أثار ذبح 21 مصريا في ليبيا على يد "داعش"، وقيام المقاتلات المصرية بشن غارات على بعض معسكرات ومناطق تمركز، وتدريب، ومخازن أسلحة وذخائر ذلك التنظيم الإرهابي بالأراضي الليبية، تساؤلات حول المخاطر المحتملة لهذا التنظيم على المنطقة والعالم. وفي محاولة للإجابة على هذه التساؤلات، عقد مركز بحوث الشرق الأوسط ندوة بعنوان" تنظيم داعش عن قرب"، يستعرض فيها خلاصة تجربة واقعية لكاتب صحفي مصري كان قريبًا من ميادين القتال في القرى والمحافظات التي دخلها التنظيم في كل من سوريا والعراق، واستطاع تكوين صورة له عن قرب، بعيدًا عن الصورة التي تنقلها لنا وسائل الإعلام، ووكالات الأنباء الأجنبية.
بدأ الأستاذ الدكتور جمال شقرة، مدير المركز، أعمال الندوة، مشيرًا إلى مراحل تطور الفكر التكفيرى، قائلًا إنه منذ بدايات القرن العشرين، حاول التيار الإسلامي طرح أفكاره التي تطورت بمرور الوقت على يد حسن البنا لتصبح حركة أطلق عليها مسمى "الإخوان المسلمين" في عام 1928، وبدأت هذه الجماعة في بداية الأمر كحركة دعوية سرعان ما تحولت إلى النشاط السياسي، والنزول إلى الميدان. وأوضح أن سلوك هذه الجماعة تجاه القوى السياسية الأخرى اتسم بالعنف منذ بداياتها. ويسجل التاريخ هذا العنف منذ الحل الأول للجماعة على يد النقراشي باشا، حيث مارسوا كل أشكال العنف، والانفصال عن الواقع، ومقاومة الدولة المدنية، كما مارسوا العنف نفسه عند الحل الثاني للجماعة نتيجة لمحاولتهم اغتيال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
ولفت شقرة إلى أنه بعد ظهور الفكر التكفيري لسيد قطب في كتابه "معالم في الطريق"، سألت الجماعة نفسها سؤالًا في منتهى الخطورة، هو: هل نحن جماعة المسلمين، أم جماعة من المسلمين؟!، معتبرًا أن هذا السؤال مسئول بشكل كبير عما جرى قديمًا، ويحدث حاليًا.
وأشار شقرة إلى أن معظم الحركات والجماعات، التي أطلق عليها بعد ذلك تيارات الإسلام السياسي، خرجت من عباءة تنظيم الإخوان لتغزو العديد من العواصم الأوروبية والغربية، مؤكدًا أن هذه التيارات قد تم توفير المناخ الجيد لها للعيش في هذه العواصم كلاجئين سياسيين، ومنها خرجت كل جماعات الإسلام السياسي التي مارست العنف من طالبان إلى القاعدة، وأخيرًا داعش.
ونوه مدير مركز بحوث الشرق الأوسط إلى أن الظاهرة الخطيرة التي يشهدها العالم العربي هي أن سلم التفكير كان دائمًا "سلما هابطا" مخالفا لحركة التاريخ والزمن - وفق تعبيره – إذ إنه من المفترض أن سلم التفكير والتجديد يصعد للأعلى، لكن ما حدث لدينا كان العكس. فمن التنوير مع "محمد عبده"، انتقلنا إلى العنف والضيق في التفكير من "رشيد رضا" إلى "جمال الدين الأفغاني"، حتى وصلنا إلى المشهد الدموي الرهيب الذي ارتكبه "داعش" ضد المصريين في ليبيا.
وعن تجربته في الاقتراب من معاقل الإرهاب في سوريا والعراق، تحدث السيد عبد الفتاح، الصحفي بجريدة المصري اليوم، لافتًا إلى أن خوضه التجربة كان من أجل رسم صورة واضحة عن التنظيم الذي يعد ظاهرة حديثة لا تزال تنطوي على الكثير من الغموض لدى الكثيرين، بعيدًا عن الصورة التي روجت لها وسائل الإعلام، ووكالات الأنباء المختلفة – كل وفق أجندته الخاصة - على أنه كائن أسطوري يصعب هزيمته.
وكانت البداية – كما أشار عبد الفتاح – من التوجه لميادين القتال التي فتحها تنظيم "داعش" على الدول العربية في العراق وسوريا، ثم تتمدد الخريطة الجغرافية بعد ذلك لتشمل ليبيا وسيناء. وأشار إلى أنه إذا كان لا يمكن عدّ الجماعات التكفيرية في سيناء "دواعش" أصليين، فإنها تتبنى النهج التكفيري نفسه، الأمر الذي شجعها على إعلان البيعة للتنظيم.
ملامح عامة:
وأشار عبد الفتاح إلى أن المحصلة النهائية التي كونها عن التنظيم تكمن في سعيه لإقامة دولة لا تمت بأي صلة لدين أو خلق، منوهًا إلى أن حواره مع عدد من أسرى "داعش" في كردستان سوريا أتاح له معرفة كيف يفكر أفراد التنظيم، لافتًا إلى أنهم يتفاخرون بذبح الأسرى، ويتسابقون في تنفيذ عمليات الإعدام الجماعي دون أدنى إحساس بتأنيب الضمير، ويتم تخييرهم عند قتل ضحاياهم بين الذبح، أو إطلاق النار. وأوضح أن قادة التنظيم يحرصون على إعطاء الحبوب المخدرة للأفراد قبل دخول المعارك، وتنفيذ عمليات القتل، حتى لا يتورعوا عن تنفيذ جريمتهم، ويكونوا خارجين عن أي إطار من الأخلاق والمشاعر، وهو ما يجعلنا نراهم يتقدمون لتنفيذ جرائمهم بخطى ثابتة.
كما أعرب عبد الفتاح عن دهشته لما عرفه عن قرب من ضحالة فكر أفراد التنظيم، وانعدام الثقافة العامة والدينية، التي وصفها بأنها لا تتجاوز 5%، لافتًا إلى أنهم مجرد جهاز "مسجل" للأمراء، وما يطرحونه من تأويلات خاظئة للنص الشريف فيما يتعلق بمسألة القتل والجهاد، وهو ما يجعلهم في حالة جاهزية دائمة لتلقى الأوامر بتنفيذ عمليات القتل والذبح. ونوه إلى أنهم لا يعرفون حتى الأسانيد، والهدف من وراء إقامة الدولة الإسلامية التي يزعمون تأسيسها، وأن أي فرد يعارض هذه الفكرة لابد من قتاله، حتى إنهم يقاتلون جماعات تتبنى النهج التكفيري نفسه، مثل جبهة النصرة، لمجرد تأجيلها فكرة الخلافة، وإقامة الدولة.
وأوضح الكاتب الصحفي أنه غير مسموح للأفراد – من غير القادة والأمراء - في التنظيم باستخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة، أو التفكير، وإبداء الرأي، وإلا فإن مصير من يفعل ذلك الإعدام أمام الباقين.
النشأة والتمدد:
أوضح الصحفي، صاحب التجربة، أن الولايات المتحدة بكل ما تمتلكه من قدرات عسكرية، وتسليح متطور، لم تصب أهدافًا محددة لـ "داعش"، وتركت له التمدد والانتشار، عبر الحدود، ليكون إحدى أوراقها في مخطط إضعاف الدول القوية في المنطقة، مثل سوريا، وليبيا، والعراق. وأكد أن أحد العوامل الرئيسية لظهور هذا التنظيم في العراق– والذي لم يتعد أفراده في البداية المئات - هو غياب الديمقراطية والعدالة في نظام رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، نتيجة سياسات التهميش التي كان يتبعها ضد العرب السنة، وهو ما أدى إلى السقوط السريع لمحافظة الموصل التي تضم أغلبية سنية، وتمت هزيمة 70 ألف جندي في الجيش العراقي على يد 1000 مقاتل، واستغل "داعش" الاحتقان الطائفي لينتشر بين المواطنين في المدن السنية العراقية الذين انضموا إليه.
ويرى عبد الفتاح أن ما ساعد مقاتلي "داعش" على الاستمرار هو كمية الأسلحة الأمريكية المتطورة التابعة للجيش العراقي، والتي استولوا عليها، بعد سيطرتهم على المحافظات السنية، كما انضم إليهم أعداد كبيرة من قادة الجيش العراقي السابقين المنتمين لحزب البعث، وهو ما جعل التنظيم يمزج بين الأساليب العسكرية، وحرب العصابات في عملياته.
ووصفهم الكاتب الصحفي بأنهم "التتار الجدد"، حيث يعمدون إلى بث الرعب والفزع في المدن التي يستولون عليها، من خلال تنفيذ عمليات إعدام جماعي، وذبح، وسبي للنساء، ويساعدهم على ذلك امتلاكهم ذراعًا إعلامية شديدة المهارة والحرفية، وتسخير الوسائط التكنولوجية الحديثة لخدمة أهدافهم، وإرهاب الآخرين. وأشار إلى أن هذا العامل النفسي له دور كبير في بث الرعب في قلوب المواطنين في القرى المجاورة، فيهجرونها خشية القتل، أو إعلان بيعتهم للتنظيم. وبالتالي، فإن التنظيم يعتمد على خوف الناس منه أكثر من قوته، كما أنه يعتمد على الإمدادات الخارجية من الأسلحة والمعلومات لاحتلال مدن بعينها.
وأوضح أن وجوده بميادين القتال جعلته يرى قدرات تنظيم "داعش" في القتال، حيث لفت إلى أنه ليس بالشراسة التي يظهر بها في مقاطع الفيديو التي يبثها، كما أن أفراده ليسوا أصحاب قوة خارقة في القتال، وكانوا يفرون من هجوم الأكراد، ويعتمدون بالأساس على الانتحاريين وأسلوب المفاجأة لإرباك الأهالي، والسيطرة على المدن، كما أنهم يعتمدون على القنص بشكل كبير لما يمتلكونه من أسلحة متطورة.
حدود المواجهة:
ذكر الكاتب الصحفي السيد عبد الفتاح علاقة تنظيم "داعش" بقوى إقليمية كبيرة لا تريد استقرار المنطقة، وعلى رأسها تركيا، والولايات المتحدة، وإسرائيل، مستدلًا في ذلك برفض تركيا الانضمام للتحالف الدولي لمحاربة "داعش"، وفتحها الحدود لأكثر من 10 آلاف مقاتل من ذلك التنظيم لحصار منطقة عين العرب السورية، مع إعطاء أوامر إلى محافظ الإقليم الذي يطل على المعبر الحدودي بقطع الكهرباء للسماح لمقاتلي "داعش" بالتسلل عبر الحدود، إضافة إلى إطلاق تركيا صفارات الإنذار للتنظيم للاختباء أثناء غارات التحالف، وكل هذا يكشف التواطؤ التركي مع التنظيم من أجل تحقيق مصالح تركيا.
كما سجل رؤيته لعناصر من "داعش" يتنقلون بمنتهى السهولة داخل الشوارع التركية، مرتدين زيهم، وبهيئتهم المعروفة دون ملاحقة، وإتاحة فرصة العلاج لمصابيهم في المستشفيات التركية، تحت رعاية خاصة، علاوة على وجود عناصر من الجيش التركي تقوم بتدريب أعضاء "داعش" على حمل السلاح، واصفًا تركيا بأنها معبر لكل المقاتلين القادمين من شتى بقاع العالم إلى العراق وسوريا.
مستقبل التنظيم:
في ختام كلمته، أشار السيد عبد الفتاح إلى تراجع المناطق التي يسيطر عليها "داعش" بمرور الأيام، متنبئًا بأن الأيام القادمة تحمل الكثير من احتمالات هزيمة ذلك التنظيم في العراق، واصفًا إياه بالأمر السهل، لأن جميع القوى العراقية الآن تقف ضده. لكن الأمر سيكون أكثر صعوبة في سوريا، من وجهة نظره، لأن جميع القوى والجماعات في سوريا تقاتل بعضها بعضا. ولفت إلى أنه يتم التجهيز حاليًا في العراق لشن عملية كبيرة في الربيع القادم ضد "داعش" بالتنسيق بين الجيش العراقي، والأكراد، والتحالف الدولي لتحرير الموصل. وتوقع أن يلجأ البغدادي، رئيس التنظيم، إلى الأراضي السورية، هربًا من شدة المعركة، خاصة أن التنظيم خسر الظهير الشعبي له من سنة العراق.
أما فيما يخص القضاء نهائيًا على "داعش"، فيرى عبد الفتاح أن ذلك يعود إلى رغبة القوى الكبرى في إنهائه، والتي تستخدم التنظيم من أجل تحقيق مصالحها في المنطقة. قائلًا إن الحرب الحالية في المنطقة هي في الحقيقة حرب بين أمريكا وإيران، تدور رحاها في العراق وسوريا.
كما أوصى الدكتور جمال شقرة في ختام الندوة بضرورة العمل على مشاريع قومية للتنوير والتثقيف للخروج من هذه الأزمة، مشيرًا إلى الازدواجية التي تتعامل بها القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، مع هذه الجماعات. فحينما تستخدمها لتحقيق مصالحها، تصفها بالجماعات "التجديدية". وعندما تريد ضربها، تصفها بـ "الأصولية"، مستخدمة في ذلك المراكز البحثية التي تعمل على تسويق هذه الأفكار ليتبنى الإعلام هذه المصطلحات بعد ذلك دون تفكير، وهو ما يسمى نظرية "إدارة المزاج العام"، من خلال تغيير الخريطة الذهنية للرأي العام.