالبترول محدود المكان والزمان، بينما المياه العذبة مورد منتشر علي بقاع كثيرة لا يشكل توترا سياسيا باستثناء حالتين، أولاهما أن يجري النهر في أكثر من دولة، فتصبح أنصبة المياه وحرية الملاحة مثار جدل بين دول المنابع ودول المصب. ثانيتهما في أقاليم الندرة، خاصة بلاد المناطق الجافة التي شابتها من القدم مجالات للصراع أدت إلي غزوات كثيرة للسيطرة علي بلاد المياه الوفيرة في الشرق الأوسط، وهي ما قد تؤدي إلي "حروب مياه"، إذا لم تنجح المفاوضات.
حوض النيل خير تمثيل للحالتين معا بين دول المنابع ومصر خاصة، كدولة المصب في وسط بيئة صحراوية جافة منذ آلاف السنين. الفرات بصورة ما مماثل للنيل، حيث المنابع في جبال تركيا، والعراق دولة مصب، وسوريا دولة ترانزيت مماثلة لدور السودان بين إثيوبيا ومصر. وبرغم ذلك، فقد كانت قراءة الناس الفاعلة للنهر، والمناخ، والتربة الفيضية هي أسس تكوين المهاد الأولي للحضارات العليا القديمة علي ضفاف نيل مصر، وفرات العراق، فاكتسبت حق المستخدم الأول خمسة آلاف سنة، لكنها أصبحت الآن بؤرة مشكلات المياه بحكم تغير الخريطة السياسية، واستقلال دول الأحواض النهرية، واحتياجات سكانها واقتصاداتها، إلي نمط جديد في استخدام مياه الأنهار قد يناقض الحقوق التاريخية لمياه دول المصب.
نعيش الآن موقفا صراعيا بين إثيوبيا ومصر، أي منبع ومصب. تتصدرمصر ميزان القوة بين دول النيل، وقد هدد الرئيس الراحل أنور السادات باستخدام القوة ضد إثيوبيا، لكن ذلك كان في ظل ظروف علاقات قوية بين مصر وأمريكا، وموقف أمريكي معاد للحكومة الماركسية في إثيوبيا آنذاك. التهديد باستخدام القوة الآن غير ممكن، حيث نقف في موقع عكس زمن السادات. فالعلاقة باردة بين مصر والاستراتيجية الأمريكية التي تناور علي جبهات عديدة، منها مساندة إثيوبيا كجزء من ضغوطها علي مصر.
منذ التسعينيات، اتسمت علاقات مصر ودول منابع النيل بتصاعد مخططات سياسية، تتخذ مطالب اقتصادية، بعضها سيكولوجية تصفية خلفيات تاريخية غير ودية في علاقات ماضية، إلي جانب تحالفات خلفية تصعِّب اتخاذ مبادآت عملية تربك حلا سلميا بين أطراف النزاع. فاستخدام إثيوبيا سياسة الأمر الواقع يهدف في الحقيقة إلي جر المشاكل إلي مائدة مفاوضات مطولة للحصول علي أقصي ما يمكن من الفوائد لمصلحة إثيوبيا مع محاولة تغيير موقف السودان إلي موقف الوسيط الأكثر قربا إلي إثيوبيا، مقابل الحصول علي فوائد مائية، وربما هو ما حدث ثنائيا.
الحقيقة الجغرافية أن مسار الأنهار الكبيرة بين المنبع والمصب يمر بدولة أو دول وسيطة يمكن أن نسميها اختصارا دول "ترانزيت" نهرية، ليس بمعني العبور فقط، بل حق الاستفادة من المياه العابرة بصورعدة. لكن غالبا ما يحدث نوع من الصراع المكبوت أو الصريح بين دول الترانزيت والمصب. حدث ذلك حول نهر الفرات بين سوريا (ترانزيت)، والعراق (مصب). وفي حوض النيل، يصح أن نصنف السودان -شمالا وجنوبا- علي أنهما دولتا ترانزيت، بينما يقتصر المصب علي مصر. وربما لو أخذنا بهذا التوصيف، فإن بعض الأمور تصبح أكثر شفافية وأقرب إلي التعامل السياسي الصريح، بدلا من المواقف الغائمة وتصريحات عن علاقات الأشقاء لا تجدي كثيرا في مواقف اتخاذ القرارات السياسية.
ثانيا - حول علاقات مصر وحوض النيل:
بإيجاز، فالمعروف أن الروابط الحياتية دائمة منذ ما قبل فجر التاريخ بين سكان حوض النيل شمالا وجنوبا، فلم تكن هناك مصر ولا غيرها. ولكن منذ التسجيل الكتابي الفرعوني، كانت النوبة، بإطلاق، من أسوان إلي مروي، علي صلات بلغت حد التمصير الثقافي والسياسي في عصري نباتا ومروي. النوبة بأقسام وأسماء مختلفة -واوات، وكووش، ثم مروي التي كانت تسمي في العصر الهلنستي إثيوبيا- كانت تقود إلي علاقات تجارية في جبهة برية عريضة في إقليم أعشاب السفانا من حافات جبال الحبشة إلي دارفور. ومع علاقات التجارة، تنتقل عناصر ومفردات ثقافية وحضارية وعقائدية: فمثلا، انتقلت عناصر الديانة الفرعونية في مصر -مع تعديلات- إلي مجتمعات في الجنوب. وحينما تحولت مصر إلي المسيحية، ثم الإسلام، حدث مثل ذلك لاحقا في السودان النيلي، وأيضا في الحبشة التي انتقلت إلي المسيحية القبطية، ولا تزال كذلك.
وفي العصر الحديث، قويت هذه العلاقات منذ عهدي محمد علي وإسماعيل بالصورة التي كانت سائدة في العصر الإمبريالي. وفي تاريخنا المعاصر، اتسع أفق السياسة المصرية في فترة عبدالناصر ليحتضن حركات استقلال شعوب القارة، وإنشاء منظمة الوحدة الإفريقية 1967 التي تحولت إلي الاتحاد الإفريقي 2002. لكن بدأ انحسار تلك السياسة الإفريقية منذ التسعينيات، فأصبحت مصر الطرف الغائب طوال مشكلات السودان التي انتهت بانفصال الجنوب، ولم يكن لها صوت في مشكلات دارفور، أو مذابح رواندا أو تفكك الصومال، ولا متغيرات إثيوبيا بين الملكية وجمهورية منجستو هيلا مريام الاشتراكية، ولا ما أعقبها من ضغوط حركات تحريرية عديدة عام 1991 بقيادة ميليس زيناوي(1)، وعلاقاتها الودية تجاه إسرائيل أو ضغوطها المتشددة علي معارضيها من العرقيات المتعددة داخل الدولة، بحيث أصبح تاريخ إثيوبيا داكنا في مجالات حقوق الإنسان.
وفي هذا المجال، لا ننسي الدور الاقتصادي السياسي والنفسي للسد العالي، منذ السبعينيات، الذي نأي بمصر عن مشكلات الفيضان العالي والمنخفض، فأحس المسئولون بارتياح كأن النيل جنوب مصر عالم آخر بفيضاناته المدمرة، ومجاعاته المهلكة. وتضاعف هذا الشعور المتباعد بسياسة الانفتاح الساداتي التي أوغلت منذ التسعينيات في علاقات مع بلاد الشمال والغرب، تاركة هامشا ضئيلا باسم الكوميسا مع شرق إفريقيا، لا يكاد له ذكر عملي سوي العنوان(2).
المشكلة القائمة حاليا نابعة من أننا، شعوب النيل، يمكن أن نختلف بين ما تحدونا من رغبات التنمية، كخيار إثيوبي مشروع وحق المياه المشروع أيضا لمصر. كل من الطرفين يسلم بهذه الحقوق، ولكن المشكلة هي كم هو حجم المياه المتاح للتعامل الاقتصادي والسياسي، جنبا إلي جنب، قدر المياه اللازمة لاستمرار جريان نهر صحي لا يتعرض للجفاف موسميا، وكيفية التوافق العقلاني علي توزيع عادل بين المطالب المشروعة. فالنيل، كظاهرة جغرافية، مع مفردات حضارية وثقافية متداخلة، وعلاقات بشرية متأرجحة، إيجابا وسلبا، كلها عناصر من المفترض أن تجمع دول حوض النيل في تنظيم علاقات إيجابية تراعي مصالح التنمية والتقدم معا.
لكن للسياسة الكلمة الأخيرة. ففي الوقت الذي كانت فيه قضية اتفاقية عنتيبي تشغل دول الحوض، كإطار حول حقوق التصرف في مياه النيل، فاجأ ميليس زيناوي العالم، بمن فيهم جمهرة الإثيوبيين، ودول حلفاء عنتيبي، بإعلان البدء في تنفيذ سد الألفية، مخالفا بذلك كل الأعراف والاتفاقيات الدولية حول المياه العذبة. السؤال هو: من أين جاءت قوة اتخاذ هذا القرارالإثيوبي؟ هل كانت الظروف غير المستقرة في مصر عاملا لتقبل الأمر الواقع؟ أم هل كان اعتماده علي تأييد دول المنابع الاستوائية، واتفاقية عنتيبي فقط؟ أم استنادا إلي قوة المفاجأة التي تربك الخصم والحليف معا؟ أم استنادا إلي استراتيجية خارجية أمريكية إسرائيلية؟
وبرغم الاتفاقيات الدولية العديدة بين دول حوض النيل(3)، كبرت أزمة بدون معلومات مؤكدة، بينما الحل الأمثل هو الجلوس معا بمعلومات شفافة، بدلا من التشدد والانفراد بالرأي. وفيما يأتي محاولة لفهم موضوعي لوجهات النظر الإثيوبية بشيء من الإطالة، فالموضوع هو موضوع حياة للجميع.
ثالثا- مجمل حول أوضاع إثيوبيا:
إثيوبيا دولة كبيرة مساحة وسكانا تماثل مساحة وسكان مصر عددا، لكنها تختلف في التشكيل التضاريسي، والمناخي، ومصادر المياه. معمور مصر في مساحته الضيقة حول النيل ليس بحاجة لمزيد من التوصيف. أما إثيوبيا، فهي هضبة عالية يقسمها الأخدود الممتد من شرق إفريقيا إلي خليج عدن والبحر الأحمر، وسطحها المعمور تشكله السهول العالية فوق الهضاب المتمتعة بمناخ موسمي ممطر صيفا بكميات تتراوح بين 700 و2000 ملليمتر، تنصرف إلي مجموعة أحواض نهرية، أكبرها النيل الأزرق، ثم العطبرة والسوباط، وهي روافد النيل الشرقية الأساسية، وفي الجنوب نهر أومو يصب في بحيرة تركانا في كينيا، وأعالي نهري شبللي وجوبا اللذين يتجهان للصومال. وأكثر هذه الأنهار تسير في خوانق طويلة صعبة الاستخدام. أما السهول المنخفضة، فهي، كالجيوب الصغيرة الممتدة من السودان، تمثل أحسن مناطق الاستثمار الحديث في منطقتي جمبيلا علي حدود السودان الجنوبي، وبني شنجول-جوميز علي حدود السودان (وفيها مكان سد النهضة). هذا إلي جانب نهر أواش الذي يجري في الوادي الأخدودي، وعلي حوافه أديس أبابا، وهرر، ودرداوا، وينتهي في صحراء الأفار. لهذا، فالمعمور الإثيوبي يتكون من مزارعين صغار موزعين علي سطوح الهضاب، خاصة منطقة بحيرة تانا، ومدينتي بحر دار، وغندار، والمنطقة الهضبية بين إديس أبابا، وديسي، ومنطقة جوجام داخل الثنية الكبري للنيل الأزرق ومنطقة البحيرات الأخدودية الصغيرة جنوب أديس أبابا حول يرجا ألم، وأخيرا منطقة هرر في الشرق. هذه هي مناطق المجموعتين الكبيرتين: الأمهارا في الشمال حول النيل الأزرق ومنابع العطبرة، والأورومو المنتشرون في قلب النطاق الأوسط الحيوي الإثيوبي. أما الجيوب السهلية علي حدود السودانين، فهي قليلة السكان، وهي لذلك المناطق التي حظيت باستثمارات أجنبية زراعية كبري. باقي الدولة مراع مختلفة هي في الغرب الأكثر مطرا، فضلا عن رعي الأبقار بين قبائل صغيرة، بعضها ممتد من السودان، كالشلك والنوير، بينما مراعي مناطق الشرق الأكثر جفافا تتسم برعي الإبل والأغنام لدي صوماليي أوجادين وقبائل الآفار الممتدين في جيبوتي وجنوب إريتريا.
ثمة اختلاف آخر بين مصر وإثيوبيا، هو أن سكان مصر هوية واحدة ريفية، حضرية، لغوية، وكثافة سكانية علي الأرض ربما هي الأعلي عالميا، وسكان مدن يبلغون نحو 45 من المصريين، بينما يتشكل سكان إثيوبيا من 80 مجموعة غير متجانسة لغويا، واقتصاديا، ودينيا، ولكل مجموعة أوطان شبه محددة. فالأورومو (35 من السكان) يحتلون الوسط والجنوب، ويختص الأمهارا (27) بإقليم شوا والنيل الأزرق، والتيجراي (7) في شمال الهضاب، والصومالي (6) في مثلث الجنوب الشرقي، والآفار (2-3) في المثلث الشرقي، وأمم كثيرة في الجنوب حول نهر أومو كالسيداما (5)، والكافا والجوراج ... إلخ. ويتبع نحو 55 المسيحية (الأرثوذكس 41 والبروتستانت 15)، وينتشر الإسلام بين 35-40 من السكان في شرق البلاد ووسطها. نمط السكن - في مجموعه - قروي زراعي، أو رعوي منتشر علي مساحات كبيرة، ويمثلون 83 من السكان، مقابل 17 فقط هم سكان المدن.
ولأن الجانب الكبير من الإنتاج المحلي موجه للكفاية الذاتية، فالمشتغلون بالزراعة والرعي يتعرضون لمجاعات الجفاف، حيث توقع فيهم ضحايا كبيرة، مثلا كما حدث في جفاف الثمانينيات مات مليون فرد وعاشت ملايين أخري علي برامج الإغاثة والإعاشة الأجنبية. ولحل مشكلة المجاعات، اتخذت حكومات إثيوبيا سياسة تهجير مليونين من سكان المناطق الشمالية، الأكثر عرضة لتقلبات المطر والجفاف، إلي مناطق في الجنوب، خاصة سهول جمبيلا، لكن حدثت مصادمات دامية منذ 2003 مع السكان المقيمين، وكذا في أماكن أخري. ليست المجاعة وحدها مشكلة إثيوبيا الكبري، بل ضحايا الإيدز أصبحوا يمثلون مشكلة خطيرة ترتب عليها نحو مليون طفل يتيم.
مع هذه المشاكل واستمرار نمط الاقتصاد التقليدي، تصبح قيمة الناتج الاجمالي ضعيفة (132 مليار دولار تقدير أمريكي 2013)، ونصيب الفرد متدن (570 دولارا وحسب القوة الشرائيةppp يبلغ 1450 دولارا، وهو اقل من مصر 5680 دولارا، والسودان 2000 دولار)، وبالتالي ترتفع نسبة السكان تحت خط الفقر إلي 45. وبهذه التقديرات، فإن أوضاع إثيوبيا ليست جيدة وتحتاج بإلحاح لتنمية اقتصادية - بشرية معا. سياسة الدولة في منح مساحات كبيرة للإيجار مددا طويلة لمستثمرين أجانب ربما هي حل مؤقت، ولكن تأهيل الناس علي أنشطة أكثر حداثة هو الحل الأوفق، رغم احتياجه إلي وقت أطول لتحقيقه علي الأصول كي يصبح نمط العمل للمستقبل.
ولقلة موارد الطاقة حتي الآن، فقد أصبحت الطاقة الهيدرولوجية المورد الأساسي المتاح(4). تضخمت أفكار هذه الطاقة فوق الاحتياجات المحلية إلي افكار إنتاج وتسويق الطاقة إلي دول الجوار وربما تكون مصر السوق الأكبر لتطورها النسبي عن بقية جيران إثيوبيا. ولا شك في أن عائد بيع الطاقة يصبح عاملا مشجعا علي البدء ببرامج تحديث الدولة، ما لم تتسبب العلاقات المحتدمة بين المجموعات الإثنية في استمرار نمط سيطرة المجموعة الحاكمة، ومعظمها من الأمهارا والتيجري، مما أدي إلي كبت جعل تاريخ حقوق الإنسان في العقدين الأخيرين سيئا.
حوض النيل الأزرق (يسمي "أباي" في إثيوبيا) شديد الأهمية للنيل، لأنه يجلب في المتوسط نحو 70 مليار متر من مياه الفيضان سنويا إلي النيل في السودان ومصر. عند أسوان، تتكون مياه النيل الواردة من: 59 من حوض النيل الأزرق، و13من العطبرة، و14 من السوباط، و14من بحر الجبل الذي يأتي بما ينجو من مياه أعالي النيل بعد مرورها في مستنقعات إقليم السدود. تكفي هذه الأرقام لتوضيح الأهمية القصوي لمياه النيل الأزرق بالنسبة لمصر والسودان معا. إذن، فالتحكم في هذه المياه عن طريق سد النهضة الكبير يصيب مصر، خاصة، بأضرار لا يمكن تجاوزها طوال فترة ملء بحيرة سد النهضة، وربما يمتد بعد ذلك إلي أشكال أخري من التحكم.
وإذا كان هذا السد حقا من حقوق التنمية، فقد جانبه الصواب بعدم الإبلاغ عنه كمشروع للحصول علي موافقة دول المصب، حسب نصوص الاتفاقيات الدولية العديدة. ذلك أنه في الجانب الآخر، تتعرض مصر، خاصة، لمخاطر مائية ليست محسوبة بدقة. وحتي إذا حسبت بدقة، فإنها سوف تؤثر في مجالات أخري في الاقتصاد وفي المجتمع في مصر كالأواني المستطرقة. ومن ثم، فالموضوعية مطلوبة لإسداء الحقوق لأصحابها.
رابعا - سد النهضة الإثيوبي الكبير:
المكان المختارللسد متطرف قرب حدود السودان، لكنه اختير بدهاء، سواء كان تفضيلا إثيوبيا، أو نتيجة استشارة أجنبية من بيوت الخبرة، كان أولها "مكتب الولايات المتحدة للاستصلاح U.S. Bureau of reclamation" الذي قام بمسح شامل للنيل الأزرق بين 1956 إلي 1964، واقترح تقريره 33 مكانا لإنشاء سدود للري، وأخري للكهرباء، أو متعدد الأغراض، وكان أكبرها قرب الحدود السودانية، أي مكان سد النهضة الحالي، وكان يسمي عندئذ "سد الحدود" Border Dam . ربما كان اختيار هذا المكان بالتحديد ردا أمريكيا علي اتفاقية 1959 بين مصر والسودان، وبداية إنشاء السد العالي. السد في هذا المكان يتحكم في كل مائية حوض النيل الأزرق، بما يرفده من شبكته النهرية، فيما عدا نهري الدندر والرهد اللذين يدخلان السودان مباشرة.
كان السد يعرف في البداية باسم مشروع إكسX ، ربما هو اسم كودي لمشروع سري، ثم أعيدت تسميته "سد الألفية"Millennium Dam ، ثم اطلق عليه في أبريل 2011 سد النهضة الإثيوبي الكبير Grand Ethiopian Renaissance Dam (Gerd اختصارا).
مواصفات السد: الكثير من الأرقام الآتية مجرد تقديرات وتخمينات من مصادر مختلفة، حيث إن البيانات الدقيقة غير متوافرة إما لعدم وجودها، أو لأنها طي الكتمان، فهل ستحظي المكاتب الاستشارية الفرنسية والهولندية بالبيانات المطلوبة لكتابة تقرير موضوعي غير منحاز؟
ارتفاع جسم السد 170 مترا (سابقا كان 145مترا) وطوله 1800 متر، وتمتد البحيرة لمسافة 175كم بحجم مياه بين 63 إلي 70 مليار متر مكعب (تقدير سابق 24 مليارا). إنتاج الطاقة من 16 توربين مقسمة علي الجانبين كل منهما يحتوي ثمانية توربينات تنتج كل منها 375 ميجاوات. الطاقة المصممة تبلغ 6000 ميجاوات، لكن خبراء أجانب يشككون في هذه الأرقام ويرجحون أنها 2000 ميجاوات فقط.
التكلفة المعلنة للبناء وتوربينات الطاقة 4.8 مليار دولار أمريكي، منها 1.8 مليار دولار قيمة التوربيات من شركة فرنسية، قيل إن بنوكا صينية مولتها أو ستمولها، وتمول الحكومة المليارات الثلاثة الباقية بسندات تباع للشعب والعاملين في الخارج.
عُهد بناء السد بالأمرالمباشر للشركة الإيطالية ساليني Salini Construttori التي سبق لها بناء سدود كثيرة في إثيوبيا، منها جلجل 1 و2، وسد بيليز قرب بحيرة تانا، بينما تورد "ألستوم Alstom" الفرنسية توربينات فرانسيز للطاقة.
فهل كان اختيارموقع السد مبنيا علي حسابات فنية أم أسس سياسية، بغرض ضغوط سياسية حياتية علي مصر تقوم بها إثيوبيا، أو قد تنفذها بالوكالة عن قوي أخري؟.
اعتراضات فنية وبيئية علي سد النهضة:
تتعرض كل الأنهار التي تجري علي الهضبة الحبشية إلي إطماء بحيرات السدود، نتيجة للتركيب الجيولوجي الصخري كثير الفوالق والانكسارات. هذا الطمي المرسب في قاع البحيرة سرعان ما يقلل حجم حوض التخزين للسد. وكمثال، فإن سد خشم القربة علي نهر العطبرة في السودان فقد 21 من حوض التخزين في نحو عشر سنوات من بنائه إلي جانب التسرب والتبخر، بما يساوي 17 أخري من المياه، وكذلك سد نهر أواش الذي بني 1966 قد قارب الآن نهاية عمره بالإطماء الكامل لحوض التخزين.
شرق إفريقيا من المناطق النشطة زلزاليا مع تكوين الأخدود الإفريقي في إثيوبيا والبحر الأحمر. وخلال القرن العشرين، سجل 16 زلزالا قوتها أكثرمن 6.5 درجة حسب مقياس ريختر. ومعروف أيضا أن بحيرات السدود حين تكتمل تحدث كثيرا من الزلازل مختلفة الدرجات لفترة زمنية محدودة، لثقل كمية المياه المخزنة، وذلك حسب نظرية التوازن الأرضي.
انتقد اصفاو بييني (بجيانا) Asfaw Beyene أستاذ الهندسة الميكانيكية، بجامعة سان دييجو -كاليفورنيا- سد النهضة وحجم الطاقة المنتجة علي أنها مضخمة بشكل كبير فحجم الطاقة المولدة سيكون في حدود 2000 ميجاوات، وليس 6000، لأن القياس بجب أن يكون علي متوسط تصريف النهر علي مدي العام، وليس تصريف أشهر قمة الفيضان الثلاثة التي بنيت علي أساسها التقديرات المبالغة المعلنة(5).
ومنذ شهرين، كتب الخبير نفسه أن سرعة جريان المياه في النيل الأزرق تتراوح حسب قوة الفيضان بين 3000 متر مكعب في الثانية في شهر يوليو، ثم إلي 5000 في أغسطس، وتنخفض الي 2500 في أكتوبر، وإلي 1000 بقية أشهر السنة. ويتابع: نظريا إذا كان المتوسط طول السنة 2350 مترا/ثانية، فإن سبعة توربينات تنتج نحو 3000 ميجاوات. أما إنتاج 6000 ميجا - كما هو معلن - فيحتاج إلي تصريف نهري دائم قدره 4700 متر/ثانية، وهو أمر غير ممكن علي مدي السنة.
المشكلة الثانية التي يثيرها الكاتب نفسه هي أن مدة امتلاء بحيرة السد ليس فقط حول خمس سنوات، بل هي أكثر حسب ارتفاع منسوب التخزين في الوقت نفسه الذي يجب أن تمرر فيه إثيوبيا حجما كبيرا من المياه إلي السودان ومصر.
وأخيرا، يري د. بييني أن إنشاء نظام لتشغيله قرب الحد الأعلي علي الدوام أمر غير متعارف عليه هندسيا خاصة في السدود النهرية التي تتأرجح مائيتها سنويا. ولهذا، فالممكن هو إنتاج كهرباء في حدود 2800 ميجاوات (السد العالي 2100 ميجاوات)، وبالتالي تنخفض تكلفة بناء وتجهيز السد إلي 2.5 مليار دولار.
هذا فضلا عن أن تسرب الماء في الفوالق والانكسارات الكثيرة في هضبة الحبشة يؤدي إلي انزلاقات صخرية كبيرة وصغيرة غير محسوبة، نظرا للسرعة المرغوبة في تنفيذ المشروعات، كأنه سباق محموم، بينما المطلوب نماذج معملية وعملية بالقدر الكافي لضمان أمان السد من التعرض للانجراف. وقد حدث في شمال شرق إيطاليا في أكتوبر 1963 انزلاق صخري علي طول كيلومترين وبسمك 500 متر إلي حوض بحيرة سد فايونت، رافد نهر بيافا، فانقضت المياه فجأة بارتفاع 200 متر فوق السد فدمرت جزأه العلوي، وانقضت أيضا بسرعة هائلة علي مدينة لونجارون وعدة قري مجاورة مؤدية إلي خسائر في الأرواح بلغت أكثر من 2000 شخص، مع خسائر فادحة في الممتلكات تقدر بالمليارات(6). زرت المكان منذ سنوات، فهو يعد متحفا للعبرة من مشاريع متعجلة لا تتوافق مع مكونات البيئة الطبيعية.
معظم السدود التي تمت في حوض نهر أواش، ونهر أومو الأعلي المسمي جيبيGebi ، أو جلجل جيبي حيث نفذ مشروع جيبي 2، وأكثر من نصف جيبي 3، لم تدرس فيها الآثار البيئية علي وجه الدقة، وسوف تؤثر سلبا في نحو نصف مليون من السكان يحتاجون إلي إعادة تأهيل وتوطين. مثلا، مشروعات أواش لزراعة قصب السكر، والقطن، والموز دمرت حياة 20 ألفا من ملاك الأراضي من قبيلة الأفار، حيث نزعت ملكياتهم وأجبروا علي مغادرة أراضيهم الي منطقة قريبة فانسكب الجميع -بكثافة- علي أراضي جماعات أخري، مما أدي إلي نزاعات دامية زادت حدة خلال فترة جفاف السبعينيات وأوائل الثمانينيات، فانتقل الجميع إلي حياة مجاعة قرب مراكز الاعاشة الأجنبية. وفي منطقة بناء سد النهضة، تم فعلا تهجير نحو 20 إلي 30 ألفا من السكان إلي مناطق أخري.
مشروعات جيبي الثلاثة، لو اكتملت، فإنها سوف تؤدي إلي انخفاض منسوب بحيرة تركانا -ومعظمها في كينيا- بين 16 و20 مترا، مما يزيد ملوحتها، ويؤثر سلبا في حياة عشائر قبيلة التركانا الرعوية حول البحيرة وسيترتب عليها مفاوضات مع كينيا حول الأضرار البالغة علي البيئة والسكان. وكذلك نجم عن مخاطرالبيئة الناجمة، عن إنشاء سد جيبي 3، انسحاب وتوقف الهيئات الأجنبية المانحة للمشروع لآثاره الفادحة الطبيعية والبشرية معا، فضلا عن الإشكالية السياسية مع كينيا. لخصت "منظمة الأنهار الدولية"(7) الموضوع في مقال بعنوان "هل تدفع مشروعات إثيوبيا حوض نهر أومو إلي كارثة مائية؟.
معظم عقود السدود مُنحت لشركات محددة، مثل شركة ساليني Salini الإيطالية بالأمر المباشر أكبرها الآن في سد النهضة، وحازت شركة "الصين هايدرو Sinohydro" ثلاثة عقود دون إعلان عروض دولية، وهو ما يعطي انطباعات بوجود فساد.
إثيوبيا لم تحظ بمانحين من الخارج، لأن المشروع لم يعلن دوليا للمناقصة، لأنه يتضمن مشكلات سياسية بين دول الحوض، خاصة بين مصر وإثيوبيا، بعد أن أعلن السودان موافقته علي السد. ولهذا، تمول إثيوبيا المشروع داخليا بإصدار سندات تضمنها الحكومة ويشتريها الأهالي والموظفون "قسرا" حسب رؤية بعض هيئات حقوق الإنسان.
هدف سد النهضة إنتاج طاقة أكبر من الاستهلاك المحلي لعرضها للبيع إلي دول الجوار، لكن دول الجوار كلها نامية وفقيرة ومصادر الطاقة التقليدية تفي باحتياجات نصف سكانها من البادية. إريتريا والصومال في حالة عداء مستمر مع إثيوبيا. وفي إثيوبيا مشاكل تنموية وسياسية كبيرة بين المجموعات الإثنية، خاصة الأورومو وأوجادين. السودان الشمالي والجنوبي في حاجة الي شبكات كهربائية تغطي مساحاتهما الكبيرة. جيبوتي هي للآن الدولة التي تشتري كهرباء من إثيوبيا، مقابل نحو مليون ونصف مليون دولار سنويا. الخلاصة أنه ما لم تكن الطاقة المباعة داخليا رخيصة ومدعومة حكوميا، فإن فائض الكهرباء قد يركد ما لم تزد أنشطة الصناعة والخدمات في المدن، بحيث تستهلك جانبا من الطاقة المنتجة. فحتي الآن، 80 من القوة العاملة الإثيوبية تعمل في الزراعة، أو الرعي التقليدي، وأكثر إنتاجها موجه للكفاية الذاتية، والقليل للسوق المحلي، وهي بذلك لا تخلق سكنا مدنيا، بل آلاف القري الصغيرة في الهضاب والسهول، يسكنها 83 من مجموع السكان، مقابل 17 سكان مدن.
أكدت منظمة الأنهار الدولية في عدة نشرات أن سد النهضة لا يفيد معظم سكان إثيوبيا، كونهم إما صغار مزارعين أو رعاة منتشرين مكانيا علي مساحات واسعة تتطلب إنفاقات ضخمة لمد شبكة طاقة لأسر فقيرة محدودة الدخل. وتصف المنظمة قرارات إنشاء السدود بأنها غير شفافة لا تطرح علي الرأي الخبير، ولا يناقشها المجتمع، وتنفذ بغض النظر عن الإضرار بمواطنين. لهذا، تحث المنظمة المانحين علي عدم الاشتراك في مشروعات لا تراعي التنمية البشرية.
من بين التساؤلات التي تطرحها منظمة الأنهار الدولية الآتي:
أ- قرار البدء بتنفيذ سد النهضة كان مفاجئا للجميع. علي سبيل المثال، كانت النرويج تدرس إنشاء سدين علي النهر بتكليف إثيوبيا. وحين فوجئت بقرار البدء في سد النهضة، توقفت وضاعت جهودها وتكلفة بحوثها هباءً.
ب- بعد أن بدأ العمل في السد، وافقت إثيوبيا علي تشكيل لجنة خبراء مشتركة لدراسة الآثار البيئية والاجتماعية للسد، وسلمت اللجنة تقريرها في يونيو 2013، وجاء في وثيقة المشروع كثير من النواقص والثغرات، وأكدت أن الدراسة المائية المقدمة هي بشكل اولي Basic تحتاج إلي دراسات تفصيلية علي مستوي اليقين لكي ترقي إلي حجم مشروع بهذه الضخامة والأهمية، وكذلك لاحظت ندرة وجود مقاييس لتصريف النيل الأزرق في إثيوبيا، بما يعني معلومات غير كافية.
الأمر الواضح أن إثيوبيا عكست الأوضاع، فبدأت التنفيذ قبل تشكيل اللجنة ووضعت أمام أمر واقع، وعليها أن تتصرف بدءا من هذا الوجود بدلا من دراسة مشروع يمكن رفضه، أو الموافقة عليه، أو تعديله، هذا فضلا عن تصلب إثيوبيا بإعلاتها أنها لن تقبل أي تغيير في مشروع السد.
وهناك أسئلة كثيرة مهمة لم تجد اجابات للآن، منها:
كم يستغرق ملء خزان السد؟ وكيف ستتصرف دول المصب خلال ذلك؟
ما هو عمر الاستفادة من السد عندما يتناقص حجم بحيرة الخزان بالإطماء؟
ما هي المعلومات والمعارف عن التنوع البيئي في منطقة الخزان وبقية النهر؟
ما هي المعلومات عن الزلزلة والحركة السيزمية في المنطقة، وما هي احتمالات تهديد سلامة السد؟ وما هو تاريخ ممارسات إثيوبيا في إجراءات سلامة السدود؟.
مواقفنا التفاوضية .. رؤية تقدمية:
الموضع شائك، وليس له حل سوي المفاوضات لتقليل الأضرار. فمعالجة الموضوع ليست فقط بحكم الحق التاريخي، بل بتأكيد دقائق المسائل الفنية والسياسية بموضوعية، لتصحيح مواقفنا التي تقاعست عن التفاعل الإيجابي مع شركاء النيل. فكثيرا ما كان اعتقادنا أنه لا أحد يستطيع أن يمس حصة مصر من المياه، استنادا إلي نصوص كل الاتفاقيات السابقة، وهو ما أورثنا شعورا داخليا بالتعالي في المفاوضات، فضلا عن شعورنا بأن السد العالي قد أغنانا عن معترك مياه النيل.
من المفترض الالتزام بسريان الاتفاقيات الماضية حتي مع تغير نظم الحكم، حسب مبدأ توارث المعاهدات الذي أقرته اتفاقية فيينا 1978. لكن الدول الإفريقية حديثة الاستقلال رفضت كل الاتفاقيات السابقة في عهد الاستعمار لتبدأ اتفاقيات جديدة.
والواقع أن متغيرات السياسة إلي سياسات الأمر الواقع أصبحت أكثر نجاحا. فكما نجحت إسرائيل باستخدامها سياسة الأمر الواقع، فيمكن أن يكون ذلك فاعلا في المواجهة بين إثيوبيا ومصر. وأخيرا، ربما كانت الأزمة الحالية بين مصر ودول حوض النيل أقل حدة مما هي عليه اليوم، فيما لو كانت مصر قدمت قليلا من التنازلات وكثيرا من تفهم احتياجاتها للتنمية، وأسهمت في شراكة تنمية ومساعدات تقنية واقتصادية مع إثيوبيا علي وجه الخصوص.
لكن ذلك يجب ألا يؤدي إلي موقف تفاوضي مصري لين، كما حدث مثلا في الاجتماع الرابع في الخرطوم بين الدول الثلاث، حيث طلبت مصر تدارس موقف السدود الإضافية الثلاثة كتكملة لسد النهضة، لكن إثيوبيا رفضت طرح الموضوع علي مائدة البحث. السدود الثلاثة هي مندايا، وبيكو أبو، وكارا دودي، وسعة كل منها علي التوالي 40 مليار متر، و42 مليارا، و49 مليارا، بما يعني جملة 131 مليار متر تتحكم مع خزان النهضة (131 + 70) في 200 مليار متر، فهل هذا ممكن؟ احتكار مائية النيل فعلا وعملا يصبح بذلك في قبضة إثيوبيا مع موقف سوداني متغير. مثل هذا الموقف يؤكد احتدام أزمة ليست بعيدة، ما لم تكن المفاوضات والمعلومات شفافة، ولا تجري بالسرية نفسها التي اعتادتها إثيوبيا أخيرا. فالمطلوب إجابة صريحة لتفسير عدم مناقشة السدود الثلاثة. هل يعني أنها مشروعات ملغاة أم مؤجلة؟، ولماذا؟.
تأكيدا، لا تزال معلومات عن تصميم السد إما هي سرية أو ناقصة، وإن كان بعضها قد أشير إليه هنا وهناك في صور غير مترابطة. المطلب الأساسي هو ترابط المعلومات في دراسة جديدة موحدة تتناول المنطقة جيولوجيا، وسيسمولوجيا، وهيدرولوجيا، وتصميم جسم السد وجناحيه، وتفاعله مع المياه وقاع بحيرة السد. بعبارة أخري، مطلوب تقرير "أمان".
هناك تضارب حول حجم انسياب المياه خلف سد النهضة إلي السودان ومصر بين أرقام إثيوبيا وأرقام مصر، مما يبدو منه أن السودان سوف يعطي مياها أكثر للتوسع الزراعي المرغوب علي حساب مصر - وهو مطلب سوداني مستمر يستخدم أيا كانت حكومة الخرطوم - كورقة للحصول علي تأييد داخلي للحكومة. كذلك، لم تظهر معلومات دقيقة حول ترسيب حمولة النهر وكميتها السنوية أمام السد، بمعني ما هو عمر ووظيفة السد لإنتاج الطاقة، مع تزايد حجم حمولته الميتة بالخزان؟.
في البداية، كان موقف مصر صريحا في ضرورة إيقاف العمل في السد إلي نهاية الدراسة الفنية وتقييم آثاره علي مصر. كما أن مصر كانت تري ضرورة تخفيض ارتفاع السد، وتخفيض الطاقة المنتجة من السد. وقد كان هذا هو رأي كثير من الخبراء والفنيين الأجانب بأن الطاقة المعلنة جانبها الصواب، ولن تزيد علي ألفي ميجاوات، خاصة إذا أضفنا رأي بعض العلماء بأن التغير المناخي قد يؤدي إلي تناقص أمطار إثيوبيا بقدر 20، فلماذا إذن وافق المفاوض المصري علي التصميم الحالي للسد بدون الإصرار علي تعديلات معينة، خاصة مشكلات محاولة بيع الطاقة لجيران فقراء، قد تؤدي في رأي الخبراء إلي إيقاف نصف توربينات السد الإثيوبي؟ إذا كانت الأمور هكذا غائمة علي النتائج الاقتصادية لسد النهضة بالنسبة لفائدة شعب إثيوبيا، فإنها أيضا لها آثار سيئة علي مصر، حيث يمكن أن يبور نحو مليون فدان، ومعها نصف مليون أسرة تتعطل خلال نقص المياه مدة خمس سنوات، أو أكثر طوال فترة ملء خزان النهضة.
علي أية حال، فالواضح أنه إذا سارت الأمور التفاوضية إلي اتفاق شامل بين الأطراف الثلاثة، فإن ذلك سوف يدفع المانحين الأجانب علي التقدم بالمساعدات المالية والتقنية في بناء سد النهضة والسدود المكملة فيما بعد. ففي حالة الاتفاق، لا تصبح هناك مشكلة سياسية تمنع المانحين من المشاركة.
لهذا، يجب الحذر الشديد في المفاوضات التي يجب ألا تتطرق إلي شعارات الإخاء، فهي لا تعني شيئا في مفاوضات تمس جذور حياة مصر. الخلاصة، أن موافقة مصر علي السد اليوم تلغي اعتراضها عليه غدا.
النقطة الأخيرة حول القوانين الدولية المنظمة للأنهار الدولية تتلخص في مقررات لجنة القانون الدولية التابعة للأمم المتحدة 1979 International Law Commision، وجمعية القانونيين الدولية 1967 International Law Association، وأحكام مؤتمر هلسنكي 1966، وكلها متفقة علي مبادئ قانون الاستخدام العادل للمياه بين دول الأحواض النهرية بدون أضرار محسوسة أو ملحوظة. وفي هذا المجال، تم استخدام مصطلحات وصفات غامضة غير ملزمة وغير محددة المعني، بل تحتمل تفسيرات مختلفة، مثل Equitable utilization and no appreciable harm بمعني استخدام عادل، بدون ضرر مدرك أو محسوس. وكلمة "عادل" غامضة لا تعني "متساوية"، وقد تُحمل علي مفهوم النسبية كالتناسب مع عدد السكان، أو احتياجات تنموية، أو بمعني منصف أو غير منحاز. وقد عدًّل مصطلح ضرر محسوسappreciable إلي significant ، بمعني ضرر ذي دلالة أو أهمية، وكذلك تبرز كلمةreasonable ، بمعني استخدام مقبول أو مقنع أو معقول للمياه بطريقة تحافظ علي المورد للأجيال التالية. وفي حالة النزاع، فإن الاستخدام "العادل" أو الاستخدام "المقبول" يلغي أحدهما الآخر. مثلا إذا كان قرار التحكيم لمصلحة إثيوبيا "مقبولا"، فإنه يتعارض مع احتياجات مصر، حيث "عدالة" الاستخدام مفقودة. ويتوقف الأمر علي الجدل القانوني بالاستناد إلي مفهوم واحد من المصطلحين.
التحكيم الدولي صعب التنفيذ، فليست هناك أداة تنفيذية، ومن ثم دفع المتقاضين إلي توقيع اتفاق أو يأخذ طرف إنهاء النزاع، سواء بالقوة أو بالأمر الواقع. وعلي أي الأحوال، لا يمكن تعميم حكم ما علي كل الحالات، حيث لكل نهر خصوصية مغايرة، وليس كل نهر مشابها لغيره في تكوينه ونظم جريان مياهه.
الهوامش :
1- من بين حركات التحرير، كانت حركة تحرير إريتريا وأوروميا والتجري ... الخ، وكلها كانت تسعي لإنهاء الحكم الاشتراكي، وإقامة دولة فيدرالية، ولكن سيطرة ميليس زيناوي عليها أدي في النهاية إلي انفصال إريتريا كدولة مستقلة، ولا تزال الدولة الفيدرالية قائمة شكلا وليس موضوعا، فأصبحت أقرب إلي دولة الحزب الواحد.
2- في 2007، كانت قيمة صادرات مصر إلي دول الكوميسا كلها 1.7 مليار جنيه هبطت في 2010 إلي مليار، بينما كانت واردات الكوميسا الي مصر 1.13 مليار جنيه زادت إلي 3.9 مليار في .2010 وباختصار، تجارة الصادرات المصرية للكوميسا تساوي 1.97 من قيمة كل الصادرات المصرية للخارج، وانخفضت إلي 0.7 في 2010 وبالمثل كانت واردت الكوميسا لمصر 0.74 ثم 1.5 في السنوات المذكورة.
3- من أقدمها اتفاقية 1929 بين مصر وبريطانيا، و1959 بين مصر والسودان، و1993 بين مصر وإثيوبيا. ومن أهم بنودها حل المشاكل المائية بواسطة خبراء الدولتين علي أساس القانون الدولي، وتعهد الطرفين بالاستشارة والتعاون في مشاريع ذات مصالح متبادلة للعمل علي زيادة حجم التدفق، والتقليل من خسارة المياه، والسعي إلي تشكيل اطار للتعاون بين دول حوض النيل، وكان آخرها 1999 بالإعلان عن مبادرة حوض النيل لتحقيق المنفعة، وعدم الإضرار بالجميع.
4- الطاقة المولدة حاليا من سدود متعددة نحو 1800 ميجاوات، ويتضمن البرنامج توليد 6000 ميجا من 3 سدود أخري علي الأباي (مندالا، وبيكوابو، وكارادودي). وفي المجموع، يطمح البرنامج إلي توليد نحو 15 ألف ميجاوات، بحيث تصبح عملاقا إفريقيا.
5- “The dam and its hydropower plant are massively over-sized Gerd's available power output, based on the average of river flow throughout the year and the dam height, is about 2000 megawatts, not. 6000 There is little doubt that the system has been designed for a peak flow rate that only happens during the 2-3 months of the rainy season. Targeting near peak or peak flow rate makes no economic sense.' Wikipedia, Grand Ethiopian Renaissance Dam.
6- بني السد عام 1959 لتوليد الكهرباء في وادي نهري ضيق، وهوَّنت شركة الإنشاء من تحفظ الجيولوجيين حول التركيب الصخري القابل للانزلاق، مع تكوين بحيرة السد فحدثت هذه الكارثة. حوكم المسئولون، ورأي النقاد أن المحاكمة كانت لينة، بحسبان أن الحادث من فعل الطبيعة. وبعبارة أخري، إن السد الذي كان يعد درة الإنجاز في شمال إيطاليا لم يعمر أكثر من خمس سنوات، لتجاهل شركة البناء عنصرا بيئيا واحدا.
7- نشأت منظمة الأنهار الدولية التطوعية www.internationalrivers.org - people, water- life 1985، وأصبح لها فروع ودارسون في كل قارات العالم، لمناهضة إنشاء السدود الكبيرة علي الأنهار لما لها من تأثيرات ضارة بصحة الأنهار، وأيكولوجية الحياة الطبيعية والبشرية وشعارها: الناس، والماء، والحياة.