عرض : د. معتز سلامة: رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام
كتاب "عودة الدولة" هو الإطلالة العلمية الأحدث لمؤلفيه: د. علي الدين هلال -عميد المدرسة المصرية والعربية في دراسات النظم السياسية- وتلميذيه د. مي مجيب، ود. مازن حسن. فللدكتور هلال سلسلة مؤلفاته التي رصدت علي امتداد العقود تطور النظام السياسي المصري، فضلا عن عشرات -وربما مئات- الرسائل العلمية التي أشرف عليها في الجامعات، والتي تتبع مختلف جوانب التطور في النظام السياسي المصري، وفي الأنظمة السياسية العربية.
يطرح الكتاب، الذي صدر عن الدار المصرية اللبنانية في عام 2015 ، مفارقات كثيرة في صفحاته، التي تسلط الضوء علي أغوار وأسرار السياسة والحكم في مصر، وهو ما يضيف إلي نتاج خمسين عاما من الإضاءات العلمية بشأن النظام السياسي المصري للأستاذ الدكتور علي الدين هلال.
ويرصد الكتاب، خلال فصوله التسعة، أبرز مظاهر وعناوين عودة الدولة في مصر، ويستعرض أولا ملامح انحسارها خلال الفترة السابقة علي 30 يونيو، والتي تمثلت في تراجع هيبة الدولة، وتدهور شرعية الأداء الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، وتوتر العلاقة بين مؤسسات الحكم، وتراجع القدرة علي حفظ القانون والنظام، علاوة علي بروز الصراع حول شرعية الرئيس المنتخب عام 2012، وتنامي الشكوك حولها، وازدياد الحركات الاجتماعية الاحتجاجية ضده.
ويتعمق الكتاب في تفصيل حالة الاستقطاب السياسي التي شهدتها الدولة المصرية قبل 30 يونيو بين التيار الإسلامي المؤيد للرئيس محمد مرسي، والذي أكد التمسك بشرعية الصندوق، وتيار المعارضة المدنية الذي أشار إلي انتهاء العقد الذي أبرم مع الرئيس، وطالب بإسقاطه.
مدرستان في الديمقراطية:
يتطرق الكتاب للجدل الذي طرح بشأن أحداث 30 يونيو 2013، وما إذا كانت ثورة شعبية أو انقلابا عسكريا، ويعرض لوجهتي نظر برزتا علي سطح التفكير المصري، وعكستا جدلا علميا مستمرا بين مدرستين، له جذوره في النظر إلي الديمقراطية، وهما:
أولا- المدرسة الإجرائية الرسمية Formal or Procedural Democracy التي يري أنصارها أن الديمقراطية هي مجموعة من الترتيبات المؤسسية لاتخاذ القرارات والسياسات بواسطة أشخاص يمارسون السلطة بحكم اختيارهم من الشعب في انتخابات تنافسية ودورية حرة، وهي مدرسة الديمقراطية غير الليبرالية Illiberal Democracy.
ثانيا- المدرسة التي تركز علي مضمون الديمقراطية وجوهرها Substantive Democracy وهي التي لا تكتفي بالتركيز علي الجانب الإجرائي من الديمقراطية، وإنما تضيف إليه الجانب الاجتماعي، فتؤكد أنه من الضروري الانتقال من الإجراءات إلي المضمون، ومن المؤسسات والأشكال إلي الأداء والممارسات الخاصة بها.
التطور السياسي والمؤسسي:
يستعرض الكتاب تطور المؤسسات السياسية في مصر منذ 1952 وحتى 2013، مع التركيز علي سنة حكم الرئيس محمد مرسي التي تمثل امتدادا للمرحلة الانتقالية الأولي، والأشهر الأولي من حكم الرئيس السيسي التي تشكل المرحلة الانتقالية الثانية. ويخلص إلي مجموعة من الاستنتاجات الخاصة بالتطور السياسي والمؤسسي المصري، والتي تتمثل في الدور المركزي لرئيس الجمهورية، والطابع النخبوي للأحزاب، وضعف الحياة الحزبية، وضعف التمثيل السياسي للمرأة، وضعف التمثيل السياسي للمسيحيين، واستمرار إشكالية العلاقة بين المدني والعسكري، ووضع الجيش في النظام السياسي.
وتكشف عناوين فصول الكتاب عن كثير من ملامح الفترة الانتقالية: حراك سياسي متسارع، البحث عن طريق، من الغلبة إلي التوافق، وضع دستور جديد، تغير الخريطة الحزبية والتحالفات الانتخابية، حدود الهيمنة المضادة: تراجع دور الحركات الاحتجاجية، التشريع في ظل غياب البرلمان، سلطة تنفيذية قوية والعلاقة بين الرئاسة ومجلس الوزراء، التحول في دور السلطة القضائية، مواجهة المشكلات الهيكلية عبر سياسات عامة جديدة. وترسم هذه العناوين ملامح فترة انتقالية في دولة لم تستقر تفاعلاتها بعد، وتشهد تحولات في الأدوار التقليدية للمؤسسات.
ويثير الانتباه أنه في معرض تفسيره للدور المحوري الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في النظام السياسي، يؤكد الكتاب أن تغيير القيادة العسكرية، عقب انتخابات الرئاسة في 2013، لم يؤد إلي تغيير في موقعها في بنية القرار، حيث ظلت هي الجزء الأبرز في معادلة الحكم. ولكنه لم يفته تأكيد أن الدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية مرهون بقوة الحركة المدنية، وقدرتها علي طرح نموذج سياسي ديمقراطي مستقر، وهو الأمر الذي يحتاج لسنوات طويلة، وأنه علي الرغم من أن الجيش استجاب لمطالب الشعب، فإنه لا ينكر وجود مصلحة في عزل مبارك ومرسي.
ومع رصده لخطورة استمرار غياب البرلمان المنتخب عن العملية التشريعية، بما يعنيه من غياب الرقابة التشريعية علي أعمال السلطة التنفيذية، والتشريعات الرئاسية، وإيلاء مجلس الوزراء اهتمامه الأكبر لرئيس الجمهورية الذي أصبح الأول مسئولا أمامه فقط، فإنه يشير إلي أن ذلك لم ينتج عنه أزمة سياسية كتلك التي حدثت مع الرئيس مرسي، خلال الفترة التي حاز فيها سلطة التشريع منفردا.
عودة الدولة المصرية:
لا ينتهي الكتاب قبل أن يقدم تفسيرا لعنوانه اللافت، فيشير إلي أن استخدامه لعنوان "عودة الدولة" جاء من باب المجاز، حيث إن الدولة المصرية لم ينته دورها في أي من الفترات، بعد ثورة 2011، وإن تراوح بين الصعود والانحسار. ومن ثم، فإن هذا التعبير لم يستهدف سوي الإشارة إلي عودة تصدر الدولة للمشهد السياسي، وازدياد اصطفاف التيار الرئيسي للشعب حولها، وتصاعد قدرتها علي تنظيم العلاقات السياسية والاجتماعية.
وينتصر الكتاب إلي التفاؤل بشأن مستقبل مصر، وهو ما يعكسه عنوان "قيادة جديدة وأولويات طموحة"، رغم الصعوبات المرتبطة بموجة العنف والإرهاب، والمشكلة الاقتصادية، وبروز موقف دولي غير موات في بعض جوانبه.
وأخيرا، يحسب للكتاب أنه قدم اجتهادا علميا في ظل حالة السيولة في الأوضاع المصرية، وحاول الإمساك بخيوط الواقع المتشعبة. ومن يقرأ الكتاب، يلاحظ الدورة الأفقية للتطور السياسي في مصر، وأنه لا يمر بدورات ارتقائية، تصاعدية ورأسية.
ولكن بينما تشهد حقبة الرئيس السيسي تجديدا في الخطاب السياسي للدولة، ويطال التغيير مؤسسة الرئاسة، وتتوافر قيادة يتملكها قدر من الطموح، فإن المؤسسات والأحزاب (القديمة، والجديدة - القديمة) غير قادرة علي الخروج من إرث الماضي، ولا تزال تدور في أنماط الأفكار المعلبة والحبيسة نفسها، وهو ما يشير إلي أن قطار السياسة في مصر لا يصطحب راكبين جددا في المقاعد الأمامية، ولا يشهد في الأغلب أفكارا من خارج الصندوق، وذلك إحدي نواقص الحياة السياسية في مصر.