من لا يعرف التاريخ لا يفهم السياسة، ومن لا يستوعب الثقافات لا يعرف الحضارات، ورصد الاختلافات لا يغني عن فهم التوافقات، وأي طغيانٍ لجانبٍ على آخر في كل هذه الأبعاد يورث الخطل والخطأ والخطيئة: الخطل في النصوص، والخطأ في التفسير، والخطيئة في النتيجة، خطل النصوص أن تكون غير محكمةٍ وغير واضحةٍ، وخطل التفسير أن تجمح إمكانيات التفسير لكل ما هو بعيدٌ وشاذٌ، وخطيئة النتيجة أن تكون مفتوحةً لكل التقلبات والتغيرات.
ما لا يعلمه الكثيرون حول العالم هو أن دول الخليج العربي شبّت عن الطوق، وباتت دولاً تتعامل في سياساتها الدولية والإقليمية والداخلية وفق أسسٍ علميةٍ حديثةٍ في علوم السياسة والإدارة والتنمية، وفي آليات القيادة والتأثير والإنجاز، وهي تقرأ المشاهد الكبرى والصغرى بالكثير من الأناة والتؤدة وإن بان صدى بعضها مجلجلاً وبالغ التأثير.
الاتفاق يظل مفتوحاً
على الرغم من كل الجهود المبذولة غربياً وإيرانياً فلم يزل ملف «الاتفاق النووي» مفتوحاً للقراءة وللتفسير وللنتائج، أما القراءة فهي مفتوحة لفهم كثيرٍ من السياسات الدولية وتوجهات إداراتها، وأما التفسير فهو مفتوح لفهم توازنات القوى بين حالتي الصعود والهبوط الدوليين واستيعاب أحوال الصراعات الإقليمية، وأما النتائج فهي في فهم تزايد الصراعات وتزايد الحروب، التي يتوجب الوعي بها جميعاً ووضعها في بوتقةٍ تجمعها بين الماضي والحاضر والمستقبل، ليس عبر الاستجابة فحسب بل عبر الخلق والإيجاد.
إن إمكانيات التأثير على الاتفاق لا تزال ممكنةً عبر طرقٍ شتى، ولدى دول الخليج العربي مخاوف مستحقة يجب أن تدخل في صلب الاتفاق، فالطموحات الإمبراطورية التوسعية للجمهورية الإسلامية في إيران، يُراد لها أن تتم على حساب مصالح دول الخليج والدول العربية، والإيديولوجيا الإيرانية التي تخلط الدين بالسياسة، والتي تمثل النسخة الشيعية من فكر وخطاب حركات الإسلام السياسي تحت مسمّى «الثورة الإسلامية» غير قابلة للعيش كدولة، وإن دعم الإرهاب وتنظيماته سنياً وشيعياً لن يستطيع العالم السكوت عنه طويلاً، وإنْ اختارت بعض دوله غض الطرف مؤقتاً، وخلايا التجسس والإرهاب التي يتم الكشف عنها مراراً وتكراراً في بعض الدول الخليجية، والميليشيات الشيعية من «حزب الله» اللبناني إلى حركة «الحوثي» في اليمن إلى الكتائب الشيعية في العراق، كلها حركات إرهابية شيعية يجب أن تقف على صف واحد مع حركات الإرهاب السُنية كتنظيم «القاعدة» وتنظيم «داعش» في التصنيف والنبذ والإقصاء والتشهير.
«استقرار الفوضى»
إن إيران ليست كوريا الشمالية، وليست الهند، بل ليست باكستان، إنها دولة لم تجد طريقاً للتخلي عما تسميه «الثورة الإسلامية» وهي ترى وجودها واستمرارها ومستقبلها ملازماً لخلق «استقرار الفوضى» في المنطقة، وهي دولةٌ طائفيةٌ بنص دستورها، وعنصرية تجاه أقلياتها، واقتصادها شبه منهار، ونخبتها الدينية تحكم البلاد بالحديد والنار، وهي نموذجٌ للديكتاتورية المقدسة التي تجمع السيف والمصحف كما كان يقول عبد الرحمن الكواكبي من قبل، وهي أقرب لنموذج الكنيسة الغربية في العصور الوسطى في أوروبا إبّان تحكم رجال الدين في رجال السياسة.
إن ما يثبته التاريخ وتنطق به السياسة هو أن الاتفاقات السيئة لا تلغي المشاكل بل تمنحها الوقت لتتضخم وتصبح أكبر وأكثر تعقيداً، وهذا شأن الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية، بحيث يمنح الاتفاق إيران عشر سنواتٍ أو خمس عشرة سنةً لصناعة القنبلة النووية، ومخطئ من يظن أن ذلك لن يفتح باباً واسعاً لسباقٍ شرسٍ للتسلح النووي في المنطقة، وهو ما سيزيد من إشكاليات المنطقة وصراعاتها وسيخل بالتوازنات التي بدأت تختل بالفعل.
تعلم دول العالم الكبرى، والدول النووية منها تحديداً أن السلاح النووي هو سلاح ردع وليس سلاح هجومٍ بما فيها كوريا الشمالية، ولكن إيران لا تعلم ذلك ولا تريده، فهي تريده سلاح هجومٍ وتدميرٍ وتوسعٍ، والحروب العالمية كما ينبئ التاريخ تنشأ من مستصغر الشرر لتحصد ملايين الأبرياء وتفسد الأرض وتلوث السماء كما تتحدث الخبرة البشرية، ولن تخضع الدول العربية لا قياداتها ولا شعوبها لغزوٍ فارسي جديد وإن لبس مسوح التشيع ورفع شعارات ثورية بان كذبها واتضح زيفها في أكثر من مكان.
لدى دول الخليج كافة الإمكانيات لمواجهة التحدي الإيراني لو أرادت أو اختارت مواكبة إيران في تحدياتها التي تطرحها، اقتصادياً وسياسياً وواقعياً وعملياً، فإيران ليست دولة صلدة كما تحب الدعاية الإيرانية أن تصوّرها، بل فيها الكثير من الاختلافات والتناقضات ليس كشعب فحسب، بل في نظامها السياسي نفسه، وفي قواتها المسلحة، وفي قواتها الأمنية التي تم توسيعها وتعديدها بعد ما عرف بـ «الثورة الخضراء» 2009.
صراع بين متشددين
ليس في إيران إصلاحيون بعد، والصراع القائم اليوم هو بين المتشددين والأكثر تشدداً وكله يدور تحت مظلة المرشد والسقف الذي يسمح به ويمنحه لهذا الطرف أو ذاك، ولكن يوجد إصلاحيون إيرانيون يعيشون في الخارج وتضمهم المنافي منذ علّق الخميني المشانق على معدات البناء الثقيلة وصار يصلب مواطنيه في الشوارع، يوجدون في الخارج أفراداً أو على شكل تجمعاتٍ تفتقر للدعم والتنظيم وأفضل العاملين بالخارج هي مريم رجوي التي استطاعت مؤخراً حشد تجمع كبير في فرنسا لإعلان معارضة الدولة الثيوقراطية الخمينية، فمعارضة الأحواز العرب لم تزل مشتتة وضعيفة التأثير إعلامياً فضلاً عن غيرها من الأقليات أو المعارضة التي تحتاج لجهودٍ كبرى وبخاصةٍ في الإعلام لإسماع صوتها في الداخل الإيراني وفي الإقليم وفي الدول الغربية ودول العالم الكبرى، لأن لدى هؤلاء الإصلاحيين الكثير مما يمكن أن يطرحوه حول النظام والشعب والفساد والمستقبل.
كما أن إيران محاطةٌ بعداء تاريخي مع دول الجوار، فلدى إيران أقليات عابرة للحدود في كل اتجاه، فلديها مثلاً، البلوش الذين يمتدون إلى باكستان ودول الخليج، ولديها الأحواز العرب، ولديها الكرد، ولديها أقليات تتبع دول آسيا الوسطى من الآذاريين وغيرهم، ولديها أفغانستان، وكلها ملفاتٌ قابلة للتحريك والتأثير.
إدارة أوباما انسحابية وانعزالية
بعد مضي أشهر على إعلانه إلا أن الغموض لم يزل يكتنف «الاتفاق النووي» بين الدول الغربية وإيران، فنصوصه وملاحقه لم تترجم بعد، أو ربما ترجمت ولكنها لم تنشر، وهي نصوص مهمة للاطلاع على تفاصيلها ومحاورها وشروطها وآلياتها، ولكن ربما لا يحتاج المراقب لتلك النصوص ليعلم أن المرحلة التاريخية التي نمر بها هي مرحلة حرجة وحساسة، وأن رؤية وطموحات الإدارة الأهم في العالم وهي إدارة الرئيس أوباما تتسم بسمات ثلاث: فهي ضد أي تدخل في أي منطقة من العالم بوصفها إدارةً انسحابية وانعزاليةً، تنتمي لتاريخ قديم لدى الولايات المتحدة الأميركية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن لذلك استثناء يكمن فيما يكون ضد مصالح الدول العربية، حيث تدخلت أميركا في مصر إبان ما كان يعرف بالربيع العربي، وهددت بالتدخل عند نزع حكم «الإخوان المسلمين»، ومثله موقفها من الاضطرابات في مملكة البحرين، وهي ضد أي مواجهة مع روسيا، كما أنها ضد أي مواجهة فعلية ضد تنظيم إرهابي مثل «داعش»، ومن يستمع لخطب الرئيس أوباما يعلم أنه غير جاد في مواجهة تنظيمات الإرهاب وليس مستعداً لمواجهة التهديدات الدولية، ومن آخرها كلمته بعد أحداث كاليفورنيا، والتي لم يتذكر فيها أن ثمة سابقة في أميركا وهي تجنيد «أنور العولقي» لشخص يدعى «حسن مالك» قتل فيها العديد من الجنود الأميركيين.
تخاذل دولي
من المعيب أن يكون قائد العالم جباناً ومتخاذلاً، ولكن عملياً فإن ذلك يخلق فراغاً سياسياً يجب أن يملأ، كما يخلق سياسيات جديدة تسعى لفرض الهيبة وبسط الهيمنة ونشر النفوذ وقبل هذا كله حماية المصالح، وقد أبرز هذا أمرين: الأول، سياسات جديدة كلياً لدول مناطق النزاع، والثاني، خلل في التحالفات، ونزوع إلى القوة، وتصعيد للصراعات.
يفكر بوتين كما فكر بوش من قبل، وذلك أن مواجهة الإرهاب في منابعه أفضل من انتظار وصوله، ويفكر أوباما أن ترك الإرهاب وعدم مواجهته حتى يواجهه المعنيون به هو الأفضل، وبوتين لا يعرف سوى الإرهاب السُني، ولذلك سيفشل، وأوباما لا يعرف شيئاً عن خطر الإرهاب أو لا يريد ذلك، لأنه معتقد بوجهة نظر ترى أن الإسلام السياسي وحركاته هي الأفضل لقيادة المنطقة، وهي الحل وليست المشكلة، ولذلك سيفشل، وسيواجه الإرهاب مجدداً وما العملية الإرهابية في كاليفورنيا مؤخراً إلا شاهد على الطريق.
لطالما تحدث الكتاب الغربيون الكبار عن مشكلات المنطقة وكيف يتناولونها، ولكنهم كما يصيبون كثيراً في تقديم العديد من الرؤى لبلدانهم إلا أنهم يخطئون في قراءتهم لصراعات المنطقة وطبيعتها وتركيبتها، وما ينبغي أن تفعل وما يفترض أن تترك، لأن كثيراً منهم ببساطة غرباء عنها، ولا يعرفونها إلا لماماً، من خلال كتابات بعض المستشرقين الأفذاذ، أو الأقل درجة، الذين يقرأون لبعضهم شيئاً مما يكتب ثم يبنون الصورة التي يوظفونها في أبحاثهم، والرؤى الاستراتيجية التي يرسمون، ومن هنا فإن صناعة العقول المفكرة في المنطقة ورعايتها وتطويرها مهمة جلّى والحاجة لها ملحة والاهتمام بها ضرورة، كما أن ترك الساحة الإعلامية والثقافية والخيرية والأكاديمية الغربية دون أي تأثيرٍ هو خطأ آخر.
في انتظار رئيس صارم
ولكن، مستقبلاً هل يمكن للخيار الإيراني أن ينجح؟ أم أن مصيره الفشل؟ في محاولة الإجابة فإن إيران ستنجح إلى حد ما، ولكن الفشل سيكون مصيرها، فهي تراهن على ملفات عدة، منها: التخاذل الغربي، ولكن المستقبل ينبئ برئيس صارم لأميركا وهو ما سيغير كثيراً في الولايات المتحدة وفي التوازنات الدولية، وكذلك الاستقواء بالروس في المنطقة، ولكن هل روسيا قادرة على الصمود في مواجهة الغرب؟ وهل اقتصادها قادر على الصمود فترة طويلة دون التفاهم مع الدول العربية؟ أم أنها استغلت اللحظة التاريخية وستحاول إنهاءها بأسرع وقت والمحافظة على النفوذ الدولي الجديد الذي اكتسبته؟
خطر على العالم
لا يجب الخلط بين الملفات، فإيران النووية لن تكون خطراً على دول الخليج فحسب، بل ستكون خطراً على العالم بأسره، وصواريخها الباليستية تستطيع أن تضرب بكّين، وأطراف موسكو، وخلاياها النائمة قادرة على الضرب في أي مكان، لأن من يجد ثمرة الإرهاب دون رادعٍ، يستمرئ استخدامه، وهي فعلت ذلك من قبل ومن بعد، ويكفي أي جرد حساب صغير لجرائم حزب الله اللبناني لكشف ذلك، أو جرائم القاعدة لإيضاحه. ولكن ما الحل؟ وكيف يجب التصرف؟ وما هي السبل لمواجهة تحد بهذا الحجم؟ الحلول كثيرة ومتعددة، سبقت الإشارة لبعضها أعلاه، ولكنها لتبلغ مداه تحتاج بذلاً وإحكاماً يليق بها، وهنا يجب استحضار أن المشاريع في المنطقة ثلاثة: المشروع الإيراني الذي يعتمد الطائفية، والمشروع التركي الذي يعتمد الأصولية، والمشروع العربي الذي يعتمد الاعتدال. ختاماً، فإن المشروع الذي يمتلك الوعي المتقدم والكافي سيجد طريقه للحل، ولرسم النهايات السعيدة، وحماية السيادة ورعاية المصالح والتأثير على التوازنات الدولية والإقليمية والظفر بالنصر.
-------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، 14-12-2015.