بدأت الوحدة الأوروبية تعلوها مواقف عشوائية مادية سياسية، إذ أصبحت تصارع المتناقضات وكأنها تدور في فلك صيرورة التبعثر والعلل المادية الاقتصادية، والتي بدأت تذوب ضمن الزمان، وبعد أن غالت في ديناميتها، وجعلت حلولها الأوروبية مادية خاضعة للإنتاج المادي في كل رتب الحياة، في وحدة إقنومية متعالية، الأمر الذي ولد عند اليونان ارتدادات اقتصادية واجتماعية وثقافية تجلت، لتدخل في حيز التحديات المادية، والتأرجح بين الوحدة الأخلاقية السياسية وأحاديتها من جهة، وبين الوجود المادي المركب، وما تعاني منه هي من تعددية وقابلية للتجزؤ نتيجة العوارض والمواجهات بين دول الاتحاد الأوروبي والعالم، كما أنها تعاني معضلة التوفيق بين الوحدة والتعالي فوق الأشياء بمفهوم التصورات المتوارثة، والرفض الصريح للتصورات المادية بدلالاتها وأبعادها، حتى لا تكون اليونان مدخلاً لحرب باردة جديدة بين الشرق والغرب.
فهذه الدولة صغيرة المساحة والمكانة، الكبيرة بإرثها الحضاري العريق، لم تعثر على مكانها اللائق بها في العصر الحديث، فقد جعلها العثمانيون جزءاً من امبراطوريتهم المترامية الأطراف بعد سقوط القسطنطينية عام 1453، وبقيت كذلك حتى استقلت عام 1830، لكنها ظلت تتعثر في خطواتها، ولم تفلح في الحفاظ على استقلالها، إذ سرعان ما أصبحت ساحة من ساحات الصراع في الحرب العالمية الأولى بعد أن أعلنت وقوفها إلى جانب الحلفاء عام 1917، وفي الحرب العالمية الثانية، هاجمها الجيش الإيطالي بهدف احتلالها، ونجح في ذلك بعد تلقيه مساعدة من ألمانيا، فأصبحت تحت سيطرة دول المحور، ونشأت فيها حركات مقاومة كان أكثرها قوة، المقاومة الشيوعية التي تلقت دعماً من الاتحاد السوفييتي السابق، وبعد انهيار دول المحور واندحارها عن اليونان أواخر عام 1944، دخلت قوات الحلفاء إليها، وحاولت ترتيب شؤون الحكم فيها، لكن قامت حركة تمرد شيوعية كبيرة عام 1946 ضد الحكومة التي أقامها الحلفاء (الولايات المتحدة وبريطانيا) فبدأت الحرب الأهلية، ووقف الاتحاد السوفييتي والدول الشيوعية في شرق أوروبا إلى جانب الشيوعيين، بينما وقفت الولايات المتحدة إلى جانب الحكومة، وانتهت الحرب عام 1949 بنصر كبير للحكومة المدعومة من الغرب، وفي عام 1951 تم ضم اليونان إلى حلف شمال الأطلسي، ودفعت الولايات المتحدة حلفاءها الأوروبيين إلى ضمها إلى سوقهم المشتركة خوفاً من ارتدادها إلى الشيوعية من جديد بسبب الضعف الاقتصادي الذي كانت تعانيه، وفي عام 1981 أصبحت جزءاً من الاتحاد الأوروبي، وتكامل اقتصادها مع اقتصاد دول الاتحاد، فخسرت الكثير من إمكانياتها الاقتصادية، وتراكمت الديون عليها حتى بدأت فيها أزمة اقتصادية عام 2009، ووصلت الديون عام 2011 إلى 355.6 مليار يورو، وقدم الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد قروضاً لها عام 2010 بقيمة 110 مليارات يورو، فيما عرف بحزمة الإنقاذ الأولى، ومن ثم في عام 2012، تم تقديم حزمة ثانية بقيمة 130 مليار يورو، لكن كل هذه القروض لم تؤدِ إلى تراجع الدين العام فيها، والذي لا يزال عند 355 مليار يورو، الأمر الذي دفع الحكومة اليونانية بقيادة اليساري ألكسيس تسيبراس إلى التفكير في الخروج من منطقة اليورو، والاتحاد الأوروبي معاً، والاتجاه نحو روسيا لمساعدة اليونان في التخلص من أزمة ديونها.
وكانت زيارة تسيبراس إلى موسكو في 19 يونيو/حزيران 2015، ولقاؤه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دليلاً على نية اليونان البحث عن حلفاء عالميين جدد.
ولم يكن الاتحاد الأوربي يخفي عليه نوايا تسيبراس وتوجهه، ففي نفس الوقت الذي كان فيه تسيبراس يزور روسيا، بدأ وزراء مالية منطقة اليورو محادثات حاسمة حول اليونان، بعد أن حذر البنك المركزي اليوناني وللمرة الأولى من أن فشل المفاوضات بين اليونان والاتحاد الأوروبي حول موضوع الدين سيؤدي إلى تعثرها عن سداد ديونها، وخروجها من منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي.
لكن الروس لن يمدوا يد المساعدة لها قبل أن تعلن انسحابها من حلف شمال الأطلسي، وهذه المساعدة الروسية في حال حدوثها ستوجه أيضاً ضربة مؤلمة للولايات المتحدة وللاتحاد الأوروبي وللحلف الأطلسي، وربما ستتطور الأحداث في اليونان بطريقة قد تقود إلى حرب أهلية ثانية فيها.
إذ في اللحظة التي ستعلن فيها الحكومة اليونانية خروجها من تحالفاتها الغربية قد تحدث حركة احتجاج في اليونان على الطريقة الأوكرانية وبما يؤدي إلى وقوع حرب أهلية.
ومما لاشك فيه أن توجه اليونان الجديد نحو روسيا بات يُشعر الاتحاد الأوروبي ومن خلفه الولايات المتحدة بالخطر والحرج معاً، إذ يعني ذلك ارتماءها في أحضان روسيا، ومن خلفها التكتل الدولي الجديد الذي تقوده روسيا والصين، ما سيجعل الجهود الأوربية الأمريكية تذهب سدى في تحصين هذه الدولة ضد الخطر الروسي، خاصة أن الاقتصاد الأوروبي لم يتعاف بعد من كبوته الاقتصادية، إضافة إلى أن الاقتصاد الأمريكي ليس أحسن حالاً من نظيره الأوروبي، ما سيجعلها أشبه بالمعادلة الصفرية.
لذا، ومن دون شك، فإن أوروبا كلها اليوم، أمام منعطف خطر، فإذا نفذت اليونان خطتها، وتفلتت من الاتحاد الأوروبي، فلربما سيكون ذلك الخروج بداية النهاية لهذا الاتحاد، الأمر الذي سيدفع دول أوروبا الكبرى إلى العودة للتموضع القومي، مع ما يعني ذلك من احتمال العودة إلى عصر الحروب، على الأقل الحروب الباردة، من جديد دفاعاً عن المصالح القومية والسياسية والاقتصادية.
-------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 28/6/2015.