لم يعد المشهد الكردي في العراق وسوريا الآن كما كان قبل نحو عام عندما كتب السفير الأميركي الأسبق لدى بغداد زلماي خليل زاد مقالته المشهورة التي أثارت جدلاً واسعاً عندما نُشرت في «نيويورك تايمز» تحت عنوان «استعدوا لاستقلال الأكراد». اختلف الوضع كثيراً منذ يونيو الماضي، حين بدا أن إعلان دولة كردية صار وشيكاً، وتبارى معلقون في تصور سيناريوهات هذا الإعلان، بينما لم يرتفع صوت في المنطقة والعالم يعارض سيطرة «البشمركة» على كركوك وحقلها النفطي المهم. لقد تفاقمت الصراعات بين القوى الكردية، على نحو لم يبق في ظله معنى لما أعلنه رئيس إقليم كردستان العراق وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني وقتها عن تشكيل لجنة انتخابية تمهيداً لتحديد موعد لإجراء استفتاء على استقلال هذا الإقليم.
وثبت مجدداً صواب النظرية القائلة إن بعض الجماعات الاجتماعية التي يشتد تماسكها في حالة المحنة قد لا تستطيع تجنب التفكك في أوقات الرخاء. وكان هناك ما يدل على أن هذه النظرية تنطبق على أكراد العراق الذين وحَّدهم قهر نظام صدام حسين وظلمه، فما أن تحرروا من هذا القهر في ظل الاستقلال الذاتي المحمي بالحظر الجوي منذ أواخر 1991 حتى بدأ التفكك في أوساطهم، وأخذ الصراع بين الحزبين الرئيسيين (الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني) يتنامى.
وتوسع نطاق الصراع بين القوى الكردية في الشهور الأخيرة بالتوازي مع ازدياد قوتها وتنامي دورها الإقليمي ومكانتها الدولية نتيجة صمودها في مواجهة تنظيم «داعش» منذ يونيو الماضي.
ولم يعد هذا الصراع مقصوراً على توزيع السلطة في إقليم كردستان، بل امتد للسيطرة على المناطق التي انسحب منها الجيش العراقي في الشمال عند انهياره في الصيف الماضي، ودخلت قوات «البشمركة» لمنع «داعش» من الاستيلاء عليها.
وأدى اختلاط أوراق أزمتي العراق وسوريا إلى تعقد خريطة الصراع بين القوى الكردية، وفي مقدمتها الحزب الديمقراطي، والاتحاد الوطني في العراق، والاتحاد الديمقراطي في سوريا الذي يُعد امتداداً لحزب العمال الكردستاني في تركيا. كما اقترن الصراع بين هذه القوى، وغيرها الأصغر حجماً وتأثيراً، بازدياد التفكك داخل كل منها بدرجات مختلفة تبلغ ذروتها في الاتحاد الوطني الكردستاني الذي تفاقم الانقسام داخله في غياب زعيمه جلال الطالباني.
ويمثل التناقض التاريخي بين الحزبين الكرديين الكبيرين في العراق، والتنافس الجديد بين الديمقراطي الكردستاني في العراق والاتحاد الديمقراطي في سوريا ومن ورائه العمال الكردستاني في تركيا، المحورين الرئيسيين للصراع الذي يهدد حلم الأكراد في الاستقلال. فقد ازدادت المسافة بين الحزبين العراقيين، وبلغت الشكوك المتبادلة ذروتها، وفشلت فكرة توحيد قوات «البشمركة» التابعة لكل منهما بسبب مخاوف الاتحاد الوطني من هيمنة الديمقراطي الكردستاني في ظل سيطرته على الحكومة المحلية منذ نحو ربع قرن.
وتتشكل الآن ملامح تحالف ضمني بين الاتحاد الوطني في العراق والاتحاد الديمقراطي في سوريا ضد الحزب الديمقراطي وزعيمه البارزاني. ويجد هذا التحالف دعماً من حزب العمال الكردستاني، الذي يساند الاتحاد الديمقراطي في سعيه للسيطرة على جميع المناطق الكردية في سوريا، منذ أن أعلنها إقليماً متمتعاً بالحكم الذاتي في أول ديسمبر 2013 بعد صدامه المسلح مع قوى كردية أخرى في منطقة رأس العين في يوليو من العام نفسه.
ولم يكتف العمال الكردستاني التركي بذلك، بل أصبحت له ركيزة في العراق بفضل مشاركته الفاعلة في مواجهة «داعش»، الأمر الذي أتاح له إعلان إدارة ذاتية تابعة له في منطقة شنكال «سنجار» ذات الأغلبية الإيزيدية في يناير الماضي، وهي من المناطق المتنازع عليها بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان.
ويحدث هذا كله بينما يتصرف إقليم كردستان العراق بطريقة مستقلة بالكامل تقريباً عن الحكومة المركزية في بغداد. لكنه لا يستطيع التقدم نحو الاستقلال باتخاذ خطوة من نوع إجراء الاستفتاء عليه بفعل حدة الصراعات الداخلية التي جعلت المسافة بين أربيل والسليمانية أبعد منها بين أي منهما وبغداد.
وبسبب هذه الصراعات المرشحة للتوسع، ربما يبقى ما بشَّر به خليل زاد قبل عام بشأن دولة كردية مجرد فصل من فصول الحلم الذي لا يتحقق.
------------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، 22/7/2015.