يمثل العراق نقطة ارتكاز أساسية في الاستراتيجيتين الأميركية والإيرانية في المنطقة، ويعتبره صُنَّاع القرار في البلدين أولوية في أي ترتيبات أمنية وسياسية إقليمية، تحدد موازين القوى وحجم الأدوار. الوضع هناك اليوم، يتجه نحو إمساك واشنطن بزمام الأمور. فالعبادي ينحاز لواشنطن، والأخيرة تضع خطوطاً حمراً في الميدان، تحدد المدى المسموح به لتقدم «الحشد الشعبي» ضد «داعش»، وتضغط على السلطة العراقية لمنعها من تفعيل علاقاتها مع إيران وروسيا. في المقابل، هل بإمكان طهران التعايش مع هذا الوضع؟ وهل هي قادرة على استعادة المبادرة وتحجيم نفوذ الأميركيين؟ الصراع في العراق ليس محصوراً في مواجهة «داعش»، وليس محكوماً بالتطورات الداخلية. فأمن أي من المحورين وحماية مصالحه، ليس ممكناً ولا مضموناً في المنطقة، إلا بالسيطرة على العراق وسوريا معاً.
التطورات العراقية تحكم الاستراتيجية الإيرانية. العراق بوابة إيران الغربية ونقطة تواصلها المباشر مع الساحة العربية، ما يجعل حمايته وحفظه في صلب أمن إيران القومي. فالتحالف الأميركي لم ينشأ لقتال «داعش» حصراً، بل هدفه التغيير الديموغرافي، وتفكيك الدول والمجتمعات، وإعادة تركيبها (العراق هو النموذج المطلوب تعميمه)، ومنع إيران من استعادة التوازن في علاقاتها الإقليمية، وتثبيت أرضية التدخل الخارجي، وضمان مشاغلة محور المقاومة بقوى محلية.
لقد نجحت إيران في توظيف الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الأميركي من العراق، وحولته إلى فرصة لإعادة صياغة دورها الإقليمي، وفرض وجودها قوة مؤثرة في المنطقة. لكن هناك مجموعة عوامل تحكم حركة القيادة الإيرانية في معالجتها للملف العراقي:
- الكلمة الفصل في العراق هي للولايات المتحدة، الساعية باستمرار إلى فرض وقائع تتعارض جوهرياً مع مصالح محور المقاومة. ما يفرض على طهران صوغ سياسة غير تقليدية، أكثر جرأة وفعالية.
- تضارب مواقف الإصلاحيين والمحافظين من الوجود الأميركي في العراق، والتهديد الذي يشكله نفوذ واشنطن، و «داعش» وداعميه. ففيما يعتقد الإصلاحيون بأن التعاون مع الأميركي يمكِّنُهم من تشكيل نظام أمني إقليمي لمواجهة الإرهاب وحماية مصالحهم، يعتبر المحافظون الحلفَ الأميركي داعماً للإرهاب، وتهديداً للمنطقة، ويرفضون تدخله فيها من أساسه.
- تراجع قوى الاعتدال في المنطقة، ورفع السعودية درجة العداء لإيران إلى حدها الأقصى. فتعدد أطراف الصراع يتيح استخدام أكثر الأسلحة فتكاً: الفتنة السنية - الشيعية، وتشكيل محور «عربي سني» ضد إيران «الفارسية الشيعية».
- لم تتمكن إيران وحلفاؤها من إخراج العراق من كونه ملفاً أمنياً فقط، ومن استعادة الحياة الطبيعية وتحسين ظروفها. وبقيت الحالة على ما كانت عليه قبل الانسحاب الأميركي، ولم تطرح مشروعاً بديلاً يعيد تشكيل النظام السياسي، وبدت باحثة عن التسويات مع الطبقة الحاكمة وبين أطرافها، بل وصُنِّفَت من المتحالفين مع الطبقة الفاسدة.
- إيران التي تواجه الحلف الأميركي في العراق، قد تجد نفسها في منافسة مع روسيا هناك. فموسكو تحاول تحقيق إنجاز كبير في سوريا، يساعدها على تثبيت واقع جديد في العراق، وقد يتطلب ذلك استرضاء السنة أو احتواءهم، ربما على حساب الدور الإيراني.
إن ظهور «الحشد الشعبي» وفصائل المقاومة، المكافئ الشعبي للجيش والسلطة، بدعم مباشر ومعلن من إيران، عقَّدَ محاولة التحالف الأميركي تحقيق أهدافه، وهدد نفوذه ووسع رقعة مواجهته، وأكد على محورية الدور الإيراني، وأسس لواقع جديد يمنع إعادة ترتيب التوازنات والأدوار الإقليمية بعيدا عن إيران وحلفائها.
لكن دعم «الحشد» وإهمال حركة الاحتجاج الشعبية العابرة للطوائف والمذاهب، أشبه بمحاولة الطيران بجناح واحد، وأضرارهما كبيرة على المدى الطويل، بينما وضعهما في سياق حركة سياسية وعسكرية واحدة متناغمة، يمكن أن يشكل دعامة أساسية في استراتيجية إيران لمواجهة المشروع الأميركي، وجيشاً بديلاً يعاد تشكيله وفق عقيدة عسكرية جديدة، قبل أن يبادر الأميركي إلى اخضاعهما وربطهما بالمؤسسة الأمنية والسياسية الفاسدة والمرتهنة.
لا ينبغي أن يقتصر دور «الحشد» على مواجهة «داعش»، بل يجب تحويله إلى جزء من منظومة عسكرية وسياسية منخرطة تماما في بناء الدولة ومكافحة الفساد، وفي مشروع محور المقاومة لإعادة تشكيل المنطقة في نظام إقليمي جديد لمصلحة شعوبها. قوى كثيرة، محلية وإقليمية ودولية، تراقب «الحشد» بعد الانتصارات التي حققها، تمهيدا لمحاصرته بتشويه صورته وإخضاعه، وإبعاد قياداته وحرمانها من القدرة على المناورة. فهو قوة بمقدورها الضغط على السلطة العراقية، ومنعها من الاستغراق في «التعاون» مع الأميركيين في مشاريع لا تخدم المنطقة ولا شعوبها.
الاستثمار السياسي يقتضي وجود استراتيجية سياسية، و «الحشد الشعبي» يمكن أن يكون بديلاً سياسياً قادراً على تغيير المعادلة، بدل الرهان على سلطة يتسابق أصحابها على كسب رضا واشنطن. من ضرورات المواجهة في العراق، أن يتبنى «الحشد» مطالب شعبية وقضايا وطنية، يتلاقى فيها مع الحركة الاحتجاجية، للتخفيف من حدة الشحن المذهبي، ولاستقطاب قوى سياسية جديدة إلى معسكر المقاومة، ومنع «داعش» من استغلال خلافات القوى والكتل السياسية.
ضعف علاقات إيران الإقليمية، يعود في جزء كبير منه، إلى تركيز طهران على تعزيز العلاقة مع الأنظمة والقوى التقليدية، والاستنكاف، غالبا، عن دعم القوى الشعبية، وعن اعتماد استراتيجية الحركات الاعتراضية لفرض التغيير من الداخل ومنع التدخل الخارجي. إيران تملك القدرة على خلط الأوراق، وتغيير المعادلة، وعرقلة مخططات واشنطن وسياساتها في المنطقة، واستغلال حالة انعدام الوزن الغربية، لتثبيت المواقع العسكرية والسياسية في العراق، وهو أمر ضروري لمواجهة أي محاولة لاستنزافها في سوريا.
في حساب الربح والخسارة، يظهر أن جوهر الاستراتيجية الإيرانية في العراق لا يمكن أن يكون سوى «الحشد الشعبي» وحركات الاحتجاج الشعبية، الامتداد الطبيعي للثورة، ومصدر القوة في مواجهة الاستهداف الأميركي.
----------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 31-15-2015.