«الشيزوفرينيا» هو مرض انفصام الشخصية حيث يكون هناك شخص واحد يعبر عن نفسه بطريقتين مختلفتين تماما تبعا لظروف ضاغطة بعينها. لست متخصصا فى المرض بالطبع، وإنما استخدمه هنا على قبيل الاستعارة للتسهيل والشرح. والحقيقة أن ما جرنى إليه كان صحف الأسبوع الماضى ـ بما فيها «المصرى اليوم» ـ التى اجتمعت على ما لم تجتمع عليه من قبل وهو أن صفحاتها الأولى جمعت ما بين النقيضين: موضوع ناعم وجميل وودود، وكاتبه مفعم بالتفاؤل والأمل، يتحدث حول تطورات كثيرة إيجابية فى العلاقات المصرية السعودية قوامها قيام المملكة بمساندة الاقتصاد المصرى بقدرات كبيرة تراوحت ما بين الدعم المالى، وشراء الديون، ودعم الجنيه، والاستثمار. كان القدر كافيا وكبيرا إلى الدرجة التى بعثت الدماء فى البورصة المصرية المتراجعة منذ فترة طويلة. باختصار كان المزاج «مصر عادت شمسك الذهبى» كما غنت فيروز.
فى نفس الصفحة الأولى سوف تجد موضوعا مفعما بالشكوك والهواجس، ولا بأس مضافا لها بعض من الاتهامات، حول دعوة الدولة السعودية إلى قيام تحالف إسلامى من أجل القضاء على «داعش» وكافة الحركات الإرهابية الأخرى. لم يكن مفهوما سبب وحيد لهذه الحالة فقد تراوحت ما بين استحالة تواجد مصر فى تحالف واحد مع تركيا وقطر، وكلاهما مصدر الإرهاب كما قيل، والأخطر كان أن التحالف يشق الصف الإسلامى بين السنة والشيعة وكأن الصف كان مصفوفا من قبل. وعند المساء كانت قوائم الاتهامات للسعودية قد وصلت إلى أن «الوهابية»، مدعومة بالمال، صارت هى المصدر الرئيسى لكل الحركات الإرهابية فى العالم. وقبل منتصف الليل كانت الحرب فى اليمن التى فيها مصر والسعودية بالفعل قد باتت حربا فاشلة، أدت إلى تدمير اليمن، نتيجة الرغبة السعودية فى تدمير الشيعة هناك.
حالة «الشيزوفرينيا» هذه بالمناسبة متبادلة أيضا فى السعودية، فالصحف السعودية لا تكف عن أن تنقل عن القادة السعوديين درجة التحالف الاستراتيجى مع مصر، وعندما تصل إلى السعودية لزيارة عمل فإن الحفاوة والكرم لا يكون لهما حدود، وسوف تجد فى كل الأوقات من يقول لك إنه ليس فقط يوجد ٢ مليون مصرى يعيشون فى السعودية، ولكن هناك ٦٠٠ ألف سعودى يعيشون فى مصر. ولكن ما إن تغلق الأبواب حتى تبدأ «الصراحة» و«النقد البناء» الذى تجده أيضا فى مقالات «المثقفين» السعوديين؛ والتى تقدر أن فقر مصر جعلها عبئا على الأمة العربية، وأن الفشل الاقتصادى المصرى يرجع إلى طبيعة النظام التى تجعله غير قادر حقا على تشجيع الاستثمار، والأهم من ذلك كله أن ما كان لمصر من مكانة ثقافية قد ولى وراح، وأن التعلق بأهداب دور ما فى المنطقة لم يعد له أساس موضوعى فى ظل التدهور الحالى الجارى فى مصر. وقبل منتصف الليل سوف يصل انفتاح القلوب إلى أن مصر تأخذ ولا تعطى، وهى لم تقدم إلا القليل للحرب فى اليمن، ولا شىء للحرب ضد داعش، ومن ثم فإن الاعتماد العربى على العسكرية المصرية لا يوجد ما يبرره فى ظل انشغال مصر بحربها الخاصة مع الإرهاب. وبعدها تأتى الضربة القضية أن جذور الإرهاب فى المنطقة تعود إلى مصر التى جاءت منها مصائب الإخوان المسلمين لكى ينتشر سرطانها وتخلفها إلى العالمين العربى والإسلامى، بل العالم كله.
لاحظ هنا أن حالة الانتقال من الحميمية والعلاقة الإستراتجية إلى الشك والتوجس وتوجيه الاتهامات يقوم على أربعة أنواع من التفكير السقيم: أولهما السكوت على كل ما حققته العلاقة الاستراتيجية بين البلدين من أول تعاونهما فى دحر حلف بغداد فى الخمسينيات (زمن عبدالناصر) إلى ما بعد هزيمة يونيو وما أعقبها من حرب أكتوبر ١٩٧٣ (زمن عبدالناصر والسادات) إلى حرب تحرير الكويت وعملية السلام العربية الإسرائيلية (زمن مبارك)، والتعامل مع نتائج الربيع العربى الخاصة بهيمنة حركات الإخوان المسلمين على الدول التى جرت فيها الثورات بدءا من مصر التى كانت فيها أول الهزائم الصريحة لجماعة الإخوان.
وثانيها تجاهل حقيقة أن كلا من مصر والسعودية دولتان هما فى النهاية خلاصة لتاريخ خاص بهما، وأوضاع اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية تنتمى لهما، ولا يمكن لمصر أن تطلب من السعودية أن تكون صورة لها؛ كما أنه لا يمكن للسعودية أن تطلب من مصر أن تكون مرآة لها. وببساطة فإن خلاصة ذلك كله فى البلدين هو الحالة المصرية والسعودية التى تواجهنا اليوم. فمن المؤسف أن تكون مصر هى أصل الإرهاب لأنها انتجت الإخوان، بينما كانت هى الدولة التى أطاحت بهم وحرمتهم من قاعدة كانت ستتنافس مع «داعش» على تدمير الإسلام والعالم الإسلامى. ومن المدهش أن المراجعين للوهابية فى مصر قالوا ما قالوه بينما كانت تجرى أول انتخابات فى المملكة فاز فيها ٢٠ من النساء بعد ترشيح وانتخابات. فمنذ متى والجماعة الوهابية بسلفيتها ومحافظتها المعروفة باتت تؤمن بالانتخابات ومشاركة النساء؛ وقبل ذلك تعليمهم، وقبل ذلك كله منح المواطنين حق الاستماع إلى الراديو ومشاهدة التليفزيون والآن استعمال الكمبيوتر والتابليت والتليفون المحمول. ببساطة فإن واقع «الوهابية» يتغير وبسرعة، وأن التفسير «النصى» قد لا يكون ملائما لمقتضى الحال.
وثالثها، وهو مفجع، أن هناك دوما سكوتا عن الحق والحقائق فيما يتعلق بما يجرى بالفعل بين البلدين. فهناك تحالف جار بالفعل فيما يتعلق بالحرب فى اليمن، وفى حدود العلم فإن مصر قدمت للحرب بقدر ما طلبت السعودية وهو ما كان متوائما مع مصالحها المباشرة فى مضيق باب المندب. وهو تحالف لا يقوم بحال على تمزيق اليمن، أو الاستجابة لرغبة سعودية توسعية، ولكن لأن هناك حقيقة تغيب فى كثير من أحاديث الليل أن الحرب بدأت ليس فقط بعد استيلاء الحوثيين على صنعاء العاصمة، بل وعلى عدن العاصمة الثانية أيضا. كان التدمير لليمن قد بدأ منذ واتاها الربيع، ولكنه تحول إلى مذبحة مع استغلال إيران، والقاعدة، للضعف اليمنى ومن ثم اندفع الحوثيون لإقامة مملكتهم الخاصة. الحديث هنا عن ميول لشن حروب شيعية سنية من قبل السعودية التى لها علاقات دبلوماسية مع إيران، ومصر التى ليس لها علاقات دبلوماسية مع طهران، تتجاوز حقيقة أن إيران هى دولة ثيوقراطية ليس بحكم الدين أو المرجعية الدينية فقط وإنما بحكم الملالى المباشر.
ورابعها أن الحديث من منطلق التنافس على القيادة الإقليمية، والذعر لدى مثقفين فى المملكة من عودة «الناصرية»، والفزع لدى مثقفين فى مصر من «الحقبة» السعودية، لا يعبر بأى معنى عن الواقع الحالى فى العالم العربى وبالتأكيد فى الشرق الأوسط. فما هو الدور القيادى الممكن وسط دول ممزقة وفاشلة وتدمى وتنزف وعلى الأغلب فقيرة، وتحيط به إيران وتركيا وإسرائيل، وتتدخل فى وسطها كل الدول الكبرى فى العالم. فما هو الدور الممكن انتزاعه وسط هذه الكواسر بينما المصائب تحل بنا من كل صوب؛ اللهم إلا إذا كانت هناك شراكة إستراتيجية حقيقية بين القاهرة والرياض؟
العجيب فى الأمر أنه لا أحد فى القاهرة أو الرياض أخذ موضوع «الحلف الإسلامى» بالجدية التى يستحقها سواء بالقبول أو بالرفض. ولأسباب غير معروفة فإن كافة التساؤلات التى ثارت بعد الإعلان كان ينبغى توقعها سواء كانت من الدول التى وردت أسماؤها ـ بما فيها مصرـ فى قائمة التحالف وأنكرت ـ مثل باكستان ـ أنه جرى التشاور معها. وكذلك الحال التساؤلات الخاصة بالقوة العربية المشتركة التى قيل على سبيل الشرح إنها سوف تكون جيشا عربيا دائما!. وبالتأكيد فإن هناك تساؤلات ومؤاخذات وملاحظات أخرى، وربما كانت هناك حاجة كبرى لدى القاهرة والرياض لنقاش استراتيجى جاد، ليس فقط للسير سويا فى اتجاه تحقيق أهداف استراتيجية كبرى مشتركة، وإنما أيضا للتقليل من فجوة «الشيزوفرينيا» القائمة بين مثقفى البلدين.
-----------------------------------
* نقلا عن المصري اليوم، 21-12-2015.