العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تكون مجرد شعار انتخابي لإغواء الناخبين واستمالتهم والحصول على أصواتهم. وإنما هي برنامج يجب أن يكون منطلقا نظريا لمن يرفعه.
تشتعل الاحتجاجات الاجتماعية بشدّة في أكثر من جهة في تونس. ولعلّ آخرها وأشدّها تلك التي اندلعت الأسبوع الماضي في منطقة الفوّار بجهة قبلّي في أقصى الجنوب التونسي والتي لم تهدأ ولم تتمكن قوّات الشرطة والحرس من السيطرة عليها، حتى اضطرّت السلطات التونسيّة إلى نشر قوّات من الجيش الوطني هناك لمحاصرتها.
اندلعت هذه الاحتجاجات الغاضبة إثر الإعلان عن اكتشاف حقول نفط وغاز بجهة الفوّار المفقّرة في الوقت الذي تأكل فيه البطالة أيّام شبابها ويلتهم انسداد الأفق أملهم في المستقبل.
وتسبّبت الاحتجاجات في مواجهات عنيفة بين المحتجّين وقوّات الأمن، أدّت إلى حرق مركز الحرس الوطني بالجهة وإصابة عدد من الشباب الثائر وعناصر من قوّات الحرس.
في الفترة نفسها تتواصل المعيقات الاحتجاجية التي تكبّل إنتاج الفسفاط في منطقة الحوض المنجمي بجهة الجنوب الغربي التونسي. فخلال السنوات الأربع الأخيرة بعد الثورة لم يتجاوز الإنتاج الوطني من مادة الفسفاط عتبة 11 مليون طن مقابل 8 مليون طن سنة 2010. وتخسر تونس 1.2 بالمئة من الناتج الداخلي الخام بسبب تعطّل إنتاج هذه المادة. وفي الوقت الذي يتزايد فيه ارتفاع أسعار الفسفاط في الأسواق الدوليّة، تقدّر قيمة ما خسرته تونس من تعطّل إنتاج هذه المادة 2 مليار دولار خلال السنوات الأربع الأخيرة.
تعطّل إنتاج الفسفاط يصيب قطاعات أخرى بالشلل مثل قطاعيْ السكك الحديدية والصناعات التحويلية الكيمياوية. فالشركة التونسية للسكك الحديدية الناقلة للفسفاط من قفصة إلى الصخيرة وقابس تخسر 100 ألف دولار يوميّا، إذ منذ منتصف أبريل 2015 الماضي لم يتمّ شحن أي قطار بالفسفاط من منطقة الإنتاج بقفصة. بينما أعلن المجمع الكيمياوي بقابس توقفه عن الإنتاج بسبب نفاذ مخزونه من الفسفاط مادة التحويل الرئيسية فيه.
هذا النزيف الفظيع في الإنتاج والخسائر المالية الفادحة والتدهور الكبير للمنتوج الوطني الخام يجعل الحكومة أمام إجبارية الالتجاء إلى الحل الانتحاري المتمثل في مزيد الاقتراض والتداين لسدّ حاجاتها من السيولة المالية لخلاص الأجور وتسديد قروض سابقة. وفي الوقت الذي عجزت فيه الحكومة التونسية الجديدة عن إرساء الخطوات الأولى لإنتاج الثروة، ضاعفت من اعتمادها على الخارج حيث بلغت نسبة الديون الخارجية 53 بالمئة. وهو يمثل علامة خطر كبيرة تهدد استقلال القرار الوطني في تونس وتسبي حاضر التونسيين ومستقبل أبنائهم.
ولم تكن الاحتجاجات الاجتماعية حكرا على منطقتي الفوّار بأقصى الجنوب التونسي والحوض المنجمي بالجنوب الغربي، بل تعدّتها إلى مناطق أخرى كثيرة مثل منطقة جبنيانة بجهة صفاقس عاصمة الجنوب الساحلي، ففيها اضطر الأهالي إلى شنّ إضراب عام أصاب الحياة الاجتماعية والاقتصادية بشلل كامل نتيجة حالة التهميش الكاملة التي تلاقيها المنطقة وأبناؤها الذين يخوض عدد منهم إضرابا وحشيا عن الطعام منذ مدّة دون أن تلتفت السلطات إليهم.
الوضعان الاجتماعي والاقتصادي مترابطان، وهما مصابان في تونس بالتوتّر والشلل ممّا ينبئ بانفجار خطير لاسيما أمام عجز الحكومة التونسية، التي كادت أن تغلق دائرة المئة يوم منذ تولّيها، عن إدارة هذين الشأنين إدارة إيجابية فاعلة. وهو ما يضطرّها إلى أحد أمرين؛ إمّا إدانة الاحتجاجات واعتبارها شغبا بما يبيح معالجتها أمنيّا كما هو الشأن في منطقة الفوّار، وإمّا ترك الأمور تتعفّن والإعلان عمّا يشبه العجز عن فهم الحالة وعن تقديم أي تصوّر لمعالجتها بشكل جذري كما في مثال الحوض المنجمي.
تركيز أجهزة الحكم التنفيذية والتشريعية عقب انتخابات 2014 لم يمكن التونسيين من تحقيق آمالهم في العدالة الاجتماعية التي حملها حزب نداء تونس شعارا مركزيا
ولا يبدو أنّ السلطات التونسية قد تمثلت حجم الخطر المتأتي من جراء استنزاف الجهود الأمنية في مواجهة الاحتجاجات المطلبية، إذ أن ذلك لا يزيد إلا في منسوب علاقة التوتر بين الأمنيين والمواطنين بما يعقد العلاقة بينهم، لاسيما في ظل الحاجة إلى التعاون والتعاضد بين الأمن والمواطن لمواجهة الإرهاب المحدق بتونس.
ويعود عجز الحكومة التونسية القائمة وكل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة عن فض المشاكل الاجتماعية المتراكمة التي تنتج احتجاجات وإضرابات واعتصامات وخسائر اقتصادية فادحة إلى أنّ كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة مصرّة على تبني نفس الخيارات الاقتصادية والسياسية ونفس المناويل التنموية السابقة للثورة والتي أدّت إلى الثورة وإسقاط نظام بن علي.
السياسات السابقة للثورة، والتي تلتها، أنتجت الحيف الاجتماعي والتفاوت الجهوي ونمّت منسوب الحقد الاجتماعي. ولم تجد الحكومة التونسية الحالية، التي تتمتع بشرعية الصندوق الانتخابي، الجرأة على وضع إصبعها على قلب المشكلة بل تتهرب منها وترفض أن تصغي إلى الاقتراح الشعبي العام الذي تطالب به جماهير المحتجين، ألا وهو نصيب الجهات في ثرواتها الطبيعية التي تنتجها.
كما برهنت مؤسستا الحكم التنفيذية التونسية الحكومة ورئاسة الجمهورية عن فشل ذريع في إنتاج خطاب يقوّي الأمل في قلوب الشباب التونسي ويطمئنه على مستقبله. بل إن الحكومة التونسية أقرّت بفشل سياستها الاتصالية، تماما كما أقرّت أحزاب الائتلاف الرباعي الحاكم بضعف حكومتها وتعثر خطاها وحاجتها الماسة إلى الإسناد. وهو ما دعاها إلى تشكيل لجنة رباعية لدعمها أسوة بتجربة الترويكا رغم فشلها في الحكم.
هذا الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردّي هو ما دفع حسين العباسي الأمين العـام للاتحاد العام التونسي للشغل للتحذير من ثورة اجتماعية قادمة. وقد بنى العباسي تحذيره على تقييم دقيق للواقع التونسي ولطريقة تعاطي حكومة الصيد معه. في الفترة نفسها علا صوت حمة الهمامي، زعيم الجبهة الشعبية المعارضة، محذرا من أي إجراءات تعسفية ضد الطبقات الشعبية لاسيما بعد إشارة السلطات التونسية إلى ما سمته قرارات موجعة ستتخذها قريبا. وقال الهمامي إن القرارات الموجعة لابد أن توجه إلى المتهربين من الضرائب وإلى أصحاب الثروات والرأسماليين الكبار الذين يستفيدون من خدمات الدولة ويراكمون ثرواتهم دون أن يؤدوا واجبهم الجبائي.
وهدد الهمامي بالعمل على إسقاط حكومة الصيد بقوة الشارع إذا فكرت في زيادة حجم الضغط الجبائي على الطبقات الشعبية، خاصة أمام استمرار الأسعار في الارتفاع وهزال مخرجات المفاوضات الاجتماعية بالمتعلقة بالزيادة في الأجور.
وبالبحث في تفسير ما يحدث في تونس، نفهم حجم الخيبة التي يشعر بها التونسيون بعد الانتخابات. فلقد وُعد الشعب التونسي بالعدالة الاجتماعية، ولكنها اليوم الغائب الأكبر عن التونسيين بعد مضي أربعة أشهر ونصف على استلام رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي مهامه على رأس الدولة التونسيّة وثلاثة أشهر على منح الثقة البرلمانية لحكومة حبيب الصيد.
ومع ذلك فإنّ تركيز أجهزة الحكم التنفيذية والتشريعية عقب انتخابات موفى 2014 لم يمكّن التونسيين من تحقيق آمالهم في العدالة الاجتماعية التي حملها حزب نداء تونس الحاكم شعارا مركزيا خاض به حملتيه الانتخابيتين التشريعية والرئاسية.
تبيّن التونسيون أنّ العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تكون مجرّد شعار انتخابي لإغواء الناخبين واستمالتهم والحصول على أصواتهم. وإنما هي برنامج يجب أن يكون منطلقا نظريا لمن يرفعه. ولا يمكن لرافعه إلاّ أن يكـون مؤمنا به مجهّزا ما يلزم مـن الخطط لتنفيذه متى منحه الشعب ثقته، متسلّحا بما يكفي من العزم والجرأة والوطنية لتحقيقها.
ولكن لا توجد مؤشرات على أي نيّة للسلطات التونسية المنتخبة في تنفيذ وعودها الانتخابية المتعلقة بتحقيق العدالة الانتخابية. وهو ما ألهم الاحتجاجات الاجتمـاعية التي قد تودي بحكومة الصيد إذا استمرّت في هذا المنهج من التعاطي معها.
----------------------------
* نقلا عن العرب اللندنية، 12/05/2015.