لا شك في أن إسرائيل كانت، ولا تزال، صاحبة أعلى الأصوات الرافضة للاتفاق النووي الإيراني. وقد ذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى مدى غير مسبوق عندما جازف بعلاقته بالرئيس الأميركي بتلبية دعوة الكونغرس الأميركي في شهر آذار من هذا العام لإلقاء كلمة حول مخاطر المشروع النووي الإيراني. لهذا، لا يُستغرب اليوم أن يستمر نتنياهو في التعبير عن رفض إسرائيل للاتفاق النووي وأن يلمّح تكرارا إلى إمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري. ولكن إلى أي مدى يمكننا أن نتوقع أن تقدم إسرائيل على مثل هذه الخطوة؟
عندما كانت الولايات المتحدة تقول إن الخيار العسكري للتعامل مع إيران هو خيار محتمل٬ فقد كان لهذا التهديد ثقله ومصداقيته، وذلك لأن الولايات المتحدة، بطبيعة الحال، تملك القدرة العسكرية على تنفيذ مثل هذا التهديد. ولكن هل ينطبق الشيء نفسه على إسرائيل؟ إضافة إلى العواقب السياسية للقيام بعمل عسكري من دون موافقة الولايات المتحدة، فإن العائق الرئيسي الذي يحول دون قيام إسرائيل بترجمة تهديداتها إلى أفعال هو غياب القدرة العسكرية على تنفيذ مثل هذه الضربة. هذه المقالة تناقش فقط النواحي العسكرية لمثل هذه الضربة.
بدايةً، لو كانت الولايات المتحدة هي من سينفذ الضربة للمشروع النووي الإيراني، لكنا تحدثنا عن إمكانية استهداف العديد من المواقع مثل منشآت تخصيب اليورانيوم في «نطنز» و «فوردو»، ومنشأة تخزين المواد المشعة في «كاراج»، ومركز أبحاث التكنولوجيا النووية في «أصفهان»، ومنشأة «بارشن» العسكرية، التي تم تفتيشها بسبب الاشتباه بأنها تستخدم لتطوير أسلحة نووية، إضافة إلى العديد من المطارات ورادارات الدفاع الجوي، وربما حتى مراكز القيادة والسيطرة للجيش الإيراني والحرس الثوري. ولكن إسرائيل لا تملك مثل هذه القدرة، بل يمكن القول إنها تملك فرصة تنفيذ ضربة جوية واحدة، تحتاج بعدها للانتقال للوضع الدفاعي، وترقب رد الفعل الإيراني والأميركي، على حد سواء. لذلك يمكن الافتراض أن إسرائيل ستضطر للتركيز فقط على منشأتي تخصيب اليورانيوم في «نطنز» و «فوردو»، فهما المنشأتان اللتان يمكن فيهما، نظرياً، تخصيب اليورانيم بما يكفي لصناعة قنبلة نووية، وبالتالي يمكن لإسرائيل أن تستخدم هذا كمبرر للعمل العسكري.
ولكن منشأة «فوردو»، في مدينة قم، تقع تحت جبل على عمق 80 متراً على الأقل. وهذا ما يجعلها محصنة في وجه الذخائر التي تمتلكها إسرائيل حالياً. فهناك قنبلة واحدة في العالم تستطيع الوصول إلى هذا العمق، وقد صممت في الحقيقة لأجل منشأة «فوردو» تحديداً، وهي القنبلة الأميركية GBU-57A/B، وهي قنبلة تزن أكثر من 13 طناً ويمكن إطلاقها فقط من القاذفة الشبحية B-2 أو القاذفة الاستراتيجية B-52. وإسرائيل لا تملك لا هذه القنبلة ولا الطائرات التي تستطيع حملها. وهذا يعني أن منشأة «فوردو» خارج القدرات الإسرائيلية وأن الهدف الوحيد الباقي هو منشأة «نطنز» التي تقع على عمق ثمانية أمتار تحت الأرض٬ منها متران ونصف متر من الإسمنت المسلح.
ولكن منشأة «نطنز» تقع في قلب الأراضي الإيرانية، على بعد أكثر من 200 كيلومتر جنوب شرق طهران، أي أن المسافة اللازمة لقطعها كما أجل الوصول إلى المنشأة والعودة تزيد بكل تأكيد عن 3500 كيلومتر. وهناك ثلاثة مسارات رئيسية يمكن دراستها، وجميعها تمر بالعراق، لأنه أقصر الطرق ولأن العراق أيضاً لا يزال من دون شبكة رادار تغطي سماءه. المسار الأول من إحدى القواعد الجوية في الشمال الإسرائيلي، ربما «رامات ديفيد» أو «روش بينا»، ثم على امتداد الحدود السورية الأردنية، بعيداً عن أنظمة الإنذار المبكر في دمشق، وصولاً إلى مثلث الحدود السورية الأردنية العراقية، لتدخل الأجواء العراقية، ومن ثم إلى «نطنز»؛ المسار الثاني من إحدى قواعد وسط إسرائيل، ربما «تل النوف» أو «بالماشيم» ثم مباشرة عبر المجال الجوي الأردني ثم عبر المجال الجوي العراقي إلى نطنز؛ والمسار الثالث من إحدى القواعد الجوية في جنوب إسرائيل، ربما «أوفدا»، على امتداد الحدود الأردنية السعودية وصولاً إلى أقرب نقطة يمكن المتابعة منها بشكل مستقيم إلى العراق. تبعد هذه المسارات في الحد الأدنى، على التوالي، 1600، 1650، و1800 كيلومتر. ولكن هذه المسارات لا تلحظ الانحرافات التي ستضطر الطائرات للقيام بها لتجنب التجمعات السكانية ومواقع الرادارات، كما أن الطائرات الإسرائيلية ستضطر للانحراف إلى الجنوب العراقي لتجنب التحليق فوق مناطق تنظيم «داعش»، ومناطق نشاط طائرات التحالف. وكل هذا سيزيد من مسار الطيران بشكل ملحوظ. يمكن استبعاد المسار الثاني لأنه يمر مباشرة فوق الأردن٬ كما يمكن استبعاد المسار الثالث لأنه طويل جداً، فيكون المسار الأكثر احتمالاً هو الأول. ولكن حتى هذا المسار لن يقل عن 3500 كيلومتر، في الذهاب والإياب. يضاف إلى ذلك أن الطائرات الإسرائيلية٬ عند عودتها٬ ستضطر للتحليق على علو مرتفع لتتمكن من الوصول إلى سرعتها القصوى، ضعفي سرعة الصوت، لتجنب الدفاعات الجوية الإيرانية والهروب من أي طائرات مطاردة قد ترسلها إيران، حتى عبر المجال الجوي العراقي. والمعلومة التي يجب لفت النظر لها هنا هي أن الطائرات المقاتلة تستغرق وقودها استهلاكا أكبر بكثير إذا ما حلقت بسرعة عالية٬ لذلك تلجأ الطائرات، عند الانطلاق إلى الهدف، للتحليق بسرعة تقل أحياناً عن سرعة الصوت لتوفير الوقود. التزود بالوقود جواً مستبعد أيضاً، لأن الطائرات عند الانطلاق ستحلق على علو منخفض للغاية لتجنب الرادارات، ربما 30 إلى 50 متراً عن الأرض، ما يجعل التزود أمراً للغاية. أما عند العودة فستكون الطائرات منطلقة بأقصى سرعتها لتجنب أي مطاردة قد تتعرض لها وهذا يلغي إمكانية التزود بالوقود جواً.
بأخذ كل هذه العوامل بالاعتبار٬ يجد مخطط العمليات الإسرائيلية نفسه أمام خيارات محدودة للغاية. فمن بين كل طائرات سلاح الجو الإسرائيلي٬ ليس هناك سوى المقاتلة الأميركية المعدلة في إسرائيل F-15I، والتي تحمل الاسم العبري «راعم» (أو الرعد)، التي يمكنها تنفيذ مثل هذه المهمة. ولكن إسرائيل لا تملك سوى 25 مقاتلة من هذا النوع وهذا رقم منخفض للغاية مقارنة بطبيعة المهمة المناطة بها. ففي العملية «أوبرا» التي استهدف فيها مفاعل تموز العراقي، 1981، استخدمت إسرائيل 8 مقاتلات F-16 لحمل القنابل و6 طائرات F-15 لتأمين الحماية للطائرات القاصفة. أما في العملية «أوركارد» التي استهدفت المفاعل السوري المزعوم، 2007، فقد استخدمت إسرائيل 7 طائرات F-15 وعدداً من طائرات التشويش. أما في العملية المفترضة التي ندرسها هنا٬ فستكون طائرات «راعم» وحدها٬ فلا يمكن أن ترافقها طائرات تشويش لأن هذه الطائرات محدودة السرعة٬ ما قد يحولها إلى هدف سهل للطائرات الإيرانية بعد تنفيذ القصف. كما يعني أنه يجب إرسال كامل الأسطول الإسرائيلي من طائرات «راعم» وتقسيمه إلى قسمين: قسم يتسلح بقنابل خارقة للتحصينات لضرب منشأة «نطنز» والقسم الآخر يتسلح بصواريخ مضادة للطائرات وللرادارات لتأمين الحماية للطائرات القاصفة. بالمحصلة، ستكون كمية القنابل غير كافية غالباً لتدمير المنشأة القابعة تحت الأرض، والتي تزعم بعض المصادر الغربية أن مساحتها تبلغ 100 ألف متر مربع.
أعلنت إسرائيل منذ بضع سنوات عن مشروع لزيادة المدى القتالي لكل أسطولها من طائرات F-15، ولكن هذا المشروع لا يزال بعيداً عن الاكتمال، كما أن إسرائيل لا تستطيع تأجيل الضربة حتى تحصل على المقاتلة F-35، وذلك لأن هناك نافذة زمنية ضيقة وهي الأشهر القليلة المقبلة، قبل أن يوافق الكونغرس على الاتفاق النووي وقبل أن يحصل العراق على المزيد من وسائل الدفاع الجوي. أما عن الخيارات العسكرية البديلة، فإسرائيل تملك صواريخ أرض ـ أرض من طراز «أريحا» تصل إلى المواقع النووية الإيرانية، ولكنها تفتقر الى الدقة الشديدة والقدرة على اختراق التحصينات المطلوبة في مثل هذه المهمة. كل هذه التعقيدات تجعل حظوظ أي ضربة عسكرية إسرائيلية لإيران قليلة للغاية، إن لم تكن معدومة. كما أن منشأة «فوردو»، التي تحتوي على 3000 جهاز طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم، ستبقى سليمة وتعمل، وهذا يعني أن العملية ستكون من دون أي فائدة حقيقية. كما أنها ستكون مكلفة سياسياً للغاية. وإيران لن تكون بحاجة للقيام بأي رد عسكري على إسرائيل وستستفيد من ارتفاع أسعار النفط العالمية كما ستستفيد من اندفاع الولايات المتحدة، المتوقع في مثل هذا السيناريو، لإقناع إيران بعدم الرد. بالمحصلة، إسرائيل، حالياً، غير قادرة على تحقيق تغيير جوهري في المشروع النووي الإيراني وسيكون لأي ضربة فوائد سياسية واستراتيجية مهمة لإيران. لهذا يمكن أن نستبعد أي عمل عسكري إسرائيلي ضد إيران.
-----------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 29-7-2015.