عرض: طارق راشد عليان، باحث علوم سياسية
يبدو أن الاتفاق النووي الذي أُبرم أخيرا بين إيران ومجموعة "5 + 1" لن تقتصر تداعياته على النواحي الأمنية منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل ستمتد لتشمل النواحي الاقتصادية، خاصة مع وجود قوى كبرى كالصين ترغب في توسيع استثماراتها في الشرق الأوسط.
في هذا الإطار، يرى مايكل سينغ، الخبير بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الأمريكي، في تحليل له، نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية أخيرا ، أن أكبر تأثير على الإطلاق للاتفاق النووي ربما يكون التأثير المترتب على الصين، مشيرًا إلى أن إيران والصين تجمعهما روابط مستقرة منذ زمن طويل، ولا تشوبها المشكلات السياسية التي تعقد العلاقات التي تجمع بين طهران، وروسيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة.
علاقات قديمة ممتدة:
وأشار سينغ إلى أن العلاقات الصينية- الإيرانية الحديثة تسبق انفتاح الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون على الصين، كما ظلت الصين شريكًا أمنيًّا لا غنى عنه لطهران، خاصة على صعيد تزويدها بالأسلحة، وبمكونات نووية أساسية. وأوضح أنه بفضل العلاقات الوثيقة تاريخيًا بين البلدين، وارتيابهما المتبادل في الولايات المتحدة، توقع كثير من الأكاديميين الصينيين أن تلعب بكين دورا مفسدا في المحادثات، غير أن مشاركة الصين كانت بنّاءة بشهادة الجميع.
ومن الجائز أن نهج بكين كان مدفوعًا برغبة في بلورة محصلة دبلوماسية معينة للحيلولة دون أي من محصلتَيْن غير مرغوب فيهما، وهما قيام حرب أمريكية- إيرانية يمكنها أن تعرّض واردات الصين النفطية من الخليج العربي للخطر، أو حدوث تقارب أمريكي- إيراني يمكنه أن يترك المجرى المائي محاطًا بالشركاء الأمريكيين. كما سعت الصين، مثلها مثل إيران، أيضًا على الأرجح إلى إلغاء العقوبات الأمريكية التي لم يقتصر تهديدها في السنوات الأخيرة على مصدري المواد النووية والأسلحة الصينيين، بل طال أيضًا مؤسسات ذات أهمية استراتيجية أكبر، مثل البنوك، وعمالقة النفط الصينيين.
ووفقاً للخبير بمعهد واشنطن، فقد حرصت الصين طوال المفاوضات النووية على الحفاظ على روابط وثيقة مع إيران من داخل مجموعة 5 + 1، وذلك بهدف تجنيب البلد آثار قرارات فرض العقوبات. حتى على الرغم من تصويت الصين لمصلحة هذه القرارات في الأمم المتحدة، فقد ازداد التبادل التجاري بين الصين وإيران من ثلاثة مليارات دولار في عام 2001 إلى ما يزيد على 50 مليار دولار في عام 2014، كما ارتفعت واردات النفط الصينية من إيران في عامي 2014 و2015 إلى أعلى مستويات لها على الإطلاق، وذلك بعد تراجعها مؤقتًا في 2012 و 2013.
العلاقات الأمنية الصينية - الإيرانية:
واستمرت الروابط الأمنية الصينية- الإيرانية هي الأخرى في التوسع أثناء فترة المفاوضات حتى تجاوزت كثيرًا حدود صادرات المواد النووية الأسلحة، حيث تشير التقارير إلى إعادة تزود مقاتلات نفاثة صينية بالوقود في إيران في عام 2010، وقيام السفن الحربية الصينية بزيارة إلى ميناء بندر عباس الإيراني في عام 2014، وذلك في سابقتيْن تعد كل منهما هي الأولى من نوعها. وبالإضافة إلى ذلك، فقد ساندت الصين، على الأقل بشكل غير مباشر، أجندة إيران الإقليمية باستخدامها حق النقض ضد العديد من قرارات مجلس الأمن الأممي بشأن سوريا.
وبحسب سينغ، فإن الاتفاقية النووية المبرمة حديثًا تسمح للعلاقة الصينية- الإيرانية القوية من قبل بالتوسع بلا قيود، إذ سيتم رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية والأممية ذات الصلة بأنشطة إيران النووية– بما في ذلك العقوبات النافذة خارج الحدود الإقليمية، والتي استهدفت في واقع الأمر الكيانات الصينية –أو تعليقها، وسيتم السماح بالصادرات النووية الخاضعة للمراقبة، بل وسيتم إنهاء القيود المفروضة على تزويد إيران بالأسلحة والتكنولوجيا الصاروخية فيما لا يزيد على خمس سنوات فيما يخص الأولى، وثماني سنوات فيما يخص الثانية. وسوف تجدّ إيران في البحث عن شركاء دوليين لمساعدتها على ترجمة هذه الاتفاقية إلى نفوذ اقتصادي ودبلوماسي أكبر في المنطقة وفيما وراءها.
بالنسبة للرئيس الصيني، شي جين بينغ، لم تكن الاتفاقية الإيرانية لتأتي في وقت أفضل من هذا، على حد قول سينغ؛ حيث تتصور مبادرته التي تحمل عنوان "حزام واحد وطريق واحد" إنشاء سلسلة من حلقات الربط في مجالات الطاقة، والبنية التحتية، والملاحة البحرية تمتد من شرق آسيا إلى أوروبا عبر الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وموقع إيران في ملتقى الطرق بين هذه المناطق يجعل مشاركتها في المبادرة مهمة لبكين.
حاجات إيران الاستثمارية:
من جانبها، أعربت طهران ، وعلى نحو يتناقض مع الدول العربية التي أبدت ارتيابًا في المبادرة الصينية، عن حماسها لخطة "حزام واحد وطريق واحد". كما بذلت إدارة أوباما جهدًا لتوضح أن حاجات إيران الاستثمارية المحلية تبلغ 500 مليار دولار، وهذا مبلغ أكبر بكثير من الأصول المجمدة التي تتراوح بين 100 مليار و150 مليار دولار التي يرجح أن تحصل عليها إيران، ما إن يتم تنفيذ الاتفاقية النووية، بحسب الفورين أفيرز.
الشيء المسكوت عنه هنا هو من أين ستأتي بقية هذه الأموال. والمرجح، برأي الخبير أن بكين، التي تعهدت أخيرا باستثمار 46 مليار دولار في "ممر اقتصادي" في باكستان، وعشرات المليارات من الدولارات لتمويل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، سيكون من دواعي سرورها أن تسهم بنصيب في هذه الأموال. وقد زعم نائب وزير إيراني العام الماضي أن الصين تعهدت بالفعل بمضاعفة استثماراتها في البنية التحتية في إيران.
وسيركز قدر كبير من ذلك الاستثمار المستقبلي الذي ستقدمه الصين على قطاع الطاقة في إيران. وقبل فرض القيود على الصادرات النفطية الإيرانية، كانت إيران ثالث أكبر مزود للصين بالنفط الخام. أما في عام 2014، فقد احتلت إيران المركز السادس.
وحتى مع رفع العقوبات، فإن بكين قد تتردد في زيادة نسبة وارداتها النفطية التي تأتي من إيران خشية أن تصير اعتمادية أكثر مما ينبغي على أي مصدر واحد. ومع ذلك، فإن استثمارات الصين في الأنشطة السابقة للإنتاج في قطاع النفط الإيراني ربما تزداد لتعزيز أمن الطاقة الصيني. واستبعد سينغ أن تتأثر إيران بأي ضغط سياسي غربي مستقبلي للحد من الصادرات النفطية إلى الصين، موضحًا أن إيران هي البلد الوحيد الذي سيسمح موقعه لخطوط الأنابيب الصينية البرية بالوصول إلى الخليج العربي الغني بالنفط، وبالتالي تقلل أن تكون بكين عرضة لأخطار تعطيل نقاط الاختناق البحرية، مثل مضيقَيْ هرمز وملقة.
وأوضح سينغ أنه بقدر ما يمكن للتعاون الاقتصادي الصيني- الإيراني أن يستفيد من الاتفاقية النووية، فإن إمكانية النمو في الروابط الاستراتيجية ربما تكون حتى أكبر، منوهًا إلى أن إيران ستكون بحاجة، في مواجهة الأزمات الإقليمية الصعبة وفي إطار سعيها لتوسيع نفوذها الإقليمي، إلى شركاء خارجيين أقوياء. والمرشحان المحتملان هنا هما روسيا والصين، لكن قدرة الأخيرة على المساعدة تفوق بشدة قدرة الأولى.
تأمين المصالح الصينية:
وكما توضّح وثيقة عسكرية بيضاء نشرت أخيرا، فإن الصين تسعى إلى توسيع قدرة قواتها على "التأمين الفعلي لمصالح الصين في الخارج"، وهو ما تجلى في مشاركة السفن الحربية الصينية في مهام مكافحة القرصنة في المنطقة، وقيام بحرية جيش التحرير الشعبي بإجلاء آلاف الرعايا الصينيين عن ليبيا في عام 2011 – وذلك في أول عملية من نوعها تقوم بها الصين– إضافة إلى خطة بكين بإقامة منشأة بحرية في جيبوتي.
ويقول سينغ: في ظل سعي بكين لتوسيع قوتها ونفوذها، نجد إيران شريكًا منطقيًّا، فهي الدولة الوحيدة الكبيرة القوية في المنطقة غير المتحالفة بالفعل مع الولايات المتحدة، وهي تطل على طرق برية وبحرية ذات أهمية حيوية لبكين. وبالتالي، فلا غرو أن أعرب وزير الدفاع الصيني علانية في أكتوبر 2014 عن رغبة بكين في توسيع روابطها العسكرية مع إيران (وهو الشعور الذي بادلته إيران بمثله من خلال دعوتها الصين لتوسيع حضورها البحري في إيران)، وأن أكبر مسئول صيني في مجال مكافحة الإرهاب زار إيران أخيرا للسعي إلى توسيع التعاون ضد المتطرفين.
واشنطن والتقارب الصيني-الإيراني:
وبحسب تحليل الفورين أفيرز، فيمكن أن ينطوي النمو الذي تشهده الروابط الاقتصادية، والأمنية الصينية- الإيرانية على تحديات بالنسبة للولايات المتحدة، موضحًا أن الصين وإيران ملتزمتان بتقويض النظام الدولي الراهن الذي تقوده الولايات المتحدة، مشيرًا إلى إقامة الصين مؤسسات أمنية واقتصادية إقليمية تتنافس مع المؤسسات الأمنية والاقتصادية التي تهيمن عليها واشنطن وحلفاؤها. كما تحدت إيران صراحةً سلطة مجلس الأمن الدولي، والسطوة الأمريكية في الشرق الأوسط. زد على ذلك أن كلا البلدَيْن يتمتع بتحالفات مصلحة مع روسيا، التي تتنافس مثلهما مع الولايات المتحدة.
وإذا أخذنا في الحسبان سجل إيران الحافل بالعمل من خلال الوكلاء الإقليميين، فإن المساعدة الصينية يمكنها أيضًا بشكل غير مباشر أن تقوّي الأطراف الفاعلة من غير الدول التي تساندها إيران، بحسب سينغ، منوهًا إلى أنه يمكن أن تقدم إيران للصين موطئ قدم مهما استراتيجيًّا في الشرق الأوسط، هذا إذا آثرت تحدي النفوذ الأمريكي هناك.
بيد أن قيام تحالف أعم مع إيران يمكنه أيضًا أن ينطوي على مشكلات بالنسبة للصين، على حد قول سينغ، مشيرًا إلى أنه من المعروف عن إيران أنها يصعب العمل معها، حتى بالنسبة للبلدان التي سيبدو للناظر أنها تجمعها بها مصالح مشتركة. واستشهد الخبير بمعهد واشنطن في هذا السياق بإلغاء إيران في أبريل 2014 لعقد قيمته 2.5 مليار دولار مع شركة البترول الوطنية الصينية، حتى فيما كان الدبلوماسيون الإيرانيون يحضّون على توسيع الروابط الاقتصادية الصينية الإيرانية.
وأوضح سينغ أنه قد تزداد مثل هذه الصعوبات مع رفع العقوبات، واتساع نطاق البدائل المتاحة لدى إيران عن الشركات الصينية، مشيرًا إلى وجود عقبة أخرى أمام الروابط الصينية الإيرانية، تتمثل في مساندة إيران لجماعات مثل حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وحركة طالبان، التي تخشى بكين أن تشكّل تهديدًا لمصالحها هي ذاتها.
هل يمكن إحباط جهود الصين؟
أشار تحليل الفورين أفيرز أيضا إلى أن توثيق الروابط مع إيران يمكنه إحباط جهود الصين لتوسيع شراكاتها الاقتصادية مع الدول الأخرى في المنطقة، خاصة إسرائيل، وبلدان مجلس التعاون الخليجي، التي ترى إيران كمنافس كبير لها. صحيح أن إيران مورد نفط مهم للصين، لكن السعودية تظل أكبر مصْدر لواردات الصين من النفط الخام. وفيما تتنافس هذه الدول مع إيران على النفوذ الإقليمي، يمكن أن تتعرض الصين لضغط متزايد لأن تختار جانبًا تقف في صفه.
ورجّح سينغ أن تعتمد الاستجابة الأمريكية لتعميق الروابط الصينية الإيرانية على الدبلوماسية القسرية بقوة بمعنى إقناع الصين بالجوانب السلبية التي يتسم بها تسهيل السلوك الإقليمي الإيراني، مع فرض تكاليف على عاتق أية كيانات صينية تسهم في أنشطة إيرانية محظورة، مثل إمداد وكلائها بالأسلحة.
ولفت النظر إلى أنه بوسع الحلفاء الأمريكيين في المنطقة– ولا سيما البلدان التي تريد الصين أن تتخذها شركاء اقتصاديين في إطار خطة "حزام واحد وطريق واحد"–أن يساعدوا على التأثير فى نهج بكين، منوهًا إلى أن سياق القيام بتلك الأعمال هو الآخر مهم. إذ إنه كلما ازدادت قوة منظومة التحالف والبنية الأمنية الأمريكيتَيْن في المنطقة، قلَّ احتمال تعرضهما للتحدي من جانب إيران والصين. وكلما ازداد مدى إمكانية إقناع الصين بتجنب تبني ذهنية المحصلة الصفرية، والنظر إلى النظام الأمريكي بدلاً من ذلك كمنفعة لمصالحها، كان هذا أفضل، برأي سينغ.
وأكد سينغ، في ختام تحليله، ضرورة أن تعمل الولايات المتحدة على إحداث توازن بين التكاليف والمنافع المترتبة على الاتفاقية النووية مع إيران، مع عدم إهمال مضامين هذه الاتفاقية الأوسع التي تتجاوز نطاق ساحات المعارك في الشرق الأوسط.