االحل السياسي لأية أزمة ممتدة تُراق فيها دماء غزيرة ليس سهلاً. لذلك ستظل الأزمة السورية مستعصية إلى أن يتوفر استعداد لحل سياسي لدى معظم أطرافها، ويحدث قدر معقول من التوافق الإقليمي الدولي.
غير أن أهم ما يزيد هذه الأزمة استعصاءً في الوقت الراهن هو البحث عن موقع لبشار الأسد في مرحلة انتقالية غامضة، ويزيدها حضوره فيها إيهاماً وتعقيداً. هذا فضلاً عن عدم وجود ضمان لأن يكون استمراره مقصوراً على مرحلة انتقالية يصعب تحديد نقطة محددة تنتهي عندها. ولعل أكثر ما يجعل هذا الأمر عقبة أمام أي حل في الأمد القصير هو أن الطريقة التى يُطرح عبرها تُبعد الحوار حول هذا الحل عن الاتجاه الذي يُفترض أن يمضي فيه، وتدفعه في طريق مسدود.
لذلك ينبغي أن يدور النقاش حول دور الأسد على أرضية واقعية، ويركز على مسائل عملية في المقام الأول، أكثر مما يتناول قضايا تتعلق بالمبادئ والأخلاق. فالمعطيات المتوفرة تؤكد أن الأسد لا يمكن أن يكون جزءاً من الحل لأسباب عملية، وليس لما اقترفه من جرائم بحق وطنه وشعبه فقط.
وفي مقدمة هذه الأسباب عدم وجود ما يدل على أنه مستعد لقبول حل وسط على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب»، رغم أنه صار مغلوباً وبات في أسوأ وضع منذ بداية الأزمة، بعد أن فقد معظم قواته وأصبح معتمداً على دعم عسكري ومالي من إيران وروسيا. كما أن الميليشيات القادمة من العراق ولبنان وأفغانستان صارت تُشكل الركائز الأساسية للقوات التي تدافع عنه.
وتفيد هذه المعطيات أيضاً أن ما يمكن أن يقبله الأسد هو نقيض المعنى المقصود في أي حل وسط. فهو لا يقبل تسوية تقوم على تنازلات متبادلة، ولا يرضى إلا بإعلان «انتصاره» ضمنياً عبر توجه القوى الدولية والإقليمية إليه لـ«يقودها» في حرب على «داعش».
وهذا هو ما يُستفاد من الاتجاه العام في خطابه السياسي، وما يمكن استخلاصه من تاريخه، ومن تركيبة هذا النوع من نظم الحكم التي تخوض صراعات صفرية. لذلك فالأرجح أنه سيصر على القتال حتى النهاية مادام يجد من يقدم له الدعم العسكري والاقتصادي، وطالما أن الأمم المتحدة تتعامل مع الأزمة من خلال مبعوث دولي ذي خيال واسع ينسج خططاً مفارقة للواقع، مثل تلك التي تنص على استمرار الأسد رئيساً بصلاحيات بروتوكولية في مرحلة انتقالية تُجرى خلالها انتخابات حرة.
وينطوي هذا البند وحده في خطة دي ميستورا الأخيرة على وهمين، هما إمكان أن يتنازل الأسد عن صلاحية بروتوكولية واحدة، لا أن يصبح رئيساً بلا صلاحيات فعلية، وإمكان إجراء انتخابات حرة في وجوده.
وليس صعباً على أي دبلوماسي محنك أو باحث مدقق إدراك أن الأسد يفضل تقسيم سوريا ليبقى «حاكماً بأمره» في دويلة صغيرة إذا لم يستطع داعموه الإقليميون والدوليون من فرض «حل» على مقاسه.
وكان هذا واضحاً في إعلانه شخصياً في خطاب ألقاه في 27 يوليو الماضي أن النقص في «الطاقة البشرية» يدفعه لسحب قواته إلى «مناطق نريد أن نتمسك بها»، أي المناطق التي ستتكون منها دويلة يعدها ملجأه الأخير. وحتى في هذه الدويلة، لن يتمكن من فرض سطوته من دون قمع دموي على النحو الذي قوبلت به احتجاجات ضد قتل ضابط في قواته على يد أحد أقربائه مؤخراً.
لذلك كله، يحسن أن يطرح من يسعون مخلصين لإنقاذ سوريا صيغة لحل سياسي يكون بعض أركان النظام الذين لم تتلوث أياديهم بالدم- وليس الأسد- شركاء فيها. فمن شأن هذا الطرح أن يضع من يصرون على استمرار الأسد أمام مسؤولياتهم، لأنه يضمن استمرار مصالحهم في سوريا، لكن بمنأى عن الهيمنة التي يسعون إليها اليوم. فقد آن الأوان للتركيز على الحل السياسي المتوازن، ونقل النقاش حوله من مستقبل شخص إلى مصير بلد وشعب يعانيان أضخم مأساة إنسانية عرفها العالم منذ مطلع العصر الحديث.
-------------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، 7-10-2015.