أتاحت لى زيارة استغرقت أسبوعا إلى إيران، ضمن وفد من الباحثين المصريين أجرى حوارات مع نظراء إيرانيين حول أفق التقارب بين بلدينا ومعوقاته، مشاهدة بعض من جوانب الحياة والمجتمع فى العاصمة طهران ومدينة أصفهان أو «نصف العالم» بالعربية، ومن ثقافة قطاعات مهمة من أهليهما. وبقدر ما كشفت لى تلك المشاهدات، الأولية والذاتية بالأساس، من آثار تحضر وتمدن لا تخطئها العين، فإنها جلت لى كذلك ما يعتمل داخل قطاعات واسعة فى المجتمع الإيرانى من طاقة تغيير كامنة.
طاقة تغيير يمكن تحديد ثلاثة عوامل رئيسية محفزة لها: أولها معاناة هذا التحضر وهذا التمدن من تدهور القدرة الاقتصادية جراء أعباء المواجهات والصراعات الممتدة التى خاضتها دولة ما بعد الثورة الإسلامية، وثانيها التناقضات القيمية الناجمة عن الطبيعة الشمولية لنموذج الحكم الدينى المحافظ التى يبدو أنها تتعارض مع مكونات ثقافية عميقة فى المجتمع ومع ما خبره من تحديث خلال عهود سابقة، واخيرا، التناقضات الاجتماعية التى ينجم جزء منها عن تلك التناقضات القيمية والجزء الآخر عن نمط تنموى يعانى اختلالات توزيع واضحة.
وتنبئ طاقة التغيير تلك بأن أى انفتاح جوهرى وواسع النطاق لهذا المجتمع على العالم، فى ظل أى اتفاق لتسوية الملف النووى الإيرانى مع الغرب، سيقود إلى تحولات كبرى فى المجتمع والدولة الغيرانيين، تحولات تتحسب لها بالتأكيد القيادة الإيرانية الحالية فى إدارتها لحدود الانفتاح ونطاقه، بقدر ما قد يعمل خصومها أيضا على محاولة استغلالها لبلوغ ما يتجاوز بكثير حدود الملف النووى بكل تعقيداته. وبالرغم من أن تلك التحولات المحتملة لا تندرج مباشرة فى إطار ما نحاول مقاربته فى هذا المقال، وهو ما يباعد بين مصر وإيران، وما يمكن أن يقربهما، فى فضاء السياسة، فإنه لا يمكن تجاهلها عند البحث فيما هو متاح أمام مصر من خيارات للتعامل مع إيران سواء فى اللحظة الراهنة أو فى المستقبل.
وعند فحص أفق التقارب ومعوقاته بحسب ما سمعناه من رؤى إيرانية خلال الزيارة، نلحظ أن حيز المشاهدة يتراجع كثيرا مع تدنى الشواهد الحقيقية، حتى اللحظة على الأقل، على ما تضمنته تلك الرؤى من حرص على الدعوة للتقارب والتعاون والانفتاح بين البلدين. حرص يستدعى فى البداية التساؤل حول دوافعه ومحفزاته، فى ظل ما خبرته علاقات البلدين، ولا تزال، من نقاط تنافس، بل وتعارض فى كثير من الملفات الإقليمية.
يمكن تحديد أول دوافع الحرص الإيرانى على التقارب مع مصر فى ما تبصره، بل وتستهدفه، القيادة الإيرانية من إعادة تعريف لدور بلادها الإقليمى فى ظل الفرص التى قد تتيحها أى تهدئة قريبة ومحتملة لحدة المواجهة مع القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، عبر المنطقة. من شأن مثل تلك التهدئة أن تمنح إيران حرية حركة أكبر، خارج نطاق الاقتراب الصراعى، لتعزيز مصالحها الإقليمية من خلال الاستفادة من مشاريع التنمية الكبرى العابرة للحدود، وبشكل خاص فى الفضاء الممتد بين البحر المتوسط وحتى حدودها مع العراق، على غرار مشروع إحياء طريق الحرير القديم، إضافة إلى محاولة جذب الاستثمارات الخليجية الضخمة وتعزيز الحضور الإيرانى على خط التجارة الدولى المار بمنطقة بحر العرب وخليج عدن. وبقدر ما يقتضى استغلال تلك الفرص من العمل على تسوية الصراعات المتفجرة فى كل هذه الدوائر، فإن دور إيران كأحد أطراف تفجيرها وتصعيدها يحد بدرجة كبيرة من قدرتها على تسويتها بشكل منفرد. وفى هذا الإطار يبدو أن مصر تمتلك فرصا أكبر للعب دور بارز ورئيسى فى العمل على إطفاء الحرائق المستعرة فى المنطقة، وهو الدور الذى تبدو إيران حريصة على التقارب معه، والعمل على توجهيه، وليس منافسته بالضرورة.
الدافع الرئيسى الثانى، الذى يمكن تبينه، هو تصاعد الصراع على إعادة ترتيب خرائط المنطقة الأمنية، فى ظل ما يبدو من توجه فعلى لخفض الانخراط العسكرى الأمريكى فيها، ومحاولة البحث عن وكلاء سواء محليين فى المنطقة، أو من حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، للنهوض ببعض الأدوار الأمنية التى تسعى الولايات المتحدة لتقليص حضورها فيها، خاصة ما يتعلق بالانتشار البرى والبحرى. وبقدر ما يرجح أن تتضمن تلك الترتيبات محاولة توظيف مُقيد لقوة إيران عبر المنطقة، فإنها ستتضمن كذلك، وجراء توازنات الضعف التى تسعى الولايات المتحدة لتكريسها فى ظلها، تناقضات لا يمكن إنكارها مع مصالح ورؤى الأطراف الإقليمية الرئيسية فى المنطقة، فى المقدمة منها مصر وإيران. ويبدو أن إيران تحاول استباق تلك الترتيبات بطرح أجندة أمن إقليمية تحاول تحييد دور مصر فى دوائر بعينها، خاصة منطقة الخليج العربى، مقابل التنسيق معها فى دوائر أخرى، قد تكون الشام واليمن وفلسطين. وفى التحليل النهائى، يبدو أن إيران من خلال طروحات التقارب تحاول مقايضة مصر على بعض حضورها الأمنى فى المنطقة.
الدافع الثالث الرئيسى هو محاولة إيران استباق بروز دور مصرى إقليمى قوى وأكثر استقلالا، فى ظل اتجاه دولة ما بعد 30 يونيو 2013 فى مصر، إلى إعادة تأسيس هذا الدور بمقدرات وأهداف متحررة من أعباء ما عرفته السياسة المصرية، ورضخت له، من ارتهان لهيمنة القطب الأمريكى، منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين. ويبدو أن إيران تحاول فرض أجندة لهذا الدور وللعلاقات بين البلدين فى اللحظة الراهنة التى تظنها تتضمن اختلالا لمصلحتها فى موازين القوة.
فى ضوء هذه الدوافع الثلاث يمكن فهم كثير مما سمعناه فى طهران من طروحات وأجندات إيرانية للتقارب، وهو ما سنعرضه له الأسبوع المقبل.
-----------------------------
* نقلا عن التحرير، الأحد 8/3/3015.