ليست مصادفة أن يتابع تنظيم داعش مسلسلاته الإجرامية مباشرة بعد بث شريط حرق الطيار الأردني، ولم يكن اختيار الساحة المصرية من البوابة القبطية مصادفة أيضاً، فهي صورة نمطية أراد حفرها في الذاكرة الجمعية لمن يواجهه، وهذه المرة بأشكال أكثر إيلاما وقسوة في ارتداداتها وتداعياتها ورد فعلها المحتملة .
لقد استفاد تنظيم داعش إلى أقصى الحدود من عملية حرق الطيار الأردني، إذ جرَّ هذه الأخيرة إلى مواجهات مباشرة معه، بعد سلسة من محاولات النأي، وتكرر ذلك مع الذبح الجماعي للأقباط، العملية التي لها دلالات فارقة من الصعب تقدير أحجامها النهائية منذ الآن . فعملية الذبح الجماعي المصورة، هي سابقة لجهة العدد، الذي أريد من ترويجه تهييج الشارع المصري وتأليبه وبخاصة الأقباط منه، وخلق حالة من الغليان المجتمعي في مصر، لا سيما أن بيئة الصدام تراكمت منذ سنوات مؤخرا، رغم حالات الاحتواء التي أسهمت في تبريد الأجواء بعد الحراك الداخلي، بمختلف خلفياته ونتائجه السياسية التي تسلمت الحكم منذ عزل الرئيس حسني مبارك وطاقمه السياسي .
والصور التي بثت لترويج آثار الجريمة، تختلف عن سابقاتها من الصور، ومفارقاتها التي لا تعد غريبة بالضرورة قياساً على عمليات الترويج السابقة، أنها حاولت إيصال صور البحر الذي طغى عليه لون الدم، وهي رسالة إجرامية لمكنونات الإيديولوجية الداعشية ووسائلها القائمة على فن الصدمة والترويع، وهي وسيلة استعملت في غزو الولايات المتحدة للعراق في عام ،2003 والتي هدفت القضاء على الخصم بأقل الخسائر الممكنة إن لم تكن معدومة . وهي بذلك رسالة مزدوجة للداخل المصري، وللضفة الشمالية للبحر المتوسط بشقه الأوروبي الذي لا يبعد سوى مئات الكيلومترات عن مسرح الحدث .
والمسألة هنا لا تقتصر على عدد المذبوحين فقط، إنما تم انتقاء الضحايا لجهة دينهم وليس لأي سبب آخر، بهدف استغلال هذا العامل المؤثر في سياق الاستثمار الإجرامي لاحقاً، وعلى الرغم من أنها ليست الحالة الأولى التي يتم ذبح مسيحيين، إذ جرت عمليات منفردة عدة لضحايا غربيين، كانت تمرر صفتهم الدينية إلى جانب انتمائهم لدولة بعينها . لكن هذه المرة كان التصويب مباشرة على الصفة الدينية ليس إلا .
والمسألة الأكثر احترافية كانت في انتقاء المكان الجغرافي، الذي يمثل حساسية مفرطة لمصر ولليبيا نفسها أيضاً، وبخاصة ما يرتاب هذه العلاقة من شوائب مردها خلفيات وأسباب مختلفة راكمتها ظروف كثيرة في السابق، يصعب بلعها وهضمها في أي سياق رد فعل مصري على الجريمة، وما يقابله من رد فعل ليبي أيضا، وهو ما بدأت صوره تظهر بشكل متسارع حيال كيفية التدخل لمواجهة داعش في شمال إفريقيا وفي الساحة الليبية تحديداً، فهل يستوجب رداً منفرداً من قبل مصر، أم يتطلب الأمر تحالفاً دولياً على غرار ما تمَ إنشاؤه في القرار ،2170 وهو أمر يبدو خلافياً في مجلس الأمن حتى الآن .
من الواضح، أن تنظيم داعش يعرف تماماً سياسة الجر والتوريط والاستثمار، فهو لعبها باحترافية في الساحة الأردنية، واليوم يستنسخها باحترافية أكبر وأضخم في الساحة المصرية، وبهذا تمكن من وضع نفسه تنظيماً إرهابياً بمواجهة دول وازنة في المنطقة، بعد سلسلة انتكاسات تعرّض لها مؤخراً، علاوة على قدرته على تكوين بيئات قوية لاقتتال دول ومجتمعات بعضها ببعض، ويبدو أن جريمته الأخيرة ستجر شمال إفريقيا وبخاصة العربية إلى ساحات لعمليات إرهابية من الصعب أن يُغض النظر عنها في الدول والمجتمعات المستهدفة، الأمر الذي ستكون له ارتدادات اجتماعية وسياسية لا يستهان بآثارها مستقبلاً .
------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الإثنين، 23/2/2015.