Thomas Piketty, Capital in the Twenty-First Century, Translated to English by Arthur Goldhammer, (Harvard University Press, 2014).
تقدم "مكتبة السياسة الدولية" في هذا العدد قراءتين لكتاب يثير جدلا واسعا في العالم منذ إصداره بالفرنسية، ثم ترجمته إلي الإنجليزية وخمس وعشرين لغة أخري خلال 2014، وبداية 2015، وهو كتاب الأستاذ في مدرسة باريس للاقتصاد، توماس بيكيتي، عن رأس المال في القرن الحادي والعشرين.
وضع معظم المؤسسات الأكاديمية والإعلامية والتسويقية هذا الكتاب في مقدمة أهم الكتب الصادرة عام 2014، ولكنه يعد أيضا أحد أهم الكتب التي صدرت خلال الأعوام الخمسين الأخيرة، خاصة في مجال الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية الدولية، بل هناك من يعده الأهم في هذا المجال منذ كتاب جون كينز (النظرية العامة في العمل والفائدة والنقود) الصادر عام 1936.
فقد وضع بيكيتي في هذا الكتاب أساسا علميا منهجيا للنقاش حول طبيعة الرأسمالية المعاصرة، ومن ثم أزمة النظام الاقتصادي العالمي. والمتوقع أن يثير هذا الكتاب جدلا لعقود طويلة قادمة مثل الكتب التي تعد علامات في مجاله، بدءا من كتاب آدم سميث (تحولات في طبيعة ثروات الأمم ومسبباتها) الصادر عام 1776، وكتاب توماس مالتوس (العنصر السكاني وآثاره في مستقبل تطور المجتمع) الصادر عام 1798، وكتاب ديفيد ريكاردو (مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب) الصادر عام 1817)، ثم كتاب كارل ماركس (رأس المال) الذي بدأ إصداره عام 1867، وصولا إلي كتاب كينز الذي سبقت الإشارة إليه.
ولذلك، رأينا أن كتاب توماس بيكيتي عن رأس المال في القرن الحادي والعشرين هو الأكثر جدارة لمناقشته في هذا العدد الخاص، الذي شرعنا في إصداره بالتزامن مع إعلان مؤلفه رفضه "وسام جوقة الشرف" الرسمي الفرنسي لاعتراضه علي سياسات الحكومة التي منحته، كونها تكرس التفاوت الاجتماعي الذي ركز جهده البحثي لنحو عشر سنوات سعيا إلي سبر أغواره، والتنبيه إلي أخطاره.
وفي مناقشة هذا الكتاب، يقدم الأستاذ إبراهيم نوار قراءة أولي فيه بوصفه إسهاما بحثيا غير مسبوق في الأساس الاقتصادي للعدالة الاجتماعية، وصرخة مدوية في وجه الرأسمالية العالمية.
ويقدم د. وحيد عبد المجيد قراءة ثانية تري في هذا الكتاب عملا علميا أكاديميا يعتمد علي تحليل رياضي إحصائي معمق يوضح ازدياد التفاوت الاجتماعي، ويشرح أخطاره، وكأنه يثبت علميا أفكار فلسفة العدالة وفلاسفتها، منذ جون ديوي إلي جون رولز.
(1)
رحلة للبحث عن أساس اقتصادي للعدالة الاجتماعية
إبراهيم نوار - الخبير الاقتصادي
يُعد كتاب عالم الاقتصاد الفرنسي، توماس بيكيتي، المعنون "رأس المال في القرن الواحد والعشرين" من أهم الكتب الاقتصادية التي قرأها العالم في السنوات الخمسين الأخيرة. فالكتاب، باعتراف علماء لهم وزنهم في مجالات علوم الاقتصاد، يمثل تحولا مهما في اتجاه التركيز علي دراسات العدالة، وإعادة توزيع الدخل، مقابل نماذج النمو، وخلق الثروة التي جري التركيز عليها في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلي وجه الخصوص مع سيادة توجهات المدرسة النقدية أو مدرسة اقتصاد جانب العرض. وقد حرص بعض الاقتصاديين المرموقين من حملة جائزة نوبل في الاقتصاد، مثل روبرت سولو وبول كروجمان، علي الاحتفال بالكتاب عند صدور طبعته الإنجليزية عن جامعة هارفارد. واتخذ بول كروجمان هذا الكتاب منصة جديدة للهجوم علي بقايا المدرسة النقدية، ولتوجيه المزيد من الضربات لما نسميه نحن في أدبياتنا الراهنة "الرأسمالية المتوحشة".
والحقيقة أننا إذا أردنا أن نضع عنوانا فرعيا لهذا الكتاب الذي نحن بصدد تقديم قراءة موجزة له، فإن هذا العنوان الفرعي هو: "أساس اقتصادي للعدالة الاجتماعية". ذلك أن بيكيتي لم يكن يراجع محركات وقوانين النمو في النظام الرأسمالي لغرض أكاديمي بحت، وإنما لغرض إعادة النظر في السياسات الاقتصادية الراهنة، وبيان فساد الحجج التي تعتقد أن سوء توزيع الدخل، وانتشار ظاهرة التفاوت، وانخفاض مستوي العدالة، إنما هي بسبب تشوهات في نظام السوق. ويؤكد بيكيتي في كتابه، بعد أن درس آليات ومحركات النمو في النظام الرأسمالي، عبر سلسلة متصلة من الإحصاءات تعود إلي أكثر من مئتي عام، أن السوق الكاملة النموذجية تنطوي في حقيقة الأمر علي المحركات التي تجعل من المستحيل تحقيق العدالة الاجتماعية بسبب الميل المتزايد لتركيز الثروة في أيدي الأغنياء، وتعاظم الوزن النسبي للثروة الموروثة علي مر الأجيال، وانتشار ظاهرة تركز الثروة، ليس فقط بين ملاك وسائل الإنتاج والأصول الرأسمالية، ولكن أيضا بين كبار المديرين الذين أصبح لهم في العقود الأخيرة دور هائل في اتخاذ القرارات وإدارة الأصول.
هكذا تتركز الثروة وتتنامي:
وللتوصل إلي هذه النتيجة، عاد توماس بيكيتي إلي سجلات الضرائب وقوائم توزيع الدخل علي مستوي العالم، بدءا من فرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وأسس - بالمشاركة مع عدد من زملائه - قاعدة بيانات عالمية لتوزيع الدخل بين الفئات الأكثر ثراء في أكثر من خمس وعشرين دولة من الدول الرأسمالية (يجري العمل علي استكمالها حاليا بغرض أن تصبح قاعدة بيانات عالمية شاملة لكل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة). وتتبع بيكيتي السلاسل الزمنية لتوزيع الدخل للفئات الأكثر ثراء من واقع سجلات الضرائب، وقابل بين التطور في نصيب الفئات الأغني من الممولين، والتغيرات في الظروف الاقتصادية والسياسية التي مر بها العالم خلال القرنين الأخيرين. ومن هذا التتبع، ومن تلك المقابلة بين التغيرات في تطور الدخل والتغيرات السياسية والاقتصادية، وجد توماس بيكيتي أن الثروة تميل إلي الزيادة بمعدل يفوق معدل النمو الاقتصادي، وربما يصل إلي ضعف هذا المعدل أو أكثر في فترات السلام والهدوء والاستقرار. ووجد أيضا أن الثروة تقل عموما، ويتراجع نصيب أصحابها من الدخل القومي في فترات الحروب والأزمات الاقتصادية، وحالات عدم الاستقرار.
ولتوضيح هذه العلاقة الموجبة بين تركز الثروة والاستقرار السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وجد توماس بيكيتي أن فترات الثورات والقلاقل الاجتماعية، والحروب، والأزمات الاقتصادية ترتبط في العادة بتدمير جزء من الجهاز الإنتاجي، الذي هو في حقيقة الأمر ثروة رأسمالية، واضطراب العلاقات بين عوامل الإنتاج المختلفة، وتشوه قواعد توزيع الدخل، بما يسفر في نهاية الأمر عن فقدان جزء كبير من الأصول الرأسمالية، ومن ثم فقدان الدخل أو الإيرادات الناتجة عنها، وهو ما يؤدي إلي انخفاض نصيب أكثر الفئات ثراء من الدخل القومي، فليتهم إذن يعلمون ويتعلمون. ففي سنوات الحرب العالمية الأولي، وسنوات الحرب العالمية الثانية، تراجعت قيمة الثروة أو الأصول الراسمالية عموما إلي ما يتراوح بين 3 و 4 أمثال قيمة الناتج القومي. بينما في فترات السلم والاستقرار، كان هذا المعدل يصل إلي 6 أمثال قيمة الناتج القومي، وربما أكثر من ذلك. وفي فترة الكساد الكبير في الثلاثينيات، هبط نصيب أصحاب الأصول الراسمالية من الدخل، كما هبطت قيمة ثرواتهم، وهو ما حدث مرة ثانية في سنوات الركود العظيم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين (2007-2009). هناك إذن علاقة موجبة مؤكدة بين نمو الثروة، والسلم، والاستقرار.
وقد لاحظنا في مصر - علي سبيل المثال - في السنوات الأخيرة، منذ ثورة 25 يناير، أن قيمة الأصول الرأسمالية انخفضت بسبب حال عدم الاستقرار. وسواء أخذنا مؤشر الأسعار في البورصة كمقياس، أو اتخذنا ميزانيات الشركات وضرائب الدخل كمقياس، فإننا سنجد أن هذه الفترة سجلت تراجعا ملموسا في قيمة الأصول الرأسمالية، وذلك علي الرغم من التأثير الإيجابي الناتج عن الطلب في السوق غير الرسمي، خصوصا في سوق العقارات، وفي أسواق الجملة غير المنظمة. وسوف يظهر لنا، إذا استخدمنا منهج بيكيتي في الدراسة، أن نصيب أصحاب الأصول الرأسمالية في مصر قد زاد كثيرا خلال الفترة منذ منتصف السبعينيات حتي الآن، من ناحية بسبب توقف الحرب مع إسرائيل، وعقد معاهدة سلام معها، ومن ناحية أخري بسبب الانتقال من نظام الاقتصاد الموجه إلي نظام السوق الحر. وهذا موضوع لم يدرسه توماس بيكيتي، الذي اهتم في كتابه بخصائص توزيع الدخل في الدول الرأسمالية التي يقوم اقتصادها علي نظام السوق، ولم يدرس تأثير سياسات الانتقال من الاقتصاد الموجه إلي اقتصاد السوق في خصائص توزيع الثروة والدخل في البلدان التي تعرضت لهذه التجربة، ومنها مصر.
ويتمثل الإسهام العلمي الرئيسي الذي قدمه توماس بيكيتي في كتابه "رأس المال في القرن الواحد والعشرين" في صياغة عدد من القوانين التي استخلصها من التتبع التاريخي لتوزيع الثروة. ويتمثل أهم هذه القوانين في قانونين، الأول عن كيفية قياس قيمة الثروة (الأصول الرأسمالية)، والآخر عن العلاقة بين معدل نمو الثروة، ومعدل النمو الاقتصادي. وفي كل من هذين القانونين، يقدم توماس بيكيتي جديده الحقيقي إلي علم الاقتصاد. ففي قانون قياس قيمة الثروة، ابتكر بيكيتي طريقة تتجنب تأثير التغيرات عبر الزمن، وتأثير اختلاف التقويم بسبب اختلاف قيمة العملة، وصعوبات الترجيح بعملة أو بوزن محدد، سواء كان نقديا، أو عينيا. ورأي بيكيتي أن قياس الثروة يتحدد بقيمتها إلي الناتج القومي السنوي. واستخدم بيكيتي المعلومات والبيانات المتاحة لديه خلال القرنين الأخيرين، لكي يحدد القيمة الوسطية للثروة منسوبة إلي الدخل القومي، فوجد أن هذه القيمة تزيد في فترات السلم عنها في فترات الحروب، والأزمات، والقلاقل الاجتماعية، والثورات، كما وجد أنها ترتفع في الدول الأنجلو-ساكسونية عنها في بقية الدول الرأسمالية في أوروبا واليابان.
وفي قانونه الثاني، الذي يصيغ به العلاقة بين معدل نمو الإيرادات الرأسمالية، ومعدل النمو الاقتصادي بشكل عام، وجد بيكيتي أن معدل نمو الإيرادات الرأسمالية يتفوق دائما علي معدل النمو الاقتصادي، وأن معدل نمو إيرادات الرأسماليين الأكثر ثراء يتعاظم بنسبة أكبر من غيرهم من ملاك الأصول الرأسمالية. وقدم بيكيتي أمثلة توضح كيف أن المستثمر الذي يقوم بتوظيف 100 مليون دولار في أسواق المال، مثلا، يحصل علي مزايا وفوائد أعلي من ذلك الذي يستثمر مليون دولار أو أقل من ذلك. كما قدم بيكيتي كذلك أمثلة صارخة لأثرياء يحققون أرباحا فاحشة لمجرد أنهم يملكون أصولا رأسمالية تقدر بمليارات الدولارات. وعندما يورث هؤلاء ثروتهم لأبنائهم أو لأحفادهم، فإن هؤلاء يحققون ثروات فاحشة بدون أن يكون لهم دخل علي الإطلاق في خلق وتنمية هذه الثروات قبل أن تئول إليهم، وذلك مثل حالة السيدة ليليان بيتينكورت المالكة للعلامة التجارية "لوريل" لمستحضرات التجميل، والتي كان جدها هو الذي بدأ هذا الاستثمار في القرن الماضي.
ظاهرة التفاوت في العالم:
وفي العرض الذي قدمه توماس بيكيتي في كتابه عن طبيعة وخصائص ظاهرة التفاوت علي مستوي العالم، ومحركات النمو، والقوي الدافعة لتحقيق التفاوت وتعميقه وتوسيع نطاقة، استنتج بيكيتي أن معدل تركز الثروة الآن، علي الرغم من أنه أقل كثيرا عما كان عليه بين عامي 1900 و1910، لا يزال مرتفعا بالمقاييس التاريخية، وقد يرتفع إلي مستوياته السابقة في العقود التالية. وخلال الفترة من 1700 إلي 2010، سجل الناتج القومي للفرد علي مستوي العالم زيادة صافية في الناتج بمعدل 0.8٪ في المتوسط (إجمالي 1.6٪ ينقسم إلي 0.8٪ بسبب زيادة السكان، و0.8٪ بسبب زيادة الإنتاجية)، لكن هذا النمو كان ينطوي علي تفاوت ملحوظ بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة، أو بين الدول الاستعمارية والمستعمرات.
والحقيقة أن بيكيتي لم يستخدم هذين المصطلحين (الدول الاستعمارية ودول المستعمرات)، وذلك علي الرغم من أن السمة الرئيسية التي سيطرت علي العالم، حتي منتصف القرن العشرين تقريبا، كانت سيطرة الدول الاستعمارية علي اقتصاد المستعمرات، واستخدام المستعمرات كمخزن خلفي لتوليد الثروة والفائض الاقتصادي. وتمثل هذه نقطة ضعف أساسية في تحليل بيكيتي، علي الرغم من أنه في مواضع مختلفة من كتابه أشار إلي الجزء من الثروة الذي كان يتم تحصيله من خارج الدول الرأسمالية. وطبقا لإحصاءات بيكيتي، فإن عدد سكان أوروبا عام 1913 (أي قبل الحرب العالمية الأولي مباشرة) كان يعادل نحو 26٪ من سكان العالم. ومع ذلك، فإن أوروبا كانت تستحوذ علي 47٪ من إجمالي الناتج العالمي. وبلغت الفجوة بين متوسط الدخل في أمريكا وأوروبا، ونظيره في آسيا وإفريقيا في عام 1700 نحو 50٪، واستمرت هذه الفجوة في الزيادة بمعدلات عالية حتي وصلت إلي 250٪ عام 1990، أي أن متوسط دخل الفرد في الدول الصناعية المتقدمة وصل إلي نحو 5 أمثال متوسط دخل الفرد في آسيا وإفريقيا، علي الرغم من الزيادات الكبيرة في الدخل التي حققتها دول مثل الصين، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وغيرها.
لكننا إذا دققنا النظر، وانطلقنا إلي مدي أبعد في التحليل، كما فعل بيكيتي، فإن فجوة الدخل بين أغنياء أوروبا، وفقراء إفريقيا وآسيا ستظهر علي نحو قاس جدا في صورة فاجعة. فأوروبا يعيش فيها سكان يصل متوسط دخل الفرد منهم إلي 27 ألف يورو سنويا (أوروبا الغربية)، وفي أمريكا، يوجد سكان يبلغ متوسط دخل الفرد منهم 40 ألف يورو سنويا (الولايات المتحدة)، في حين أن إجمالي الدخل القومي لدول إفريقيا جنوب الصحراء (900 مليون شخص) يبلغ 1.8 تريليون يورو، وهو ما يقل عن الدخل القومي لفرنسا وحدها. فالتفاوت في الدخل علي مستوي العالم يزيد كثيرا علي 20 مرة، إذا حسبناه علي أساس متوسط دخل الفرد في مناطق العالم المختلفة.
ويبدو التفاوت أعمق كثيرا من ذلك، عندما نعرف أن ثلثي سكان العالم هم من الأفراد "الأشد فقرا" يحصلون علي أقل من 13٪ من الدخل العالمي، بينما ينعم الأفراد "الأكثر ثراء"، ونسبتهم 1٪ فقط من سكان العالم وحدهم، بنحو 15٪ من الدخل العالمي (تقرير التنمية البشرية لعام 2014، ص37 و ص70). ويضيف التقرير نفسه أن أغني 85 شخصا في العالم (ومعظمهم يعيشون في أوروبا الغربية والولايات المتحدة) يستأثرون وحدهم بثروة تعادل تقريبا ما يملكه 3.5 مليار شخص من الأشد فقرا في العالم. إن هذا التفاوت الهائل في توزيع الثروة والدخل علي مستوي العالم يلخص في حد ذاته عريضة اتهام صارخة ضد كل المتسلطين وصناع السياسات في العالم، ولا يعفي من المسئولية المنظمات الدولية والمؤسسات التي تتبني شعارات "تخفيف الفقر"، و"تقليل حدة التفاوت" في عصر يرفع شعارات الديمقراطية، والشفافية، وإتاحة الفرص المتساوية للجميع.
ويضرب توماس بيكيتي مثلا صارخا علي ذلك أيضا بحسابات التفاوت بين إفريقيا والعالم، اعتمادا علي إحصاءات الأمم المتحدة، وصندوق النقد والبنك الدوليين. وبناء علي هذه الإحصاءات، فإن الدخل القومي لإفريقيا منذ عام 1970 يقل بنسبة تترواح بين 5٪ و 10٪ عن إجمالي الناتج المحلي، وذلك بسبب تحويل عائدات الاستثمارات الأجنبية في إفريقيا إلي الخارج. وطبقا لبيكيتي، فإنه بافتراض أن نصيب رأس المال إلي الدخل يعادل نحو 30٪، فهذا يعني أن نسبة ما يملكه الأجانب من الأصول الرأسمالية في إفريقيا تعادل نحو 20٪، وترتفع هذه النسبة إلي ضعف هذا المعدل في الأصول المنجمية، والمعدنية، والصناعية. والحقيقة أن العائد علي استثمار رءوس الأموال في الدول النامية يزيد كثيرا علي مجرد التحويلات المباشرة للأرباح، أو رءوس الأموال إلي الدول الرأسمالية، فهذه الاستثمارات تؤدي للإسهام في زيادة إنتاجية رأس المال الكلي في الدول الرأسمالية، وليس فقط الجزء من رأس المال المستثمر في الخارج. إنه لولا هذه الاستثمارات، لانخفضت الإنتاجية الحدية لرأس المال في الدول الصناعية المتقدمة، وتباينت إنتاجية عوامل الإنتاج جميعا (Total Factor Productivity) المعروف اختصارا في نموذج سولو للتوازن الاقتصادي بالحروف TFP الذي يضمن زيادة معدل النمو بفضل زيادة إنتاجية عوامل الإنتاج، ووقف تأثير قانون ريكاردو في تناقص الغلة (The law of diminishing return) وهو القانون الذي كان كارل ماركس قد اعتمد عليه في صياغة قانونه عن ميل معدل الربح الرأسمالي للانخفاض، والذي كان ماركس قد تصور أنه سيقود إلي انهيار النظام الرأسمالي من داخله.
بين الثروة والسلطة:
لقد كشف بيكيتي، إذن، الميل إلي تركز الثروة، بفضل ميل الأرباح للزيادة بمعدل يفوق معدل النمو، وذلك علي العكس من كارل ماركس الذي قال بميل معدل الأرباح إلي الانخفاض، وتنبأ بزوال الرأسمالية بناء علي ذلك. وهو (أي بيكيتي) وضع الأسس العلمية لتفسير ميل معدل الثروة إلي النمو بنسبة تزيد علي معدل نمو الاقتصاد. كما أنه أيضا وضع العلاقة بين نمو الثروة في فترات السلم، أو فترات عدم الاستقرار في سياقها الصحيح. وهو الذي أكد أن التفاوت ينتقل من مستوي الفئات الاجتماعية داخل الدولة الواحدة إلي مستوي أعلي يتمثل في التفاوت بين الدول، وعلي النطاق العالمي. لكن توماس بيكيتي لم يتوقف عند استخلاص النتائج الاقتصادية والاجتماعية لظاهرة التفاوت، وتركز الثروة، وإنما ربط بين ذلك وجوهر وروح المجتمع الرأسمالي الذي من المفترض أن يقوم علي الحرية، وعلي العدالة، وعلي المساواة في الفرص.
وهنا، أطلق بيكيتي صرخته المدوية في وجه العالم الرأسمالي المعاصر، محذرا من الانزلاق من المجتمع الديمقراطي إلي المجتمع الأوليجاركي البطريركي الذي تسود فيه سلطة وقيم وأخلاق الأقلية المالكة للثروة، لتهدد بذلك حضارة بدأت بنفي وتصفية سلطة وقيم المجتمع الأوليجاركي. وحتي يؤكد توماس بيكيتي تحذيره إلي العالم الرأسمالي، فإنه، في مقالات أو دراسات تالية لهذا الكتاب، أثبت أن التركيب السياسي للكونجرس الأمريكي يميل إلي تركيز سيطرة عائلات راسخة الثراء في مجالات الصناعة، والمال، من خلال وجود أبنائها أو ممثلين لها داخل الكونجرس، وفي مراكز صنع السياسة. وتتخذ هذه السيطرة قنوات متعددة، من أهمها: التبرعات التي يتم تقديمها للأحزاب السياسية وللمرشحين، وأجهزة الإعلام التي تسيطر عليها هذه العائلات، أو شركات تابعة لها. وقد شن بيكيتي هجوما حادا علي النظام السياسي الأمريكي بسبب علاقته بنواة أوليجاركية جديدة، مما أثار عليه غضب بعض صناع السياسة في الحزبين الديمقراطي والجمهوري علي السواء. لكن هؤلاء الذين انتقدوا بيكيتي أو هاجموه لم يتمكنوا من إثبات عكس ما انتهي إليه من زيادة حدة التفاوت علي المستوي العالمي.
(2)
إثبات علمي لأفكار فلسفة العدالة
د. وحيد عبد المجيد - رئيس تحرير سياسة
ينقل توماس بيكيتي في هذا الكتاب فكرة التفاوت في النظام الرأسمالي من ميدان الفلسفة بما ينطوي عليه من تأمل، وتفكير، وتأصيل، وتنظير، واستدلال إلي ساحة العلم بما يتضمنه من جمع بيانات وإحصاءات، وتصنيفها، وتحليلها بطريقة منهجية منظمة، وفق قواعد صارمة، للتوصل إلي نتائج محددة.
ولذلك، ربما يجوز وصف ما قام به بيكيتي بأنه إثبات علمي منهجي لما قدمته الفلسفة السياسية من أفكار في مجال التحذير من أخطار التفاوت الاجتماعي، والتنبيه إلي أهمية العدالة بين فئات المجتمع علي مدي عقود، منذ منتصف القرن الماضي. فإذا تعاملنا مع تلك الأفكار كما لو أنها افتراضات قابلة للإثبات أو النفي، فإننا نجد في كتاب بيكيتي البحث العلمي الذي يثبت صحة تلك الافتراضات التي دارت حول أخطار التفاوت الاجتماعي الطبقي علي العالم، ويؤكد من ثم أهمية ما سعي مفكرون وفلاسفة إلي إقناع العالم به منذ جون ديوي (1859 - 1952) في نهاية القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، إلي جون رولز (1921 - 2002) في النصف الثاني من ذلك القرن.
الإسهام الأهم منذ جون كينز:
يثبت بيكيتي في كتابه بطريقة علمية منهجية أن التفاوت الاجتماعي الطبقي يستفحل بين الدول الأكثر تقدما، والبلاد الأقل حظا، كما في داخل هذه البلاد وتلك الدول. ويوضح مدي فداحة الأخطار المترتبة علي هذا التفاوت، وما ينطوي عليه من تركز الثروة لدي قلة صغيرة هي الأكثر ثراء في العالم، وتضاؤل نصيب العمل مقابل رأس المال، وتراكم الثروات الرأسمالية بمعدلات أعلي من معدلات النمو الاقتصادي. فكلما استمر تراكم الثروات الرأسمالية بمعدلات أعلي من النمو الاقتصادي، تتضاعف هذه الثروات، ويتعاظم نفوذ أصحابها. ورغم أن مصر ليست من البلاد التي شملتها الحالات الدراسية التي بحثها بيكيتي، فهذا هو ما يحدث فيها منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتي اليوم.
ويحذر بيكيتي مما يؤدي إليه تركز الثروة من سيطرة سياسية تهدد الأساس الذي يقوم عليه النظام الديمقراطي، وتحمل في طياتها خطر تحوله إلي نظام "أوليجاركي" يقوم علي حكم القلة المميزة التي يصبح وصفها - والحال هكذا - بأنها رأسمالية متوحشة هو الأقرب إلي حقيقتها (لا يستخدم بيكيتي هذا الوصف، ولا يقدم أي أحكام قيمية، بل يضع أمام العالم تحليلا علميا منهجيا اعتمد علي أبحاث شاركه فيها بعض تلاميذه علي مدي نحو عشر سنوات).
لم يقدم بيكيتي أفكارا مجردة جديدة في هذا المجال الذي كثرت الإسهامات الفكرية والفلسفية فيه علي مدي عقود طويلة، ولكنه قدم ما كان مفقودا، وهو إثبات صحة تلك الإسهامات، وتأكيد الحاجة إلي مراجعة جذرية لما آل إليه النظام الرأسمالي، والعلاقات الاقتصادية الدولية المحكومة بقواعد هذا النظام.
قدم بيكيتي، فيما يجوز أن نعده أهم كتاب اقتصادي في العالم، منذ أن أصدر جون كينز كتابه المشهور (النظرية العامة في العمل والفائدة والنقود) عام 1936، بحثا علميا أكاديميا عميقا في أشكال تراكم الثروة، منذ منتصف القرن التاسع عشر، ووصل إلي أن هذه الثروة تتراكم بشكل مستمر لمصلحة أصحاب رأس المال الأكثر ثراء ونفوذا، وأن هذا نمط مستمر لم ينكسر إلا لسنوات قليلة عقب الحربين العالميتين الأولي (1914 - 1918) والثانية (1939 - 1945).
ووفقا لهذا التحليل، الذي يعتمد علي منهج رياضي إحصائي، تفوق ربحية رأس المال عادة معدل النمو الاقتصادي، سواء في فترات الانتعاش أو الركود، بما يعنيه ذلك من أن الثروة ستتركز دائما لدي القلة القليلة التي تملك. وعندما يزداد أغني الأغنياء ثراء علي هذا النحو، لابد أن يزداد الفقراء فقرا، أو يبقوا في فقرهم قابعين، بحيث يكون أقصي طموحهم هو المحافظة علي هذا المستوي من الفقر.
وهكذا، وفي ظل احتدام الجدل الذي أثاره الكتاب، حمل تقرير الثروات العالمي، الذي يصدره بنك الائتمان والاستثمار السويسري، ما يؤكد أن العالم في خطر بالفعل. فقد تضمن هذا التقرير أن أقل من 1 في المئة (0.7٪) من سكان العالم يملكون 44٪ من الثروة العالمية.
وفي ظل هذا الظلم الاجتماعي الفادح، لا نستغرب تصاعد العنف بأشكاله المختلفة الطبقية، والسياسية، والإثنية المذهبية، والعرقية، فضلا عن العنف الجنائي.
ويسهم تحليل بيكيتي في تفنيد أسطورتين يرددهما دائما أنصار المحافظة علي الطابع "الرأسمالي المتوحش" للنظام الاقتصادي، وهما انسياب معدلات النمو، والفصل بين التوزيع والإنتاج.
فأما الأسطورة الأولي، فهي تقوم علي ادعاء أن عوائد ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي تنساب تدريجيا في المجتمع ليجني الفقراء ثمارها تلقائيا دون تدخل، وبلا أية حاجة إلي نظام عادل لتوزيع هذه العوائد Trickle down effect، بدعوي أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء ستتناقص تدريجيا مع مرور الزمن. وقد أثبت بيكيتي زيف هذا الادعاء عبر تحليل اقتصادي - رياضي - إحصائي كشف أن الفجوة ستستمر في التوسع بين الأغنياء والفقراء، ما لم يحدث تدخل لوضع حد لها، مادامت الأرباح التي يجنيها الأثرياء أعلي عادة من معدلات النمو الاقتصادي. كما فند، في هذا السياق، الزعم بأن الثروة هي كالماء الذي يرفع كل الزوارق، وأثبت أنها لا ترفع إلا زوارق أصحابها، وتترك غيرها لمصيرها.
وأما الأسطورة الأخري، فهي التي ترتبط بالفصل بين عدالة التوزيع وعدالة عملية الإنتاج، وتحصر المشكلة في الحاجة فقط إلي توزيع أكثر عدالة بمنأي عن مراجعة الخلل الجوهري في العملية الإنتاجية نفسها. فقد أثبت بيكيتي أن معضلة تركز الثروة لدي القلة لا تعود إلي عدم عدالة التوزيع فقط، بل تعبر أيضا عن خلل في عملية الإنتاج وعلاقاته التي تؤدي إلي هذا التركز، وتعمل علي تكريسه.
كما حسم الجدل الفلسفي حول دور المهارة، والمعرفة، والجدية في خلق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، حيث أثبت أن التفاوت الاجتماعي المترتب علي الفروق بين البشر لا يمكن أن يصل إلي المدي الذي بلغه تركز الثروة في أيدي القلة، وأنه لا يمكن فهم هذا التركز وتفسيره إلا بناء علي القوي الاقتصادية الأساسية.
بين علمية بيكيتي وفكر فلاسفة العدالة:
ينتصر بيكيتي ضمنيا، عبر تحليله العميق، لأبرز فلاسفة العدالة في القرن العشرين، وهو جون رولز (1921 - 2002) ضد أهم المنظرين للظلم الاجتماعي في القرن نفسه، وهو روبرت نوزيك (1938 - 2002).
فقد زعم نوزيك وغيره ممن يعبرون عما يسمي "الليبرالية الجديدة" أن من تتركز لديهم الثروة يستحقون ذلك لجدارتهم ومهارتهم وقدرتهم علي الإنجاز، في إطار ما سماه في كتابه (الفوضي والدولة واليوتوبيا)، الصادر عام 1974 مبدأ الاستحقاق
desert principle، وخالفه في ذلك فلاسفة العدالة .. وفي مقدمتهم جون رولز في كتابه المشهور (نظرية في العدالة العدالة كإنصاف)، الصادر عام 1971، مؤكدا أن عدم عدالة الشروط الاقتصادية والاجتماعية هو المصدر الرئيسي للتفاوت الاجتماعي، والعامل الأساسي الذي يؤدي إلي تركز الثروة.
فقد ذهب نوزيك إلي أن المواهب الطبيعية هي الأساس في الفروق بين البشر، وهي التي تصنع التفاوت الاجتماعي الذي يعد - في رأيه - طبيعيا لا يصح، بل لا يمكن لأية مؤسسة أو آلية أن تغيره، لأنها لا تستطيع أن تحرم المولود ذكيا وموهوبا من مهاراته، أو أن تضيف إلي من يولد غبيا بلا موهبة ما ينقصه.
ومضي، في دفاعه عن حالة تنضح بالظلم الاجتماعي، بوصفها أمرا طبيعيا، إلي تأكيد أن تركز الثروة ليس أكثر من نتيجة لتنافس يراه من سنن الحياة التي لا تبديل فيها. فقيمة النجاح أو التفوق، وما يرتبط بها من تفاوت طبيعي، سابقة علي الشروط الاقتصادية والاجتماعية. وعلي المؤسسات التي يراد لها أن تعالج هذا التفاوت فلا يؤدي تدخلها في تصوره - إلا إلي إضعاف المجتمع كله، وحجز إمكانات تقدمه.
غير أن نتائج تحليل بيكيتي العلمي الاقتصادي - الرياضي - الإحصائي المنضبط تتعارض مع هذا الموقف، وتدعم في المقابل ما ذهب إليه جون رولز وغيره ممن دافعوا عن العدالة، ورأوا أن الكثير من الخصائص المحددة لقدرات الفرد يتأثر بالعوامل الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية في المجتمع، وأن ما يعد طبيعيا في تكوين الفرد هو الأقل أهمية في تحديد هذه القدرات.
فقد انتصر بيكيتي علميا بشكل ضمني لما ذهب إليه رولز فكريا وفلسفيا حين بلور مفهوم العدالة كإنصافJustice as fairness . ومؤدي هذا المفهوم أن العدالة تتحقق عندما تنتج عن اتفاق يحدث، أو عقد يُبرم، في ظل شروط تتسم بالإنصاف.
ففي مواجهة الاعتقاد بأن المجتمع يعيش علي ناتج إنجاز قلة من أفراده، هم الذين تتركز الثروة لديهم، طرح رولز فكرة المجتمع المنظم تنظيما عادلا علي أساس من التعاون، وليس فقط التنافس، وفق قواعد يقبلها المتعاونون، كل بما يقدمه من جهد، لأن هذا التعاون المجتمعي هو السبيل إلي إنتاج السلع والخدمات. فإذا كان هذا الإنتاج متعذرا بدون تعاون مختلف فئات المجتمع، فينبغي أن تكون قواعد تنظيم هذا التعاون عادلة بين المتعاونين.
وربما نجد، بشيء من إمعان النظر، أساسا لما قدمه بيكيتي في التحليل الكيفي والكمي المدعم بعدد من المنحنيات، والذي تضمنه إسهام رولز الفكري. فلم يكن كتاب رولز محضا فلسفيا، بل سعي إلي دعم فكرته عن العدالة بتحليل تضمن جوانب كمية. ولكنه لم يستطع، بحكم تكوينه الفكري وتخصصه في مجال الفلسفة السياسية، أن يقدم التحليل المنهجي المنظم الذي يجعل كتاب بيكيتي نقلة نوعية في مجال بحث العوامل الاقتصادية المؤسسة للظلم الاجتماعي.
ولذلك، يجوز استنتاج أن بيكيتي دعم، من حيث لم يقصد، جوهر فكرة العدالة كإنصاف التي بلورها رولز، وهو أن التفاوت في الثروة والدخل يكون مقبولا بمقدار ما يسهم في تحسين أوضاع الفئات الأدني في السلم الاجتماعي، والأقل انتفاعا بالتالي من التعاون المجتمعي اللازم لإنتاج السلع والخدمات. فإذا لم يكن التفاوت مساهما في تحسين أوضاع الأقل انتفاعا، فينبغي التدخل لوضع حد له.
وكأن بيكيتي في تبيانه لأخطار تركز الثروة، وعبر تحليله لعلاقة هذا التركز بعلاقات الإنتاج، وليس فقط بعدم عدالة التوزيع، ينحاز ضمنيا وبلا قصد للتمييز الذي دعا إليه رولز بين ملكية وسائل الإنتاج والملكية الشخصية، وللتنظيم الذي فضله للعملية الإنتاجية، لكي يضمن مساواة منصفة في الفرص، وتكافؤا كاملا وصارما فيها، وانتشارا واسعا لملكية وسائل الإنتاج، والارتقاء بالتعليم والتدريب بشكل مستمر.
ولذلك، فلا غرابة حين يتفقان، كل بطريقته، علي خطر سيطرة قلة صغيرة علي الاقتصاد، وامتداد هيمنتها إلي المجال السياسي. فقد نبه رولز إلي أن الحريات السياسية لا تكتسب قيمتها إلا في ظل عدالة تنصف جميع فئات المجتمع، في إطار نظام ديمقراطي يؤمن أوسع انتشار ممكن لملكية وسائل الإنتاج والرأسمال البشري، أي التعليم والتدريب، عبر تشجيع المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، والمشاريع المتوسطة: (إن الهدف هو تحقيق فكرة المجتمع بعدِّه نظام تعاون منصفا بين مواطنين أحرار متساوين)، وهو ما يستحيل تخيله، في ظل هيمنة قلة صغيرة (أوليجاركية) نبه بيكيتي إلي أنها نتيجة مترتبة علي تركز الثروة.
وتبدو معالجة بيكيتي لمسألة العلاقة بين تركز الثروة و"الأوليجاركية" السياسية، بما تعنيه من تركز السلطة، وتفويض النظام الديمقراطي، امتدادا لرؤية رولز، حين حذر من أن منظومة الحريات والحقوق العامة السياسية والمدنية تفقد قيمتها، أو الكثير من هذه القيمة، في حالة استخدام أصحاب القوة الاقتصادية مزاياهم للسيطرة علي المجال العام. كما كانت رؤية رولز هذه امتدادا لفكرة الحرية الإيجابية أو الفعالة عند جون ديوي الذي ميز بين هذه الحرية في الواقع، وما يكفله الدستور والقانون اللذان يفقدان قيمتهما، إذا سيطر الأقوياء (الأكثر ثراء عند بيكيتي) علي المجال العام.
ولكن تحليل بيكيتي يؤكد، عبر الأرقام والإحصاءات المدققة، مدي اقتراب الارتباط بين تركز الثروة والسلطة من الصيغة الأوليجاركية للحكم، عندما يظهر تحليله أن الثروة تتجه، في كثير من الأحيان، إلي التركز لدي عائلات قليلة العدد متربعة في قمة نظام اجتماعي يتسم بالجمود.
وليس هذا إلا قليلا من كثير يثيره كتاب توماس بيكيتي، الأكثر إثارة للجدل في العالم في القرن الحادي والعشرين حتي الآن.