لو مددنا يدنا إلى الخوف الذي يوحّد البشرية؛ لوجدنا ملامح خوف أعمق من قرارات قيامية قد ترتكبها جماعات إرهابية، ما عادت تضبطها دول. تسقط الحروب التقليدية لمصلحة التفجيرات في عواصم العالم، وآخرها باريس وتسهّل التكنولوجيا كمساعدة على تحويل الأسلحة النووية إلى تقليدية. لقد غابت الحسابات التقليدية التي كانت ترجّح نتائج النصر على أكلاف الحروب إذ كان الضعيف يقاتل بشراسة عنفية فقط، لمضاعفة خسائر عدوه الأقوى، على أمل تحقيق خلل معنوي في معادلات الحروب.
وحجبت الكوارث النووية بعد هيروشيما العنف وقيّدته تحقيقاً لمبدأ التوازن في القوة الذرية الذي أرسته الدول الكبرى. وكانت التحالفات ومازالت تقام بهدف إشاعة الرعب عبر مضاعفة القوة وإظهار التماسك والتعاضد الدوليين لحسم النصر وتبرير قصف المجموعات الإرهابية، التي لطالما كانت تحلم باختراق عواصم العالم بإرهابها.
الآن، تنسف هواجس «المشاعية النووية» كلّ المعادلات بعد نسف الطائرة الروسية، ونسف الاستقرار الأوروبي من تفجيرات باريس، مروراً ببيروت. فالعالم المتغاضي عن مجازر التفجيرات العشوائية والمنافع والانتصارات والقتل الأعمى يتلفّع بالخوف من أن تكون بعض التنظيمات الإرهابية قد حظيت بفتات السلاح النووي أو الكيميائي، مهما كان ضئيلاً بما يهدّد من نسف تاريخ التوازن النووي، وأدبياته وقوانينه وتفاهماته بعد الحرب العالمية الثانية.
نعم.. تجاوزت «ثقافة» العنف كلّ ما يمكن أن تحمله مشاهد العنف كما آلفناها سواء في بلادنا أو حتّى عندما تخرق الحدود نحو عواصم الغرب. وسقطت معاني الربح والخسارة لدى شبابٍ وقاصرين مودَعين في مدارس القتل الداعشية، وموعودين بالجنة والعقائد القاطعة في التخريب العارم الذي يحقق غبطتهم بعدما ينقعون في شهوة الموت، ملفوفين بقشرة الدين. ظواهر لا يمكن فهمها أو قياسها أو تعليلها أو حلّها لأنّ العنف يجرّ العنف والمشهد يأكل المشهد التالي المشابه، أو الأعنف إلى درجة النسيان السريع والاعتياد، وربّما الإدمان أو إشاحة البصر كليّاً عن دموية المشاهد وقساوتها إلى مستوى من تحقيق اللذة المرضية، والفصام الاجتماعي الأعمى عمّا يدور، خصوصاً عندما يصبح العنف هوية أجيال محلية أو مستوردة ومصنّعة تحلم بالركام.
المقاربات الإعلامية لما حصل في باريس من ردود أفعال وتحليلات كانت مشبعة بالعقلانية خلافاً للمقاربات اللبنانية المشبعة بالعاطفية.
كلاهما يسعد الإرهابيين. الصور القوية والأشلاء، كما يسعدهم تقاذف المسؤوليات همساً أو جهاراً بين مسؤولي دول الغرب وجدل الجامعيين والخبراء والتحليلات المتناقضة، لكن ذلك لن يثنيهم أو يدفعهم إلى التغاضي عن مدى استغراق الغرب تاريخياً في ازدواجية المعايير في النظرة إلى الدماء، وإعلائه شأن الاقتصاد والنفعية على كلّ الكوارث، والاستثمار في الدين وحشد الدبلوماسيين والطائرات والأساطيل الدبلوماسية؛ بهدف المزيد من التدمير والتفتيت، بما يتجاوز بكثير الحروب التقليدية والاستباقية.
إنّ الحروب على الإرهابيين جاءت متأخرة بعدما حمّست ووحّدت الكثير من شباب المسلمين حيال الغرب، بالقدر الذي جزّأتهم وحفرت بينهم الخنادق والقبور السريعة في بلادهم. صحيح أنّ الرعب يؤطّرهم، كما صار واضحاً، لكنّه سهّل من مصالحتهم مع الموت بما يتحدّى بكثير القدرات والغارات الجويّة والبحرية والبريّة العسكرية للدول والتحالفات، مهما عظمت أو مطّت استراتيجياتها الطموحة.
سؤال: كيف سيتعامل، إذن، مع من يرتدي كفنه فوق التراب وتحته؟
يستحيل الجواب عن السؤال. قد يعيدنا الأمر إلى (عبسة قابيل) في وجه شقيقه هابيل مظهراً الإشارة البكر لغريزة العنف، ولكنّه قد يحطّ بنا في ما يتجاوز عدد الضحايا منذ فلسطين حتى سوريا، بما يتجاوز أكلاف الحرب العالمية. يحطّ بنا ربّما في مخاطر الأسلحة المحظورة دولياً بعدما فتحت أبواب جهنم عليها عبر العولمة التي حاول بعض العرب مناهضتها بما أسموه العوربة! وأكتفي هنا بثلاثة أبواب:
1- كيف تصنع قنبلة ومشتقاتها؛ هو الباب الأول المتيسر للجميع في قلب الرفاهية التي حقّقتها العولمة في إظهار السعادة والوفرة في المجتمعات التي صنّعت التكنولوجيا، بينما لا يرى الآخرون سوى بؤسهم والصور الخيالية فوق الشاشات. فجهاز الآي باد مثلاً يشابه اللوح الحجري الذي كان يستعمله التلاميذ للتعلّم تحت السنديانة أي قبل عصر المدارس، (وقد نجده اليوم في الأرياف العربية والإسلامية)، لكنّه يعلّم أيضاً كيفية اقتناء السلاح وصناعة القنابل والمتفجرات، ويجعلك تستطلع ساحات العالم وشوارعه.
أبرزت الرفاهية البعيدة المنال إذن وجهها المحبط والقبيح لمجموعات كبرى من الشعوب وشرائح المقيمين في الجوع والأمراض والأميّة والظلم والقهر والبطالة والسجون وكأنّها عناوين الحياة الطبيعية، لكنّ شيوع الصور الجميلة الخادعة المتناقضة كانت تراكم الحقد واليأس على من حولها مثل العائلة والأنظمة من ناحية، كما على هذا الغرب القاسي الذي يبرق ويرعد أينما وحيثما يشاء. كانت النتيجة أنّ تلك الرفاهية الوهمية أخفقت في تحقيق الأسرة الإنسانية المتآلفة بمعظم شعاراتها البرّاقة.
2- التواصل هو الباب الثاني الذي يتجاوز العقل بين أهل الكوكب من مختلف الطبقات، وهو بمتناول الجميع بالطبع. الغرب الذي فتح الفضاء للبشرية لم يفتحه بهدف شعارات التنمية والتطور والرحمة والحرية والمساواة والديمقراطية، بل أبرز وجهاً بوليسياً شرساً يكاد يطبق على أنفاس شعوب العالم الآخر عن طريق تخزين كتاباتهم وصورهم وحركاتهم والمعلومات الهائلة والدقيقة حولهم، واسترجاع هذه الأمور كلّها بكبسة زر بسيطة لترصدهم وملاحقتهم ومحاكمتهم. من هذا الباب نفذ مهمشو العالم لتعلّم استراتيجيات غسل الأدمغة وتلقين العالم دروساً حاقدة قاسية، خصوصاً عندما شعروا بأنهم وقعوا في مصائد الغرب ؛وقوداً للتدمير والتخريب.
3- تزامن فتح هذين البابين على مصراعيهما منذ سقوط البرجين بفتح بلاد العرب والمسلمين عن طريق تشريع أسباب الخوف بين أبناء الوطن الواحد، وبين الوطن والوطن الآخر، تسهيلاً لفتح بلاد العرب أسواقاً متعطشة للسلاح حيث نهب الثروات والانهيارات والمذابح. منذ دعسة الرانجر الأولى في العراق، صار الخوف هو الذي يوحّد المسلمين في الضفة الأخرى من الكوكب. وعندما يتراكم الخوف مع تراكم الأسلحة يسهل التنابذ وتقوى المكايدة وتنبش سلبيات التاريخ، وتصبح الحروب، كما كانت منذ بدايات التاريخ، الملاذ الضروري والأخير الذي يفتح الأبواب كلّها تحقيقاً للعنف.
أسقطت العولمة، إذن، الحدود بين الدول والقارات والثقافات وأشعلت الحروب وأيقظت الأحقاد ثم أقفلت الحدود في وجوه الهائمين الناجين من المحارق المتنقلة في عواصم العرب، بعدما جعلت الكثير من الشعوب الأخرى تتلمّس بأنّ ما تراه وتسمعه ليس سوى أوهام تقارب الأساطير، وبأنّ هناك فجوة ضخمة تصل حتّى قاع الأرض بين ما يعرض أمامها وبين الواقع الذي تعيشه. ويظهر العنوان: داعش قسّمت العرب ووحّدت العالم.
----------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 10-12-2015.