لم يكن استهداف النائب العام المصري المستشار «هشام بركات» مفاجئاً بذاته، ولا منعزلاً عن إقليمه، فقد تصدر اسمه قوائم الاغتيالات المعلنة، وحياته تعرضت لاستهدافين سابقين.
بيقين، فإن الوصول إليه تقصير أمني فادح حيث لم تكن هناك إجراءات تأمين تناسب الخطر المحتمل. تبدت الصدمة الحقيقية في نوعية العملية ومدى حرفيتها في التدبير والاختراق والتنفيذ وحجم المتفجرات التي استخدمت بعد مدة طويلة نسبياً توارت فيها مثل هذه العمليات.
أول الاستنتاجات أن تنظيمات العنف والإرهاب أعادت تمركزها في العاصمة المصرية ونجحت في تهريب أسلحة ومتفجرات إلى مخابئ سرية لم تصل إليها السلطات الأمنية حتى الآن.
بالأرقام شبه الرسمية فإن (80%) من السلاح الذي أدخل إلى مصر بعد ثورة (25) يناير/كانون الثاني (2011) جاء عبر الحدود الليبية التي تضربها الفوضى وتغيب عنها الدولة. بدرجات متباينة جرى تهريب سلاح ورجال عبر الحدود المصرية بلا استثناء واحد، وبدا أمنها القومي في حالة انكشاف لا مثيل لخطورته.
المعنى الآن أن الأمن القومي في مصر مازال في مرحلة الخطر رغم أي جهود مضنية بُذلت.
وثاني الاستنتاجات أن هناك مصانع سرية أعدت وأنتجت المتفجرات التي استخدمت في اغتيال النائب العام. وحجم المتفجرات يشير إلى تراكم في الإنتاج يرجح عمليات أخرى مماثلة وخبرة في التقنيات لا تتوافر للجماعات المسلحة الصغيرة. ودرجة الاحترافية تشير إلى تمويل وتدريب وتخطيط وتنسيق لوجيستي بين تنظيمات العنف على خريطة الإقليم المشتعل بالنيران.
بكلمة أخرى لم تكن هناك أي مصادفة في تزامن اغتيال النائب العام المصري مع عمليتي «سوسة» التي استهدفت تقويض السياحة التونسية و«الكويت» التي طلبت نقل براكين النار إلى ضفاف الخليج.
ما جرى في تونس من تقتيل جماعي لسياح أجانب كاد يحدث في مصر على نحو مماثل بالقرب من معبد «الكرنك» في الأقصر. لم يكن معنى فشل «عملية الكرنك» أن اللعبة توقفت، فقد اغتيل النائب العام بعدها. وما جرى في الكويت من تقتيل آخر، أثناء صلاة جمعة له صلة مباشرة بالصراع المذهبي الذي يراد تعميمه في الإقليم كله.
بالمعنى الحرفي الفتن المذهبية مقتلة كبرى لأي رهان على المستقبل أو أي قدرة للعالم العربي في أن يخرج من مستنقع النار، بالتعريف، فالإرهاب عمل عنيف لأهداف سياسية.
في استهداف ثلاث دول عربية بتوقيت واحد رسالة بالغة الخطورة إلى المستقبل، أن أحداً في الإقليم لم يعد في مأمن وأن الدول التي تتصور أنها ابتعدت عن مراكز البراكين قد تجد نفسها في قلبها. بصيغ مختلفة أعلنت الدول الثلاث ما يشبه «حالة الحرب» بتحسب أن هناك ضربات تالية. والتحسب من مقومات الجدية والاعتراف بالقصور من ضرورات سد الثغرات، وهذا يستدعي نظرة إقليمية أخرى إلى الإرهاب وأخطاره.
لابد من الاعتراف بأنه لا توجد استراتيجية شبه متماسكة لا على المستويات المحلية ولا على النطاق الإقليمي لمواجهة الإرهاب. لا تكفي أحاديث «القوة العربية المشتركة» إذا لم تكن مشفوعة بإجابات واضحة عن أسئلة معلقة: من العدو؟... وأين الجبهة؟
لا معنى للقوة المسلحة بلا أفق سياسي واضح ومقنع. الاعتراف هنا ضروري بأن فجوات السياسة واسعة وفي بعض الحالات متناقضة بين الأطراف المدعوة للعمل العسكري المشترك في النظر إلى ملفات الإقليم كلها.
لا توجد رؤية مشتركة في الأزمة السورية ولا خطة عمل واحدة لإنهاء المعاناة الكبرى. ولا توجد أي رؤية مماثلة في الملفات المشتعلة الأخرى من العراق في قلب المشرق العربي إلى ليبيا في مغربه، هذا مؤشر سلبي للغاية في الحرب مع الإرهاب. كما لا توجد إجابات مشتركة عن سؤال الإرهاب نفسه. ماذا نقصد به وما جماعاته التي نحاربها؟
لكل دولة إجابة تختلف عن الأخرى وتحالفات تمضي في اتجاهات متعارضة. بالقدر ذاته لا توجد أي إجابات شبه متماسكة في ملفي إيران وتركيا... بعض الحساسيات تمنع بعض التفاهمات، هذا لا يصح في حرب ضارية مع الإرهاب قد تمتد إلى مناطق جديدة وتضرب بقسوة حيث لا نتوقع. القوة العسكرية ضرورية إذا ما استوفت ضروراتها السياسية، لكنها لا تغني عن ضرورات أساسية في كل دولة. أن يكون هناك ما يلهم معنى التضحية، وأن تسبق الآمال المخاوف. وأن يكون هناك مشروع للبناء يتحدى التخريب والقتل.
في الحالة المصرية نجحت ثورة «يونيو» في تجنيب البلد احتراباً أهلياً مؤكداً، وهذا إنجاز كبير بأي معنى تاريخي أو سياسي، غير أنها لم تفض إلى بناء نموذج ملهم يتجاوز الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين ويؤسس لدولة العدل والحرية على ما طلبت عشرات الملايين الذين خرجوا للشوارع والميادين قبل عامين بالضبط.
صحيح أن اغتيال النائب العام دليل إضافي على سلامة ما توجهت إليه «يونيو» غير أن الشعوب لا تعيش على ما أنجزته بقدر ما تطلب أن ترى الطريق أمامها منيراً، تعرف أين تقف وإلى أين تتجه؟ إجابة هذا السؤال بالذات أساسية في القدرة على مواجهة الإرهاب أياً كانت ضراوة ضرباته.
هزيمة الإرهاب محتمة بقدر التماسك الوطني ووضوح الأهداف. الحالة التونسية لها خصوصية أخرى، فهي تتباين عن مثيلتها المصرية رغم ما بين ثورتيهما من توأمة في كثير من المحطات. حيث المواجهة في مصر حادة بين الدولة والإخوان فإن حركة «النهضة» الإسلامية شريك في الحكم التونسي. طال الإرهاب تونس بقسوة، رغم أن تجربتها السياسية لم تتعرض لهزات عنيفة كالتي جرت في مصر. لم يكن عدم دمج الإسلاميين في البناء السياسي هو سبب العنف والإرهاب. فما الذي يحدث في تونس بالضبط؟.. وإلى أين تتجه؟ وإلى أي حد ينال الإرهاب من اقتصادها وسلامة مواطنيها؟ الأسئلة وجودية وبعض الإجابات في الإقليم حيث الأثر السلبي لتمركز جماعات عنف وإرهاب في ليبيا بالقرب من الحدود التونسية، تدرب وتهدد، تقتحم وتضرب. ورغم الاختلافات الواضحة في المعالجتين المصرية والتونسية للملف الليبي فإن التطورات الأخيرة قد تساعد في شيء من الاقتراب.
التحديات الوجودية قد تدفع لتفاهمات أخرى بين أطراف عربية متناقضة في الملفات المشتعلة الأخرى. غير أن الوقت يداهم والإرهاب يبادر دون أن تكون هناك نظرة إقليمية أخرى تتسق مع حجم الأخطار المرعبة.
------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 5/7/2015.