عرض - راندا موسي: باحثة في الاقتصاد السياسي والشئون الإفريقية
لا تزال إسرائيل تقدم نفسها إلي العالم بوصفها الظاهرة الخارقة التي لن تتكرر. فمنذ ترويجها "المعجزة الزراعية" في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مرورا بـ "المعجزة الحربية" في حرب 1967، حتي "المعجزة الاقتصادية" التي جعلت اقتصادها الصغير مركزا عالميا لصناعة التقنية العالية، أو كما يطلق عليه "وادي السيليكون الإسرائيلي"، تواصل إسرائيل خطتها الهادفة لأن تكون "المركز" في المنطقة التي تغيب فيها أدوار دولها الأساسية.
في هذا السياق، تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يركز في فصوله الستة علي الأسباب التي مكنت إسرائيل من التفوق في صناعة التقنية العالية علي بلاد كاليابان، والهند، والصين، وكوريا، حيث إن عدد شركاتها المسجلة في سوق الأوراق المالية في نيويورك "ناسداك" NASDAQ هو الأعلي في العالم، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن مقدار ما تجذبه سنويا لكل فرد من رأس مال هو الأعلي في العالم.
الزراعية والحربية .. بين الحقيقة والأسطورة:
يري الكاتبان أنه لاشك فيما حققته الزراعة الإسرائيلية، فهي تؤمِّن أكثر من 90٪ من حاجات الإسرائيليين الغذائية، وتصدر إلي الخارج بأكثر من ملياري دولار سنويا. ولكن الحقيقة أن تلك المعجزة لا تتمتع بالكفاءة الاقتصادية. فالزراعة تتم بدعم حكومي مرتفع، واستخدام المياه بكميات كبيرة في منطقة ذات ندرة مائية بالأساس، والتي تحولت من الدعم الحكومي إلي سرقة المياه من الضفة الغربية.
ولم تتوان إسرائيل عن تجهيز جيش قوي عصري تقني تعدّه من أقوي جيوش العالم. وبدأت أجهزة الدعاية الصهيونية الترويج لأسطورة المعجزة العسكرية بعد حرب .1948
ورغم أن أحداث عام 1967 وما تبعها كانت تعبيرا عن ضعف وترد عربيين أكثر من كونهما انتصارا إسرائيليا، كان الترويج للأسطورة علي أكمل وجه. وظل بريق سنوات الانتصار 1948-1967 مستمرا، رغم أن إسرائيل لم تتمكن من تحقيق أي انتصار يذكر بعد ذلك.
لكن، وبعد مرور تلك السنوات، بقيت "الحرب علي إسرائيل" من المحرمات دوليا. والعبارة الأشهر "أنا طبعا لا أدعو للحرب مع إسرائيل" هي البداية الأنسب والأكثر ضرورة لأي نقاش سياسي تتناوله الفضائيات العربية.
التقنية العالية عجلة نمو الاقتصاد:
استطاعت إسرائيل الحصول علي العديد من الموارد الخارجية الهائلة التي مكنتها من الاستثمار في رأس المال البشري، والاهتمام بالمؤسسات التعليمية، والخدمات الصحية، والإنفاق علي البحث العلمي والتقني، لتصبح النسبة الأعلي في العالم من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، وتبني سياسات لدعم الشركات المبتدئة في صناعة التقنية العالية علي مستوي العالم، فضلا عن انفتاحها علي الأسواق العالمية. وبفضل تطوير التقنية العالية في الصناعات العسكرية، أصبحت إسرائيل واحدة من أهم عشر دول مصدرة للسلاح في العالم.
ويوضح الكاتبان أنه عقب أحداث سبتمبر 2001، طرحت الشركات الإسرائيلية نفسها في الأسواق علي أنها تمتلك التجربة الأهم في مكافحة الإرهاب بما أسهم في إقبال كثير من الدول والمؤسسات العامة والخاصة علي التعاقد مع تلك الشركات، وأدي ذلك إلي نقلة نوعية في تطوير هذه الصناعة، وهو ما جعل الصحف الأمريكية تطلق علي إسرائيل "عاصمة صناعة الأمن الوطني والمراقبة في العالم".
وما شهده الواقع الفعلي دليل علي ذلك. ففي عام 2006، قامت شركة إسرائيلية ببناء جدار مجهز بمعدات إلكترونية علي الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، شبيه بجدار الفصل العنصري الذي قامت إسرائيل ببنائه في الضفة الغربية عام .2002 وفي عام 2008، قامت شركات إسرائيلية بعملية المراقبة والسيطرة الأمنية في الألعاب الأوليمبية في الصين.
وهكذا، انتقلت التقنية العالية من صناعة الأسلحة إلي الصناعات المدنية، وركزت علي ثلاثة مجالات: الاستعمالات الزراعية، والاستعمالات الطبية، واستخدامات الكمبيوتر والبرمجيات وتقنيات المعلومات والاتصالات، حتي أصبحت إسرائيل في مقدمة دول العالم بالنسبة إلي ما يتم استثماره في صناعة التقنية العالية بسبب الاستثمار في رأس المال البشري.
وأصبح العمل في إحدي شركات التقنية العالية مدعاة فخر الشباب في إسرائيل، تماما مثلما كانت الخدمة في إحدي فرق الجيش الإسرائيلي في أيام "المعجزة الحربية" مدعاة فخر الشباب الإسرائيلي لجيل سابق، ومثلما كان العيش في إحدي التعاونيات الزراعية (الكيبوتس) وقت "المعجزة الزراعية" هو فخر جيل أسبق. ولكن أهداف ومساعي "المعجزة الاقتصادية" تلك المرة باتت هي الأوقع، وأخذت تنتقل بين المراحل التاريخية المختلفة لإسرائيل من خلال تحرك فعلي وقوي مكنها من بلورة تلك المعجزة بشكل ودقيق.
استراتيجية "المركز" و"الأطراف":
بعد اتفاقية السلام مع مصر، تمكنت إسرائيل من هزيمة حركة التحرر العربي. وبتوقيع اتفاقية الاعتراف المتبادل مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، تمكنت من مجابهة الحركة الوطنية الفلسطينية، ليصبح بعدها الهم الشاغل لإسرائيل هو العمل علي إقامة ترتيب دائم للمنطقة، تتكرس فيه الهيمنة الاقتصادية. فما تريده إسرائيل هو تطوير أوضاع المنطقة، في إطار تأسيس نظام، تكون هي فيه المركز، وتكون الدول العربية كلها مجتمعة في دور الأطراف، وهو ما نجحت إسرائيل في تحقيقه من خلال:
❊ الاندماج في الاقتصاد العالمي، وإقامة علاقات اقتصادية قوية مع جميع مراكز القوة الاقتصادية في العالم، من بينها الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي. وفي الأعوام الماضية، شهدت علاقاتها الاقتصادية مع الصين والهند تطورا متسارعا سيؤدي إلي علاقات منطقة تجارة حرة في المستقبل، في حين لا توجد أي دولة عربية لديها مثل هذه العلاقات، أو مرشحة في المستقبل القريب لتكوين مثل هذه العلاقات.
❊ التحول إلي مركز لكثير من الشركات العالمية العملاقة عابرة القارات، أو متعددة القومية، خصوصا في صناعة التقنية العالية، وأصبح لها عشرات الشركات عابرة القارات الموجودة في جميع الأسواق العالمية، ولديها مئات الفروع التابعة، وليس هناك أي دولة عربية لها مثل هذا.
❊ إعادة هيكلة البني التحتية بشكل يؤهلها لأداء دور المركز في المنطقة، وهو ما يشير إلي بناء طريق عابر لإسرائيل الذي بدأ العمل به عام 2000، ولا يزال مستمرا حتي الآن، ومن المخطط أن يكون بطول 300 كم يمتد من أقصي الشمال في منطقة الجليل الغربي، في محاذاة الحدود مع لبنان، إلي منطقة النقب، ومدينة بئر السبع، ويتفرع في منطقة غربي المثلث إلي شقين، أحدهما يصل إلي شمال غرب إسرائيل في منطقة مدينة نهاريا، والآخر يصل إلي مدينة بيسان، المحاذية لغور الأردن. وقد يكون هذا التخطيط الإسرائيلي لأن يصبح هذا الشارع هو العمود الفقري للشرق الأوسط في عهد السلام، إذ إن المخطط له هو ربطه بعابر لبنان في الشمال، وبسوريا عن طريق بيسان من منطقة جنوبي بحيرة طبرية، وبمصر بواسطة شق الشارع الجنوبي الذي يلتف حول بئر السبع، ويستمر غربا في اتجاه مدينة الإسماعيلية وقناة السويس.
وهكذا، أوضح الكتاب أن التفكير الاستيراتيجي الإسرائيلي يعمل علي فرض واقع اقتصادي، يتم فيه تنظيم علاقات المنطقة الاقتصادية مع العالم من خلال إسرائيل، خصوصا فيما يتعلق بعلاقات صناعة التقنية العالية.
وختاما، وبالنظر إلي طبيعة الاقتصاد الإسرائيلي، فإن ما تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية، وتضمن بقاءه واستمراره يوفر أكثر من نصف تكاليف الإنفاق في المجالات الحربية والمدنية، إضافة إلي ما تتحصل عليه الحكومة الإسرائيلية من احتلال الضفة، والجولان، وهو ما يشير إلي الإجادة الإسرائيلية في استغلال الاقتصاد الأكبر في العالم، وتوظيف حالات التردي والضعف في العالم العربي، فضلا عن الاهتمام الكبير بالعلوم والتقنية.