عرضت فى مقال الأسبوع الماضى بعض ما أحسبه دوافع حرص عدد من صانعى القرار والباحثين الإيرانيين المعنيين بشؤون العالم العربى، على تأكيد رغبة إيران فى مد أواصر التعاون الوثيق مع مصر خلال لقاءات أجراها وفد من الباحثين المصريين، كنت أحد أعضائه، فى العاصمة الإيرانية طهران مؤخرا. لكن تبقى تفاصيل الرؤية الحاكمة لمثل هذا التعاون هى فقط التى يمكنها تحديد فرص تحققه ومعوقاته. وهنا تبرز رسالتين تم التشديد عليهما من قِبل الجانب الإيرانى:
الرسالة الأولى، أن هناك مصلحة مصرية فى التباعد عن الجوار الخليجى والتقارب استراتيجيا بدلا من ذلك مع إيران. ويتجاوز هذا الطرح ما كان يتردد عادة من ضرورة فصل العلاقات المصرية-الإيرانية عن ما يشوب العلاقات الخليجية-الإيرانية من هواجس أو توترات. وتعددت الحجج الإيرانية فى هذا الصدد لتشمل:
1- التماثل الحضارى بين مصر وإيران فى المنطقة وما يتيحه لهما ذلك من تقارب يحد من المخاطر والتهديدات التى تطرحها الثقافة البدوية النابعة من شبه الجزيرة العربية، خاصة فى ثوبها الوهابى المتشدد، ليس فقط لكلا البلدين ولكن للمنطقة بأسرها.
2- محاولة السعودية احتواء دور مصر الإقليمى وفرض إطار من التبعية عليه من خلال استغلال الدعم الاقتصادى الذى تقدمه المملكة إلى مصر.
3- فرصة أن تجد مصر فى العلاقات الاقتصادية مع إيران بديلا استراتيجيا لعلاقاتها مع دول الخليج العربية.
4- وأخيرا، ادعاء أن مصالح مصر السياسية والاقتصادية والأمنية فى منطقة الخليج العربى ليست استراتيجية الطابع بقدر المصالح الإيرانية.
ومن دون التطرق تفصيلا، بسبب اعتبارات المساحة، إلى بيان عناصر التهافت فى تلك الرؤية التى لن يكون لها من نتيجة إلا تقزيم دور مصر الإقليمى وفرض وصاية عليه، فإنه يجب الوعى أن ابتعاد مصر عن جوارها الخليجى يتيح لإيران التفرد بفرض نظام أمنى، بل وهيمنة أمنية، على دول الخليج العربية، خاصة حال التوصل إلى اتفاق نووى إيرانى-غربى متوقع. كما أن هذا الفصل سيحد من قدرات كلا من مصر ودول الخليج على احتواء نفوذ إيران وهيمنتها فى مناطق الصراعات المتفجرة عبر الإقليم خاصة فى مناطق الشام والعراق واليمن.
الرسالة الثانية، أن إيران لا تعتبر جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، وأنها -أى إيران- ستواصل دعم حركة حماس فى غزة إلى أقصى مدى بما فى ذلك إمكانية تزويدها بتكنولوجيا متقدمة لإنتاج الصواريخ، على حد تصريح أمير عبداللهيان، مساعد وزير الخارجية الإيرانى للشؤون العربية والإفريقية. وقال أكثر من متحدث إيرانى إن جماعة الإخوان المسلمين تقدم رؤية للإسلام السياسى يمكن قبولها من قِبل إيران أكثر الرؤى الأخرى الأكثر تشددا المطروحة فى الفضاء السنى. وفى ظل ما تعلمه يقينا، وما يتم تأكيده من الجانب المصرى فى مختلف المحافل المصرية-الإيرانية، من تورط جماعة الإخوان وحركة حماس فى عمليات إرهابية تستهدف تقويض النظام السياسى، بل والدولة، فى مصر، والانقلاب على ثورة الشعب المصرى فى 30 يونيو 2013 ضد حكم هذه الجماعة ومفاسده، فإنه يمكن تحديد ثلاثة أهداف رئيسية تتوخاها السياسة الإيرانية من خلال هذا الطرح الإيران الرسمى والمعلن:
1- فرض نوع من الوصاية على مختلف تيارات الإسلام السياسى حتى السنية منها، فى ظل حقيقة أن النظام الإيرانى يحاول طرح نفسه باعتباره النموذج المرجعى لهذا النوع من التيارات.
2- محاولة استغلال حركة حماس كأحد أدوات الردع الإيرانية فى مواجهة إسرائيل، بغض النظر عن مدى توافق هذا التوظيف مع غايات إنشاء دولة فلسطينية بما يستوجبه ذلك من ضرورة موازنة العمل السياسى والمقاوم بأشكاله المختلفة، وتوحد الصف الفلسطينى، وكذلك بغض النظر عما باتت حركة حماس تمثله من تهديد للأمن المصرى بدرجة تفوق حتى أى فعل مقاوم ضد إسرائيل. كما تحاول إيران احتواء الخطر الذى يمكن أن تطرحه جماعة الإخوان المسلمين كمنافس مذهبى فى كل من سوريا واليمن.
3- إدراك إيران لما يمكن أن يمثله الإخوان المسلمون من تهديد لنمط الشرعية المستند إلى ركائز دينية فى المملكة العربية السعودية، وبالتالى ما يمكن أن يكون لدعم هذه الجماعة من تأثير فى تقويض أنظمة الحكم القائمة فى دول الخليج العربية.
لعل المضمون الرئيسى الكامن وراء هذا الطرح الإيرانى هو محاولة تحييد مصر من خلال حوافز اقتصادية بالأساس، وخطاب التقارب الحضارى، عن معارضة أجندة إيران فى لحظة التحول الإقليمية الكبرى الراهنة. لكن هذا الطرح وما يتضمنه من روئ يعجزان حتى اللحظة عن التطور لتقديم رؤية للتواصل الإيجابى بين البلدين بما يضمن توزان الدور والمصالح. وما يبدو أن الرؤية الإيرانية تحاول إغفاله، أو استباقه تحديدا، هو سعى الدولة المصرية الحالية لاستعادة حضورها المستقل والقادر فى السياسة الإقليمية. وتكرر الرؤية الإيرانية فى طرحها هذا القائم على المساومة والإملاء معا، خطأ سياستها الإقليمية الاستراتيجى ألا وهو تغليب المنهج أحادى الجانب، على التوافق والتوازن محيطها العربى.
فى المقابل، يبدو أن مصر تمتلك رؤية واضح لما لا تريد من إيران مواصلة انتهاجه إقليميا، لكن استعادة دور مصر الإقليمى يقتضى تجاوز ذلك إلى تطوير رؤية محددة مقابلة لدور إيرانى إيجابى ومتوازن يضمن استقرار المنطقة ويعززه، دور لن تكفى مجرد رؤية سلبية لتقييده فى بعض الدوائر إلى نفى خطره، ولن تؤدى إلا إلى استمرار تغليب التناقضات التاريخية التى استقرت بين البلدين إقليميا، على فرص التعاون الممنكة والضرورية بينهما فى مواجهة الانهيار المتسارع للمنطقة وما يحمله من مخاطر لن تستثنى أحدا بما فى ذلك مصر وإيران.
----------------------------------
* نقلا عن التحرير، الثلاثاء، 10/3/3015.