يُعدّ العلاّمة المرجع السيّد محمد حسين فضل اللّه أحد أبرز روّاد مسيرة الحركة الإسلامية الذين سعوا إلى تصويب أدائها وأهدافها ورفدها بالأفكار التي تغذّي ثمارها وحيويتها، كما سعَوا طيلة أعوام تربو على الستين عاماً إلى بلورة خطابها الديني والفكري والسياسي.
حاول السيد إبداع نهج لحركة إسلامية جديدة تعمل بكلّ قوّة ووعي وتدقيق من أجل أن يكون الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، كما لعب دوراً كبيراً في انفتاح بعض الحركات على مقولات سياسية وفكرية حديثة، بعدما كانت تعيش نوعاً من التخلّف الفكري، وكان الطاغي عليها التسطيح وأسلوب الوعظ والإرشاد، ولم تحمل العمق والفكر والكياسة السياسية ولا البُعد الاستراتيجي.
كما تمتّع بفرادة المنهج، ودقّة التحليل، وثقافة التأمّل، وأسلوب النقد، وحكمة المعالجة، وجدّية المجتهد في مراقبة الواقع وتحليل التطوّرات ومعاينة المستجدّات، من دون أن يظلم أي عنوان من العناوين الإسلامية الحركية مهما اختلفت معه في الرأي أو الموقف.
وكان إلى ذلك شخصية عارفة بعمق الإسلام وشريعته، ومتحرّكة في واقعه، ليس بإملاءات الذات الجهوية الطائفية أو المذهبية، إنّما بشخصية رجل الانفتاح والإصلاح والإيجابية والواقعية والشجاعة في الخطاب، وصاحب المنظور الاستراتيجي البعيد المدى، والمعتمد منطق الأولويات الذي يدرك ترتيبها بنظرة علمية، وهو المفكّر والفقيه الذي قدّم للحركة الإسلامية روحاً جديدة وعقلاً ناضجاً وفلسفة للتعامل مع التحديات، متجدّدة بالتنوّع وصادقة في التوجّه.
مع كل ما تقدّم، كان السيّد من القيادات النادرة في العالم الإسلامي التي تجري، بعد كلّ مرحلة من مراحل تطوّر مسار الحركة الإسلامية، مراجعة نقدية لما آلت إليه التجربة، حتّى لا تسقط هذه الحركة تحت تأثير الأخطاء القاتلة والمميتة، ولكي تبقى في حركة وعي للواقع فلا تقع في خطأ، وفوق ذلك لكي تعود إلى أصالة المفاهيم الإسلامية، بعيداً عن المفاهيم المتحوّلة التي قد تعلق بأهداب مسيرتها أثناء علاقتها الجدلية بالواقع. فكيف شخّص السيد مشكلات هذه الحركة وإلى ماذا دعاها؟
أزمة خطاب ماضوي
رأى السيّد أنّ الحركة الإسلامية تعاني من أزمة خطاب لا يزال ينطلق من مفردات الاجتهادات التاريخية وأساليبها. من دون دراسة المتغيرات الكبيرة التي تحكم الواقع في تطوّر قضاياه وحاجاته ووسائله وعلاقاته، سواء من ناحية طريقة الحكم وعنوانه وإرادته وتنظيمه، أو من ناحية الأوضاع السياسية التي تحيط به، أو من جانب التحديات الفكرية التي تترك تأثيراتها على المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
كما لاحظ أنّ اللغة التي تتحدّث بها هذه الحركة، على صعيد المضمون والأسلوب، لا تتناسب مع مفردات اللغة المعاصرة، مسجّلاً العديد من الثغرات في خطابها الإسلامي على الوجه الآتي:
ـ الارتجال في محطات عدّة، كمسألة الدخول في السلطة والموقف من التعامل مع الأنظمة، وتنظيم الأوضاع المحلية للناس، في ما بين المطالبة بدولة إسلامية أو دولة ديموقراطية، أو دولة بلا دين.
ـ إثارة قضايا ميتة أمام التحديات المتصلة بالقضايا المصيرية الكبرى كإشكالات الماضي وقضاياه، والعمل على تحريك نزاعاته وخلافاته لإشغال الساحة بالأوضاع السلبية التي لا علاقة لها بالواقع من قريب أو من بعيد.
ـ الانكماش في محيط محدود يتحرّك فيه الخطاب من خلال قضايا غارقة في خصوصيات المحيط ومفرداته الداخلية التي تبعد الحركة عن الانطلاق على أساس الخط الإسلامي العام.
ـ الغلوّ الذي يجد آذاناً صاغية له من خلال فضائيات لا هم لها ولا شغل إلاّ دسّ السم في الدسم، ما يزيد الواقع الإسلامي تعقيداً ويمنعه من تلمّس الأخطار الآتية إليه من الخارج، وخصوصاً من العدو الإسرائيلي ودول الاستكبار العالمي.
ـ النزعة المذهبية التي تحاول مصادرة الحاضر على أساس خلافات الماضي، الأمر الذي يثير الشكوك والتشنجات النفسية في ساحة الواقع الإسلامي الحركي، بطريقة قد تساهم في إسقاط عناصر القوّة في خط المسيرة العام.
أمام هذه الثغرات الخطيرة، دعا السيد إلى ضرورة توسيع آفاق الخطاب الإسلامي ليشمل خطاب الإنسان للإنسان لأن «إسلامك هو عيش للإنسانية فيه، ولأنّ هذه الإنسانية هي صورة داخلنا، وصورة عقلنا المفكّر، وقلبنا النابض في الذات، وطاقتنا المتفجّرة في الواقع».
إسلاميون لا يملكون ثقافة الإسلام
لاحظ السيّد أنّ بعض الإسلاميين من الدعاة والعلماء أو من الخطباء والوعاظ أو من المتحركين في نطاق المسؤولية السياسية أو الاجتماعية أو حتى الدينية، لا يملكون ثقافة الإسلام ولا يملكون كفاءة الخطاب الإسلامي ولا ثقافة تحريك الخطاب الإسلامي في الواقع.
كما لاحظ خللاً في الوعي الإسلامي عند هؤلاء في ما هو الانفتاح على الحياة الإسلامية التي يعيشها المسلمون في ساحات الصراع، في الفهم الموضوعي للواقع بجميع أوضاعه، أو في الثقافة الإسلامية المنفتحة على مشاكل الحياة وحاجات الإنسان فيها، بالطريقة التي يستطيع هؤلاء من خلالها أن يواجهوا ذلك كلّه بالعمق والامتداد، بحيث يشعر الناس بأنّ الإسلام قادر على أن يملأ الفراغ من موقع فكره ومنهجه وتشريعه.
لقد استطاع هؤلاء الدعاة، وفق سماحته، أن يعمّقوا التخلّف في ذهنية الأمّة، ويدفعوا زعاماتهم إلى مستوى القداسة، وأن يثيروا الفتن المذهبية داخل الحياة الإسلامية، حتى ارتفعت الحواجز بين المسلمين، بحيث حالت بينهم وبين اللقاء حتّى في مواطن الاتفاق، وذلك من خلال التأكيد على المفردات الصغيرة والآفاق الضيقة التي تحبس كلّ مسلم في دائرته الخاصة، كما لو كانت ديناً مستقلاً ينفصل عن الدين الذي يلتزمه الآخر.
وفي سياق متصل، رأى السيد أنّ التيارات الإسلامية تعاني في الغالب من فقدان المنظّرين الفكريين، وأنّ أغلب قياداتها إمّا شخصيات شبابية مناضلة، أو رجالات دعوية ناشطة في مجال التبليغ الديني، لافتاً إلى أن الضعف العلمي الملحوظ في أوساطها قد أدّى إلى تنامي التيارات التقليدية المذهبية داخلها وهو ما يُنذر في المستقبل، بافتقاد هذه التيارات الشرعية الدينية. علماً أنّ هذا الأمر قد لا يلاحظ حالياً بسبب القوّة السياسية والإعلامية التي تملكها هذه التيارات.
غياب حركة النقد
لاحظ السيّد، في سلبيات واقع الحركة الإسلامية، غياب حركة النقد الذاتي في نطاق القاعدة والقيادة، بحيث يعيش الناس ما يشبه عبادة الشخصية التي تمنع تسجيل الملاحظات على تصرّفات المسؤولين، أو مواجهة أفكارهم بالنقد الموضوعي، فتحوّلت المسألة في الوعي الحماسي الانفعالي إلى أن يكون النقد مظهر عداوة بدلاً من أن يكون وسيلة ترشيد للقيادة وحركة مسؤولة لتحقيق الكمال للعمل الإسلامي، «وأصبح المسؤولون يسمعون كلمات الإطراء التي أدمنها الكثيرون منهم، والتي شاركت في انتفاخ شخصياتهم وأفقدتهم روحانية التواضع في أخلاقهم، وحيوية التقوى في سلوكهم، حتّى تحوّلت الأخطاء مقدسات، وبدأ الانحراف يأخذ معنى الاستقامة.. وأصبحنا نعيش في كهوف مغلقة يمنع فيها فتح أي باب للحوار والنقاش».
التعصّب الأعمى
لم ينسَ السيّد التصويب على أهم الأمراض التي تعاني منها الحركة الإسلامية، ألا وهو سيطرة مرض التعصّب الأعمى على الكثير من النخب والتيارات الإسلامية وادعاؤها القبض على ناصية الحقّ المقدّس دون غيرها.
ويطرح سماحته هذا المرض المقيم في داخلنا من منظور شرقي عام، مظهراً أنّ مشكلتنا في هذا الشرق، وفي العالم العربي تحديداً، أنّنا نتقن فن خطاب الأزمة والتعصّب، ولا نتقن خطاب الوعي والعقلانية المنفتحة في كلّ ما نفكر فيه، وأنّنا نحدّق بأنفسنا قبل التحديق بالآخر، وأنّنا نحاول من خلال هذا الخطاب الديني أو الثقافي أو السياسي، أو الاجتماعي، الاستماع إلى صداه في داخلنا لا في الآخر، وبهذا كففنا عن أن يفهمنا الآخر لأنّنا لسنا معنيين به.
وكما أنّ هناك تمذهباً يصل إلى حد العصبية في الدين، يرى السيد أنّ في العلمانية تمذهباً أيضاً قد يصل إلى حد العصبية في الانتماء، لأنّ »قضية العصبية في هذا الشرق ليست خصوصية الدين في إنتاج العصبية في الإنسان، وإنّما هي خصوصية الإنسان الذي يعيش الانفعال والغرائزية ويتحرّك من خلال كثير من مفردات التخلّف، وهو ما ينتج العصبية والحقد».
من هنا تنطلق العصبية، كما يحدّدها السيّد، من حالة الضعف الثقافي، لأنّ من يملك زمام الفكر الذي يؤمن به، لا يخاف من أن يعطي الحرية للآخر، فالذين يصادرون الحرية هم الخائفون من أن تصادر الحرية تخلّفهم وضعفهم وتردّدهم.
------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، السبت، 4/7/2015.