12 مارس 2015
عرض : باسم راشد، باحث في العلوم السياسية
أثار كتاب "النظام العالمي"، الذي صدر في سبتمبر 2014 لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، الكثير من ردود الأفعال داخل الأوساط البحثية. فالكتاب الذي يطرح فيه كيسنجر رؤيته للنظام العالمي الجديد، على ضوء التطورات الدولية في مختلف مناطق العالم، سواء في الشرق الأوسط، أو أوروبا، أو آسيا، تسابقت الأقلام على عرضه بنظرة لا تخلو من نقد أحيانًا، وإشادة أحيانا أخرى، سواء فيما يتعلق بالأفكار التي وردت به، أو في كيفية تطبيقها على أرض الواقع، بل وكيفية معالجة تصدعات النظام العالمي القائم حاليا، في خطوة لبناء نظام عالمي جديد أكثر تماسكا.
ومن ضمن المقالات المهمة التي كتبت حول هذا الكتاب، كان مقالا للدبلوماسي الألماني وولفجانج إيشنجر، المنشور في مجلة الشئون الخارجية"Foreign Affairs"، والذي يؤيد فيه إلى حد كبير آراء كيسنجر في كتابه، برغم أنه وجه بعضا من الانتقادات لأفكار وزير الخارجية الأمريكية الأسبق .
ماهية النظام العالمي؟
يشير إيشنجر إلى أن محور كتاب كيسنجر هو استكشافه للتفسيرات المختلفة لفكرة النظام العالمي والاقترابات المتنافسة في كيفية بنائه، إذ يعرِف مفهوم النظام العالمي ابتداء بأنه "المفهوم الذي تنتجه حضارة أو إقليم ما حول طبيعة الترتيبات وتوزيع القوة التي يُعتَقَد أنها قابلة للتطبيق على العالم بأسره". هذا النوع من النظام يعتمد على مكونين أساسيين، أولا: مجموعة من القواعد المتفق عليها، والتي توضح حدود السلوكيات الجائزة، ثانيا وأخيرا: توازن القوى الذي يعيق محاولات كسر تلك القواعد، ويمنع أي وحدة سياسية من إخضاع الآخرين لها.
كما أن النظام العالمي، طبقا لكيسنجر، لا يتأتى فقط من الثروة الاقتصادية، والقوة العسكرية، بل أيضا من قوة الأفكار برغم أن، طبقا له، الأفكار الأكثر أهمية هي الخاصة بالأطراف الأقوى. فالأفكار التقليدية، كالسيادة وعدم التدخل، لاتزال تحافظ على مكانتها العليا، وهي التي شدّت دعائم النظام العالمي لما يقرب من أربعة قرون.
وبرغم أن عالم اليوم في تغير مستمر، وأن الفواعل القوية في ذلك النظام تحاول أن تقدم بدائل مختلفة للتمكن من إدارته، فإن النظام الذي يسود دوما في النهاية هو الذي يعتمد على الشرعية وتوازن القوى.
معاهدة ويستفاليا.. الماضي يصنع الحاضر
أشار إيشنجر إلى أن حديث كيسنجر في كتابه عن معاهدة ويستفاليا وتأكيده أنها هي السبب الرئيسي في إنشاء النظام العالمي الحالي، لم يكن مجرد واقعة تاريخية، بل إن ميزته أنه ربط معطيات ذلك التاريخ بهياكله المختلفة، وبتفاعلات الواقع الحالي وسياساته في محاولة لفهمها بشكل أكثر عمقا.
فالأفكار الغربية فيما يتعلق بالدولة والسياسة تم فرضها على الأقاليم المختلفة في أوقات الاستعمار، ولا تزال حتى الآن تتنافس مع الرؤى القديمة حول النظام وتوزيع القوى، والتي لا يمكن تجاهلها. ينطبق هذا الأمر كلية على منطقة الشرق الأوسط، إذ يشرح كيسنجر من خلال كتابه طبيعة وتأثير الشقاق الدائم بين السنة والشيعة على العالم الإسلامي المعاصر، وعلى ظهور الدول العلمانية بعد نظام ويستفاليا. أما الآن، فإن ذلك النظام، الأوروبي الطابع، مُهدد بصعود الإسلام السياسي العابر للحدود، سواء في شكل حركات سياسية، كجماعة الإخوان المسلمين، أو الجماعات الجهادية، كتنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والذي يمثل تهديدا جديدا لذلك النظام.
مثال آخر يسوقه إيشنجر من كتاب كيسنجر، هو العلاقات الأمريكية– الإيرانية، والتي يصفها كيسنجر بأنها علاقات بين خصمين، أحدهما يرى نفسه حارس النظام العالمي الليبرالي، والآخر يضع نفسه عن عمد خارج هذا النظام من الأساس.
وفي هذا الإطار، يعود كيسنجر لتاريخ الإمبراطورية الفارسية، وتقليد فن الحكم الإيراني في ذلك التوقيت، وكيفية سعي إيران لأن تكون أكثر من مجرد دولة عادية بالمعنى الويستفالي. وقد أثر ذلك المنظور بشكل كبير في المفاوضات التي تجري حاليا حول برنامج إيران النووي. ودعا كيسنجر في هذا الصدد الولايات المتحدة إلى ضرورة تدعيم العلاقات التعاونية بينها وبين إيران على أساس مبدأ عدم التدخل، واستغلال سياسات توازن القوى وتحالفاتها مع الدول السنية في الإقليم لدفع إيران نحو هذا التعاون.
والنتيجة النهائية لتلك المحاولات ستحدد أي الطرق ستسلكها طهران في النظام العالمي؛ هل ستسعى في طريق الإسلام الثوري، أم طريق الأمة العظيمة الشرعية والمستقرة داخل نظام ويستفاليا؟.
كذلك في إقليم آسيا، الذي كثيرا ما تنافست فيه الرؤى الغربية مع الرؤى الأصيلة، إذ يولي كيسنجر أهمية خاصة للصين، وهو ما يرجع إلى تاريخ الفكر الإمبراطوري، وطبيعة رؤية الصين للعالم التي ترى أن الدولة لم تكن القوة المركزية الوحيدة بين عديدين، بل إنها الحكومة السيادية الوحيدة في العالم، بحيث يكون الإمبراطور الصيني الحاكم لكل شىء "تحت السماء".
وطبقا لكيسنجر، فإن الصعود الصيني في القرن الحادى والعشرين يشتمل على سعي بكين لإحداث التوازن بين تلك الأفكار القديمة ودورها الجديد كـ "قوة عظمى منافسة في نموذج ويستفاليا". وبرغم تأكيده أن الصين والولايات المتحدة لديهما وجهات نظر متنافسة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنه أكد أن لديهما مصلحة مشتركة في تجنب الصراع.
الدور المناسب للولايات المتحدة
يرى إيشنجر أن الجزء الخاص بدور الولايات المتحدة في النظام العالمي في كتاب كيسنجر هو الجزء الأكثر أهمية، إذ إن تحليله لهذا الدور اعتمد على استكشافه العميق للاتجاهين المتنافسين اللذين شكلا السياسة الخارجية للولايات المتحدة على مر التاريخ، وهما الواقعية البراجماتية للرئيس روزفلت، والمثالية الليبرالية للرئيس ويلسون.
وبرغم تأكيد كيسنجر الدور الذي تلعبه القيم الليبرالية في السياسة الأمريكية، بل إنها تعد المدافع عن تلك القيم، فإنه لا يمكن لأي دولة أن تقوم بهذا الدور منفردة، مشيرا إلى أن القوى الأوروبية كانت دوما الشريك الطبيعي للولايات المتحدة في الحفاظ على تلك القيم، داعيا إلى تعزيز تلك العلاقات ودعمها، ليس فقط لرفع مستوى تأثير النفوذ الأوروبي في الشئون الدولية، بل أيضا في منع ظهور قيم أخرى سيئة.
وفي السياق نفسه، اتفق إيشنجر تماما مع ما ورد في كتاب كيسنجر حول أن تطبيق المبادئ التي أقرها النظام الدولي يجب أن يتم بشكل صحيح ومناسب للحفاظ على استقرار النظام، بل والتركيز على الهدف الذي تأسست من أجله كمبدأ "مسئولية الحماية"، الذي يستدعي المجتمع الدولي للتدخل في حالة عدم قدرة الدولة على حماية مواطنيها. فهذا المبدأ، كما يشير كيسنجر، قد يؤدي إلى عدم استقرار النظام، إذا تم استخدامه بشكل خاطئ.
نظام عالمي جديد؟
يشير إيشنجر إلى أن الدول القومية لا تزال هي الفاعل الأساسي في النظام الدولي، طبقا لكيسنجر. فلا المؤسسات الدولية، أو الفاعلون من غير الدول يحتلون الأهمية نفسها في كتابه، لأنهم يأتون في مرتبة أدنى من مرتبة الدولة القومية. وبرغم ذلك، فإن كيسنجر مدرك تماما أن هناك عوامل أخرى غير سياسات الدول العظمى تؤثر فى استقرار النظام الدولي من عدمه، ومن أهمها الاقتصاد العالمي، والبيئة، وظاهرة التغير المناخي، والتطور التكنولوجي.
ففيما يتعلق بالاقتصاد العالمي، يمكن القول إن انتشار أفكار العولمة، والتكامل الاقتصادي قد فرضت تحديات جديدة. فانتشار الرأسمالية والتجارة الحرة، برغم أنها انتشلت الملايين من دائرة الفقر، فإنها خلَّفت درجات غير مستدامة من عدم المساواة. وكذلك برغم إسهام التكامل الاقتصادي في تحقيق النمو في العديد من الدول، فإنه أيضا وسَّع نطاق الصدمات الاقتصادية لتلك الدول.
أما بالنسبة لظاهرة التغير المناخي، فلا يزال النظام الدولي يقف عاجزا أمامها، خاصة أنها تخرج عن سيطرة صُنَّاع القرار، وقد تدفع تلك الكارثة البيئية إلى تجمع دول العالم مع بعضها لمواجهتها. إلا أنها على الجانب الآخر قد تدفع إلى مزيد من التوتر وعدم الاستقرار للنظام ككل.
وحول التطور التكنولوجي الذي شهده، ولا يزال يشهده العالم، فقد انتقد إيشنجر ما ورد في كتاب كيسنجر حول قيمة وأهمية التكنولوجيا. فبرغم إدراك الأخير ( أي كيسنجر) لدور التكنولوجيا في تحقيق العديد من الإنجازات العظيمة، فإنه جانبه الصواب في التقليل من طبيعة تفكير مستخدمي تلك التكنولوجيا، حيث رأى أنهم لا يعرفون كثيرا عن التعقيدات الحقيقية.
إذ يشير إيشنجر إلى أنه لا يمكن إنكار أن التكنولوجيا الجديدة قد غيَّرت طبيعة ممارسة الدبلوماسية نفسها، حيث أصبح على الدبلوماسيين الحديث لجماهير الواقع الافتراضي، والواقع الحقيقي على السواء، بل إن الهجمات الإلكترونية التي ظهرت أخيرا أكدت، بما لا يدع مجالا للشك، أن الفضاء الإلكتروني قد أصبح ساحة للمعارك بين الدول.
ويختتم إيشنجر مقاله بأنه على الرغم من التغيرات الكبيرة التي حدثت في العالم في القرن الماضي، فإن كيسنجر لا يزال متمسكا بإصراره على أن إدارة العلاقات بين الدول العظمى هى الأكثر أهمية في هذا النظام الجديد.