5 إبريل 2015
حظي اتفاق إعلان المبادئ لسد النهضة بقدرٍ كبيرٍ من اهتمام المراقبين والمحللين السياسيين، فضلاً عن اهتمام الأوساط الرسمية والإعلامية المختلفة. ويكشف هذا الشغف بتلك القضية ما وصلت إليه وتيرة التفاعلات الهيدروبوليتيكية (المائية-السياسية) في حوض النيل في الآونة الأخيرة، ولاسيما قبل توقيع اتفاق إعلان المبادئ، إلى درجة كبيرة من التصعيد السياسي.
ولقد أسهمت التطورات الأخيرة في قضية مياه النيل في تأزيم الموقف، ولاسيما في ضوء استدعاء مقولات "حرب المياه" –الوشيكة- التي وردت غير مرة في تصريحات رئيس وزراء إثيوبيا الراحل "ميليس زيناوي". وبالتوازي مع تلك التطورات، جاء إعلان إثيوبيا -أحادي الجانب- في فبراير 2011 عن اعتزامها بناء "سد النهضة" بمواصفات فنية، من شأنها تهديد الأمن المائي المصري. وشرعت إثيوبيا بوضع حجر أساس السد في 2 أبريل 2011، لتبدأ منذ ذلك التاريخ حلقة جديدة من حلقات التفاوض لإدارة الصراع المائي بين مصر وإثيوبيا.
وبطبيعة الحال، أثارت تلك التطورات مخاوف جمة لدى قطاعاتٍ واسعةٍ في المجتمع المصري. ومن ثم، بدا أن "منهج التهويل" هو الطرح الرائج في التعامل مع قضية مياه النيل بصفة عامة، والعلاقات المصرية-الإثيوبية بصفة خاصة.
بيد أن التوقيع الثلاثي لمصر والسودان وإثيوبيا على "وثيقة إعلان مبادئ سد النهضة" في هذه اللحظة الزمنية أسهم في تنقية كثير من الأجواء في العلاقات المصرية- الإثيوبية. وبطبيعة الحال، كان الاتفاق المذكور محل تجاذب في الرؤى والتصورات، وتباينت بشأن تقييمه الآراء والمواقف ما بين مؤيد وماعرض.
التحديات الراهنة
في هذا السياق، وبعيدًا عن التهويل أو التهوين، يمكن تحليل "اتفاق إعلان مبادئ سد النهضة" من منظور "التحديات الراهنة في حوض النيل"، وضرورات الاستجابة معها مرحليًا، وذلك حتى يمكن تلمُّس رؤية مستقبلية وموضوعية للسياسة المائية المصرية تجاه تلك التحديات.
بدايةً، من المهم الإشارة إلى أن وثيقة إعلان المبادئ تلك لا تعدو أن تكون مجرد وثيقة استرشادية حاكمة وناظمة لعدد من المبادئ والأسس التي ستمثل الإطار العام لأية اتفاقيات لاحقة لتقنين العلاقات بشأن سد النهضة. فالإعلان يتضمن عشرة مبادئ أساسية تتسق في مجملها والقواعد العامة في مبادئ القانون الدولى الحاكمة للتعامل مع الأنهار الدولية. ومن ثم، فهي ليست اتفاقية بالمعنى الحرفي. ويمكن تشبيهها في هذا السياق باتفاق كامب ديفيد عام 1978 الذي وضع الأساس لاتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية التي وقعت في 26 مارس 1979.
إن السياق الزمني المرتبط بتوقيت توقيع إعلان المبادئ بالغ الأهمية، وله دلالات سياسية مهمة. فمن ناحية، يأتي إعلان المبادئ في لحظة زمنية تُحسن فيها إثيوبيا توظيف السياقين الإقليمي والدولي لتحقيق أهدافها الاستراتيجية من خلال دخولها عبر العقدين الماضيين في شبكة من العلاقات الاستراتيجية الخاصة (Special Relationship) مع الفواعل الدولية والإقليمية. ومن ناحية أخرى، فقد جاء إعلان المبادئ في توقيت مهم لإزالة حالة القلق والتوتر التي خيمت على العلاقات المصرية-الإثيوبية نتيجة الخلافات حول قضية "سد النهضة".
يؤسس الاتفاق، ولأول مرة، لمرحلة جديدة من التعاون والتنسيق فيما يتعلق بتشغيل السدود، حيث يوفر أرضية صلبة لمبادئ حاكمة تضمن التوصل إلى اتفاق كامل بين مصر، وإثيوبيا، والسودان حول أسلوب وقواعد ملء خزان السد وتشغيله السنوي بعد انتهاء الدراسات المشتركة الجاري إعدادها، فضلاً عن إنشاء آلية تنسيقية دائمة من الدول الثلاث للإشراف على والتعاون في عملية تشغيل السد بما يضمن عدم الإضرار بمصالح دول المصب. وهى خطوة في غاية الأهمية خلال المرحلة الحالية، وستكون أكثر إلحاحية خلال السنوات القادمة، في ضوء الخطط المستقبلية لإقامة السدود في كل من إثيوبيا والسودان.
إن الجانب الأكثر إشراقًا في إعلان المبادئ لسد النهضة هو أنه كشف عن نمط جديد لم تألفه الدبلوماسية المصرية، وهو المتمثل في "دبلوماسية المياه" Water Diplomacy. وتنصرف الأخيرة إلى مجموعة الأنشطة والفعاليات التفاوضية والدبلوماسية التي تستهدف قضية مائية معينة، بحيث يتم حشد الكوادر والجهود البشرية، وتخصيص الإمكانات المادية والرمزية، خلال فترة زمنية محددة، لتحقيق أهداف على الصعيد المائي الدولي، وبحيث تكون هناك خطة استراتيجية مائية تسعى الأجهزة الدبلوماسية من خلال تحركاتها وأنشطتها الخارجية إلى تحقيق أهدافها.
دبلوماسية غير تقليدية
وتعد "دبلوماسية المياه" واحدة من الدبلوماسيات الجديدة وغير التقليدية التي شاعت في الآونة الأخيرة في ممارسات العلاقات الدولية، شأنها شأن: "الدبلوماسية النووية"، و"دبلوماسية التنمية"، و"دبلوماسية المال"، و"دبلوماسية البترول"، و"دبلوماسية المرأة"، و"دبلوماسية الشباب". ولعله من المفيد القول إن فعالية "دبلوماسية المياه" تزداد إذا ما اقترنت بالصيغ غير النمطية من الدبلوماسية، وبصفة خاصة "دبلوماسية القمة".
إن تأمل التحركات الدبلوماسية الحثيثة، قبل وأثناء وعشية توقيع إعلان مبادئ سد النهضة، يكشف عن نشاطٍ ملحوظ لتفعيل دائرة حوض النيل ضمن دوائر السياسة الخارجية المصرية، وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال حرص القيادة السياسية المصرية على تحيُّن الفرص والمناسبات الرسمية لعقد لقاءات رئاسية مع قادة وزعماء دول حوض النيل، والاجتماع في عديد المناسبات مع رئيس وزراء إثيوبيا "هيلا ميريام ديسالين"، لدرجة أن الحركة الرئاسية أصبحت تفوق في سرعتها وتواترها حركة المؤسسات الأخرى.
تتجلى "دبلوماسية المياه" كذلك في الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس المصري للدولة الإثيوبية في اليوم التالي لتوقيع إعلان المبادئ، وهي الزيارة التي كانت مرتقبة منذ ثلاثة عقود، وتضمنت زيارة لعدد من المؤسسات الرسمية الإثيوبية، أهمها البرلمان الإثيوبي، ومن خلاله كانت مخاطبة الشعب الإثيوبي بتصريحات بالغة في الدقة والدلالة. حيث جاء التصريح الرئاسي للرئيس عبد الفتاح السيسي، حين قال: "إن توقيع إعلان مبادئ سد النهضة الإثيوبي هو أولى خطوات طريق التفاهم والتقارب بين مصر، والسودان، وإثيوبيا"، مُلحقًا ذلك بتصريح حاسم يؤكد أولوية المصالح المائية المصرية بقوله: "إن مصر ليس لديها تحفظات على مشروعات التنمية في إثيوبيا المرتبطة بسد النهضة بشرط مراعاة حقوق مصر المائية".
وتتضح أهمية دبلوماسية المياه المقرونة بدبلوماسية القمة من أنه يلزم لاستمرار قوة الدفع لتدعيم مسيرة العمل التعاونى فى "حوض النيل "عدم الاقتصار فقط على قضايا التعاون فى قضايا السياسة الدنيا، رغم تنوعها، وإنما يجب أن يفكر المسئولون والمعنيون بإدارة الشأن المائي في مصر فى ضرورة تحقيق قدر من التعاون في مسائل وقضايا السياسة العليا، وذلك من خلال التعاون في المجالات السياسية– الأمنية. إن من شأن توافر هذا الإطار السياسى - الأمنى أن يعمل كقوة دافعة نحو تعزيز خطى العمل التعاونى فى قضايا السياسات الدنيا الأخرى، كما أنه يحول دون حدوث الانتكاسات (spill - back) المتوقعة فى بعض قطاعات السياسات الدنيا.
فمن المعروف أنه في الأول من يوليو عام 1993 ، تم توقيع وثيقة إعلان مبادئ تتشابه إلى حدٍ كبير مع تلك الموقعة أخيرا. بيد أن ما حمل إثيوبيا على عدم الالتزام باتفاق 1993 هو الانزواء والتراجع المصري عن تدعيم العلاقات مع إثيوبيا، وافتقاد العمل، وفق منهج "دبلوماسية المياه". بعبارة أخرى، يمكن القول إن غياب دبلوماسية المياه ضمن مصفوفة الدبلوماسية المصرية في العقدين الماضيين هو ما أعطى المبرر لإثيوبيا وغيرها من الدول النيلية للخروج من حيز النفوذ المصري.
من الطبيعي أن تتبنى مصر "دبلوماسية المياه"، أو بتعبير أدق "دبلوماسية النيل" Nile Diplomacy في الآونة الراهنة، حيث يستمد نهر النيل أهميته بالنسبة للمصريين من كونه يمثل المصدر الرئيسي للمياه العذبة في مصر، إذ تعتمد مصر على مياهه اعتمادًا يكاد يكون كليًا في الاستعمالات الزراعية، والصناعية، والمنزلية، فهو يُؤمِّن نحو 96.5% من الاحتياجات المائية السنوية لمصر، في حين لا تزيد نسبة الاعتماد المائي على المصادر الأخرى، كالأمطار، والمياه الجوفية، وتحلية مياه الصرف الزراعي والصحي، على أكثر من 3.5-5% على أحسن تقدير.
ولذلك، فإن أيَّ نقصٍ في كمية المياه التي ترد إلى مصر من نهر النيل يؤثر تأثيرًا سلبيًا ومباشرًا في إنتاجها الزراعي والصناعي، ولذلك تعد حصة مصر من مياه النيل هي الحد الأدنى المطلوب لسد الاحتياجات المائية، وذلك على عكس جميع دول حوض النيل الأخرى التي تسقط عليها أمطار غزيرة، وتتوافر لديها كميات هائلة من المياه الجوفية، وأنهار أخرى عديدة.
إن المجال الأكثر أهمية لسياسة مصر الخارجية في المرحلتين الراهنة والمقبلة هو علاقتها بدول حوض النيل. فمن المقطوع بصحته أن نهر النيل كان دوماً هو أصل وأساس الحياة في مصر التي كانت ولا تزال هبة النيل.
إن "دبلوماسية المياه" المصرية تفرضها معطيات الوضع الجيوبوليتيكي لمصر، كون "الدائرة النيلية" لمصر تتمثل جغرافيًا فيما يمكن تسميته "النظام الإقليمي المائي لحوض النيل"، والتي يتم من خلالها العمل على إدارة العلاقات الهيدروبوليتيكية (المائية-السياسية) في حوض النيل، والحفاظ على المصالح المائية المصرية مع دول الحوض، في إطار من تفعيل التعاون، وإعمال منهج التنمية المتواصلة والعادلة لموارد النهر بهدف تحقيق النفع المشترك والمتبادل لجميع الدول النيلية، وفق "منهج اربح – اربح" (Win-Win Approach). كما قد يتطلب الأمر في بعض الأحيان من "دبلوماسية المياه" المصرية أن تقوم بإدارة "التفاعلات الهيدروبوليتيكية الصراعية" لصون الأمن المائي المصري.
ولا يمكن إعادة بناء علاقات مصر بدول حوض النيل من خلال دبلوماسية المياه المقترحة إلا من خلال سياسة إفريقية مساندة.
مخاوف وهواجس
تبقى مخاوف وهواجس المتخصصين بحق في هذا الملف مشروعة وقائمة ومبررة بعد توقيع إعلان المبادئ لسد النهضة، ومن بين تلك المخاوف: أن الإعلان تضمن اعترافًا صريحًا بالسد، وأن هذا الاعتراف من جانب دول المصب سيكون كفيلاً بإزالة الحرج الناشئ عن عدم التزام إثيوبيا بشرط الإخطار المسبق، ومن ثم يزول الحرج عن مؤسسات التمويل لتدفق التمويل للسد، فضلاً عن إصرار الجانب الإثيوبي على تأكيد الهدف التنموي للسد، وعدم الاقتصار على توليد الكهرباء فقط، كما أعلنت إثيوبيا من قبل. ربما يزيد من الهواجس استغلال مياه البحيرة التي ستتكون أمام السد في الأغراض الزراعية؛ وهو ما ينعكس سلبًا على الحصة المائية المصرية، بالإضافة إلى أن تأكيد مبدأ سيادة الدول ربما يكون ذريعة من الجانب الإثيوبي للتحجج بحريتها المطلقة في استغلال جزء النهر الواقع في أراضيها، ولا سيما أن "الالتزام بعدم التسبب في ضرر ذي شأن" جاء ضبابيًا، فما هو الضرر ذو الشأن؟؛ ومن الذي يحدده؟. يضاف إلى ما سبق أن غياب آلية التحكيم والاقتصار على الآليات السياسية لتسوية المنازعات قد يكون في مصلحة إثيوبيا. كذلك، فإن إصرار إثيوبيا على عدم تضمين وثيقة الإعلان كلمة "إلزام"، وتأكيد كلمة "احترام"، نيابة عنها يكشف عن عدم صفاء النيات الإثيوبية.
بيد أن كل تلك المخاوف تتبدد أمام مهارة "دبلوماسية المياه" وفعاليتها واستدامتها. ومن ثم، وجب تأكيد أن إدارة التعاون المائي لا تقل أهمية عن إدارة الصراع، لذا وجب التسلح بكل مقومات القوة الناعمة المصرية، وآن الأوان لأن يتصدر هذا الملف الكفاءات من مختلف التخصصات، فذلك هو الرهان الحقيقي لمواجهة التطورات الراهنة في حوض النيل، والحفاظ على الأمن المائي المصري.