يكشف التتبع التاريخي لسلوك الدولة في الفضاء الحضاري الإيراني/الفارسي تجاه محيطها الإقليمي عن غلبة سمتين رئيسيتين، أولاهما: تصور التفوق الحضاري والقومي، ثانيتهما وأخيرا: النزوع إلي التمدد الإمبراطوري. ومن دون الدخول في الطيف الواسع من العوامل العرقية، والجغرافية، والسياسية، والثقافية التي أسهمت في تشكل هاتين السمتين، فإنه من الجلي أنهما كانتا العامل الأكثر حضورا في تحديد جوهر الأنماط المختلفة للعلاقات التي أرستها الدول المختلفة، التي نشأت في الفضاء الحضاري الإيراني/الفارسي، بجواره الإقليمي.
يلاحظ في هذا السياق أن تلك العلاقات كانت تميل في مراحل قوة الدولة الإيرانية إلي التوسع، سواء من خلال محاولات مد حدودها واحتلال أجزاء من ذلك المحيط الإقليمي، أو من خلال محاولة تعزيز هيمنتها ونفوذها المذهبيين في مرحلة تبني الدور الرسولي بعد الثورة الإسلامية في عام .1979 أما في مراحل الضعف والخضوع لنفوذ خارجي، فقد كان نمط السلوك الإيراني/الفارسي ينزع إلي السلوك، والهيمنة، وتأكيد التمايز الحضاري عن القوة الغالبة والمهيمنة. ولعل مما له دلالة واضحة في هذا السياق، أن ظاهرتين عميقتا التأثير في التاريخ السياسي للحضارة الإسلامية، هما الحركات الشعوبية في مواجهة الهيمنة العربية علي الامبراطوريات الإسلامية الأولي من جهة، واحتضان المذهب الشيعي كتيار مراجعة سياسية وإقليمية من جهة أخري، إنما تبلورتا وتعززتا في الفضاء الحضاري الإيراني/الفارسي.
ألقت هاتان السمتان -تصور التفوق الحضاري، والنزوع إلي التمدد الحضاري- بآثارهما العميقة وبعيدة المدي علي العلاقات العربية - الإيرانية الحديثة، خاصة في مرحلة ما بعد استقلال الدول العربية وحضورها ككيانات مستقلة في الفضاء الإقليمي الشرق أوسطي. ويمكن تحديد أبرز هذه الآثار فيما يأتي:
1- بروز حالة عامة من التشكك والعداء بين الأنظمة الحاكمة في الدول العربية ونظيرتها في إيران، سواء أكانت ملكية في ظل حكم الأسرة البهلوية، أم دينية في ظل حكم الولي الفقيه عقب الثورة الإسلامية عام .1979 وقد بلغ هذا العداء حد المواجهة العسكرية الصريحة والطويلة مثلما تجلي في الحرب العراقية-الإيرانية في ثمانينيات القرن العشرين.
2- استغلال الأنظمة الإيرانية المختلفة عناصر الهشاشة والضعف في بناء الدول العربية الحديثة أو خلافاتها البينية أو انكشافها الأمني أمام التحديدات الخارجية لتؤسس مرتكزات لنفوذها وتأثيرها، سواء في التفاعلات السياسية الداخلية لتلك الدول أو في مجمل التفاعلات الإقليمية. وفي هذا الإطار، تبرز عدة أنماط رئيسية لمحاولات التغلغل الإيراني في الشئون الداخلية العربية:
أ- تبني نظام الثورة الإسلامية، في إطار مبدأ الدفاع عن المستضعفين، لخطاب الدفاع عن المكون الشيعي في أكثر من دولة عربية تعاني أزمة اندماج وطني لا يمكن إنكارها، وتصل إيران بسلوكها هذا إلي حد الدعم المباشر لهذا المكون في حالة تفجر -أو حتي دفعا لتفجر- صراعات داخلية بينه وبين النظام الحاكم في دولة عربية ما، أو مكونات سياسية، أو اجتماعية أخري في إطار هذه الدولة. ولعل من أبرز الأمثلة في هذا السياق الدور الإيراني في الصراع الأهلي في لبنان، والعراق، وسوريا، واليمن، والبحرين.
ب- سعي الأنظمة الإيرانية الحاكمة لتأسيس علاقات تقارب مع أنظمة عربية منخرطة في علاقات صراعية مع دول، أو محاور عربية منافسة لإيران، أو حتي أنظمة عربية تتبني مواقف محايدة من المحاور الإقليمية المتنافسة. وفي هذا السياق، يلاحظ أن إيران تعلي من قيمة منطق مصلحة الدولة، وتتغاضي عن التباين، بل وربما التعارض، في التوجهات السياسية مع الأنظمة التي تري فرصة للتقارب معها. ولعل من الأمثلة البارزة في هذا السياق التقارب مع الحكومات العراقية بعد الغزو الأمريكي في عام 2003، والعمل علي تعزيز هيمنة المكون الشيعي عليها، ومحاولات التقارب مع كل من سلطنة عمان وقطر في ظل سعيهما للاستقلال -نسبيا- عن سياسات مجلس التعاون الخليجي، خاصة تجاه إيران. بل سعت إيران للتقارب وظيفيا مع كل من الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة لمواجهة تداعيات العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، إلا أن هذا التقارب الوظيفي يبقي في إطار سعي إيران وكلتا الدولتين لإدارة عوامل الصراع بأكثر مما يعكس توجها تعاونيا حقيقيا. إلا أن أكثر هذه الأمثلة خطرا وتأثيرا هو علاقة التحالف الاستراتيجي التي تطورت تدريجيا بين الجمهورية الإسلامية في إيران ونظام آل الأسد/البعث علماني التوجه الحاكم في سوريا، وصولا إلي التورط المباشر لقوات من الحرس الثوري الإيراني، إلي جانب عناصر حزب الله اللبناني في القتال الدائر في العراق.
ج- استغلال حالة الضعف النسبي التي تواجهها أنظمة -أو تنظيمات- عربية سنية المذهب واحتياجها إلي دعم خارجي في مواجهة تحديات خارجية أو داخلية ما يمنح إيران مساحة نفوذ وهيمنة في دوائر صنع القرار في هذه الأنظمة أو التنظيمات. ومن الأمثلة البارزة في هذا الإطار، العلاقات التي سعت الجمهورية الإسلامية إلي تعزيزها مع نظام حكم البشير/الجبهة الإسلامية في السودان، وحركة حماس في قطاع غزة. بل وصل الأمر إلي حد توفير ملاذ علي الأراضي الإيرانية لعناصر من تنظيم القاعدة السني السلفي الجهادي بعد فرارهم من أفغانستان إثر غزو الولايات المتحدة لها في عام .2001 وقد استمرت تلك الحماية حتي الانسحاب الأمريكي من العراق في عام .2010
3- تحول النظام الإقليمي العربي إلي ساحة تنافس بين تطلعات الهيمنة الإيرانية والقوي الدولية صاحبة المصلحة في المنطقة والمناوئة لبروز أي قوة مهيمنة علي سياساته. وفي هذا الإطار، يلاحظ أن المخاوف الأمريكية بشأن نيات إيران الخاصة بالانتشار النووي لا ترتبط فقط بالجمهورية الإسلامية الراهنة، بل تعود إلي عهد الشاه، رضا بهلوي، وثيق العلاقة مع الولايات المتحدة آنذاك(1). وإجمالا، فقد أضحي البناء الأمني الإقليمي، والتوازنات العسكرية في إطاره، رهنا بالحضور العسكري والأمني للقوي الغربية ذات المصلحة الاستراتيجية في المنطقة، خاصة الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، سواء أمان هذا الحضور بشكل مباشر من خلال نشر قوات في المنطقة أو من خلال علاقات تحالف ودعم عسكري من قبل هذه القوي لعدد من دول المنطقة، خاصة دول مجلس التعاون الخليجي.
4- أضحت الدول العربية، التي تعاني هشاشة إثنية بنيوية، وإخفاقا في تأسيس تكامل وطني في ظل دولة ما بعد الاستقلال، بؤرا رخوة تشهد صراعات فعلية أو كامنة بين إيران والقوي الإقليمية والدولية المناوئة لمساعي الهيمنة الإيرانية. فاقمت هذه الصراعات، التي ذهب بعض التحليلات إلي وصفها بالحرب الباردة الإقليمية، من عوامل عدم الاستقرار الإقليمي الذي بلغ حد احتمال تفكك عدد من الدول العربية في ظل تكريس المنطق الطائفي، خاصة في منطقة الشام والعراق، وكذلك من مخاطر الانتشار الإرهابي الذي تحول، في ظل انتشار مناطق الرخاوة السياسية والأمنية في المنطقة، إلي بناء شبكي يغذي بعضه بعضا، بل وتطور من المنطق الجهادي إلي المنطق الدولاتي الساعي إلي تأسيس كيانات سياسية.
تداعيات اتفاق نووي غير مكتمل:
مثَّل الاتفاق المؤقت الذي أبرمته القوي الدولية الكبري، ممثلة في مجموعة "5+1" مع إيران في جنيف في 24 نوفمبر 2013، بشأن البرنامج النووي لهذه الأخيرة، مثَّل نقطة تحول جوهرية في مسيرة مفاوضات كثيرا ما تعثرت بين الجانبين، بقدر ما مثَّل هذا الاتفاق الذي جاء بعد أشهر من المفاوضات السرية التي أعقبت انتخاب الرئيس الإيراني الموصوف بالمعتدل، حسن روحاني، في يونيو 2013، مثَّل صدمة لعدد من الدول العربية، خاصة دول مجلس التعاون الخليجي، التي رأت في بعض بنود هذا الاتفاق تخليا عن شروط دولية جوهرية كثيرا ما تمسكت بها القوي الدولية الكبري في مسيرة المفاوضات السابقة مع إيران. وتمثل التحول الرئيسي الذي أتاح التوصل إلي هذا الاتفاق في تخلي مجموعة "5+1" عن شرط عدم تخصيب اليورانيوم داخل إيران، والقبول بمواصلتها أنشطة التخصيب بما لا يتجاوز نسبة الـ 5، مقابل ضمانات بعدم توسع هذا البرنامج، أو زيادة تلك النسبة، أو مخزون اليورانيوم الإيراني المخصب إلي مستويات تتيح عسكرة البرنامج وتحويله إلي برنامج للتسلح النووي.
كانت نقطة الخلاف الجوهرية التي كثيرا ما أعاقت إبرام أي اتفاق بين الطرفين هو تمسك القوي الدولية بعدم امتلاك إيران لتكنولوجيا دورة الوقود النووي، والقدرة علي تخصيب اليورانيوم علي أراضيها، وكان ذلك ينبع بشكل رئيسي من عدم الثقة في نيات النظام الإيراني. ومن هنا جاءت صدمة دول الخليج العربية من هذا التحول الجوهري في موقف القوي الكبري، خاصة الولايات المتحدة، عقب أشهر من المفاوضات التي لم تكن الدول الخليجية شريكا فيها. وكانت الخشية الرئيسية لدول الخليج العربية من أن يكون هذا التحول يعني تهميشا لمصالحها وأمنها في إطار استعداد أمريكي/غربي للقبول بدور إيراني أكبر في شئون المنطقة. وفي الواقع، فإن هذا الاتفاق لم يكن وليد أشهر المفاوضات تلك فقط، بل إنه وليد توجه استراتيجي أمريكي بدأ يبرز مع مراجعة -بدأت في نهاية عهد الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش الابن- لإخفاقات التدخل الأمريكي العسكري المباشر في كل من أفغانستان والعراق.
تكشف السياسات التي انتهجتها الولايات المتحدة منذ ذلك الحين تجاه المنطقة، عن توجه استراتيجي بعيد المدي لتقليل الانخراط الأمريكي في المنطقة وشئونها بعدما أخفق المشروع الأمريكي لإحداث تغييرات كبيرة في داخلها، عبر تأثير "الدومينو" في أعقاب غزو العراق، والطموح الأمريكي لإطلاق عملية ديمقراطية تنطلق من العراق، وتمتد عبر المنطقة بشرط أن تتضمن جلب حلفاء جدد للسياسة الأمريكية، بدلا من الأنظمة الحاكمة الاستبدادية التقليدية التي عدَّت الولايات المتحدة أن استمرار دعمها لها كان العامل الأساسي فيما واجهته من هجمات إرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وتنامي العداء من قبل قوي كثيرة في المنطقة، خاصة قوي الإسلام الراديكالي، للسياسات الأمريكية. وبغض النظر عن مواطن الصحة، أو نواحي القصور في هذا البناء النظري، فقد أفشلت سياسات القوي الإقليمية، بما في ذلك الدول العربية الرئيسية وإيران علي السواء، مخطط إدارة جورج بوش الابن في إطلاق موجة التغيير الإقليمي تلك، بل وجعلت من الوجود الأمريكي في العراق تجربة مريرة من الفشل.
تخلت إدارة جورج بوش الابن عن سياسة "إدارة التغيير" في المنطقة لمصلحة ما وصفته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كوندوليزا رايس، عام 2005 بسياسة "الفوضي الخلاقة" التي كانت تعني -ضمنيا- خفض التورط الأمريكي في المنطقة من جهة، وإتاحة الفرصة أمام قوي سياسية معارضة لإطلاق عملية تغيير داخلية من غير تورط -أو حضور- أمريكي مباشر من جهة أخري. وكان الشق الآخر يرتبط بخفض الاعتماد الأمريكي علي نفط المنطقة من خلال التوسع في إنتاج الطاقة المتجددة والبديلة. وارتبط بسياسة خفض الانخراط الأمريكي تلك خفض حدة المواجهة مع إيران بقدر ما يتيحه تحرر الولايات المتحدة من الارتباط مصلحيا بالمنطقة، وما يرتبط بذلك من تراجع مساحة التعارض بين المصالح الأمريكية وأي دور إيراني فيها. تسارعت تلك السياسة خلال عهد الرئيس الأمريكي الحالي، باراك أوباما، معززة بتطلعات تحقيق الاستقلال الأمريكي في مجال النفط في ظل الطفرة في إنتاج "النفط الصخري" التي انطلقت في الولايات المتحدة في عام 2011، وكذلك بالفرص التي رأتها تلك الإدارة في نقل بؤرة تركيزها الاستراتيجي من الشرق الأوسط وأوروبا باتجاه منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا سريعة النمو. واعتمدت إدارة أوباما علي سياسة العصا والجزرة مع إيران من خلال تصعيد العقوبات الدولية بحقها، وفي الوقت ذاته الإعلان عن تقدير أوباما للأمة الإيرانية والاستعداد لتسوية شاملة مع الجمهورية الإسلامية بنظامها السياسي القائم، في مسعي لتبديد مخاوف النظام الإيراني من أي محاولات أمريكية لإطاحته، وهي المخاوف التي كانت تمثل الركيزة الأولي في بناء سياسة هذا النظام الخارجية.
بعبارة أخري، فإن التحول الجوهري في الموقف الأمريكي، خاصة، من المفاوضات مع إيران يعود إلي تغير في هيكل مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية، وسعيها لاقتناص الفرصة البديلة التي يتيحها التوافق مع إيران، وخفض عبء المواجهة معها بأكثر مما يعكس انتصارا لأي طرف من الطرفين في الصراع الممتد بينهما. ويمكن تحديد ثلاث ركائز للرؤية الأمريكية لجدوي هذا التوافق وشروطه، وهي:
1- أنه باستثناء أمن إسرائيل، تراجعت أهمية منطقة الشرق الأوسط علي أولوية سلم المصالح الأمريكية، بما يقلل من الحاجة لانخراط أمريكي مباشر فيها، وما ينتج عن ذلك من تراجع جدوي تكلفة جهود احتواء مساعي إيران لمد نفوذها الإقليمي. وفي هذا الإطار، تري الإدارة الأمريكية في المزايا التي سيتيحها أي اتفاق يتيح تقييد البرنامج النووي الإيراني، فرصة لخفض النزوع لدي إيران لاستغلال ورقة تهديد إسرائيل كإحدي أدوات الضغط في مواجهة القوي الغربية والولايات المتحدة.
2- إمكانية توظيف النفوذ والتأثير الإيرانيين في إدارة عدد من الصراعات المتفجرة في المنطقة والتهديدات الناشئة عنها، مثلما تم في إطار خبرة التنسيق الأمريكي - الإيراني لإدارة الصراع السياسي المحتدم في العراق. ويبدو ان الولايات المتحدة سعت في هذا السياق إلي اتباع سياسة للتقييد المذهبي من خلال إتاحة مجال لتمكين قوي الإسلام السياسي السنية، وتحديدا، جماعة الإخوان المسلمين للعب دور أكبر في سياسات الدول العربية، انطلاقا من الدول التي شهدت حراكات ثورية في إطار ما عرف بـ "الربيع العربي".
3- محاولة احتواء الدور الروسي في المنطقة من خلال تقليص دور روسيا في أي اتفاق نووي مع إيران. فبعد أن كانت روسيا تُطرح بِعدَّها حلا وسطا، بحيث يتم علي أراضيها تخصيب اليورانيوم لمصلحة إيران، تم الاكتفاء بدور مرحلي لروسيا بما يتيح فقط تحويل جزء كبير من مخزون الوقود النووي الإيراني المخصب بنسبة 20 إلي وقود نووي مخصب إلي ما دون 5 بما يصلح للاستخدام لأغراض إنتاج الكهرباء في مفاعل بوشهر، وهو ما قبلته إيران بالفعل في إطار المفاوضات الأخيرة التي انتهت بتمديد أجل مفاوضات التسوية النهائية إلي شهر يونيو .2015 كما يمكن أن تتيح تسوية الملف السوري المحتدم، بالتوافق مع إيران، مزيدا من تقليص الدور الروسي في المنطقة، أو علي الأقل رفع تكلفة أي تدخل روسي من دون دعم إقليمي قوي.
الخيارات الإيرانية الصعبة:
مع قرار تمديد مفاوضات التسوية النهائية للملف النووي الإيراني إلي شهر يونيو 2015، تقف السياسة الإيرانية أمام خيارات صعبة، يمكن إجمالها فيما يأتي:
1- فيما يتعلق بطموح إيران النووي، يلاحظ أن هذا الطموح ليس مجرد انعكاس لرؤية اقتصادية للاستفادة من الطاقة النووية، أو تعزيز القدرة التكنولوجية والمعرفية للدولة، بقدر ما أنه عنوان لنزعة التفوق الحضاري والقومي الإيراني، والأهم لمكانتها الإقليمية. وفي هذا الإطار، فإن نقاط الخلاف التي أدت إلي تعليق الاتفاق تثير المزيد من الشكوك في النيات الإيرانية، فقد تحفظت إيران علي شرطين أساسيين هما، أولا: خفض عدد أجهزة الطرد المركزي التي تمتلكها من 10 آلاف جهاز طرد مركزي حاليا إلي 1500 جهاز فقط بحسب اقتراح أمريكي أولي، قبل أن يتم رفع عدد الأجهزة بحسب مقترح مجموعة "5+1" إلي 4500 جهاز. ثانيا وأخيرا: أن يكون أمد الاتفاق نحو 15 عاما بحسب مقترح القوي الكبري، مقابل 7 سنوات تقترحها إيران.
وفي الواقع، فإن قبول إيران بتلك الشروط، خاصة ما يتعلق بخفض كبير في عدد أجهزة الطرد المركزي التي تمتلكها، سيضع النظام الإيراني في مأزق لتبرير تكلفة المواجهة النووية الممتدة مع الغرب لما يزيد علي 12 عاما حتي الآن. لكن تمسك إيران بعدم خفض ما تمتلكه من أجهزة طرد مركزي خفضا جوهريا سيثير شكوكا حقيقية بشأن نياتها الحقيقية إزاء إمكانية عسكرة برنامجها النووي علي المدي المتوسط، خاصة مع عرضها اتفاقا لمدة سبع سنوات فقط. وبقدر ما تهدد تلك الشكوك بإمكانية إفشال المفاوضات، فإن إيران ستواجه خطرا، ليس فقط مواجهة عقوبات أكثر قسوة، ولكن خسارة فرصة غير مسبوقة لرفع العقوبات عنها، وتعزيز اقتصادها المضار بشدة، ولعب دور إقليمي بتكلفة أقل بكثير مما كانت تتحمله مسبقا. ويبدو أن الخيارات الإيرانية في هذا الصدد محفوفة بالمخاطر، حيث يبدو أن خيار الرهان علي تمديد آخر بعد يونيو 2015، استشرافا لمزيد من الإنهاك الأمريكي جراء التورط في سوريا والعراق، يعد خطرا للغاية، بقدر ما سيحمله من شكوك متزايدة تجاه نيات إيران، وردود فعل قد تتجاوز العقوبات الاقتصادية.
2- فيما يتعلق بعلاقات إيران الإقليمية، يبدو أن أي اتفاق نووي سيمنح لإيران فرصة متزايدة لدور فعال في تسوية مشكلات المنطقة المتفجرة، خاصة في منطقة الشام والعراق، إضافة إلي فرصة مهمة لاستعادة مشروعات تنموية عالمية قد تمر عبر المنطقة، وتقع إيران في قلبها، مثل إحياء مشاريع ربط الصين بالبحر المتوسط، أو حتي بأوروبا، عبر سكك حديدية، أو مشاريع إنشاء مناطق للخدمات اللوجستية وتجارة الترانزيت علي سواحلها الشرقية والجنوبية، بحيث تكون إيران منفذا بحريا لتجارة دول وسط آسيا، وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق مع العالم. مثل هذه المشاريع ستقتضي من إيران انتهاج سياسة تصالحية لتهدئة الصراعات الإقليمية. ويحمل ذلك خطر تخلي إيران عن الركيزة المذهبية التي ظلت أساسا لدورها الرسولي، وأداة مهمة رئيسية لمكانتها الإقليمية في حقبة ما بعد الثورة الإسلامية.
فضلا عن ذلك، يحمل أي تقارب بين إيران والقوي الغربية -الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي- خطر خسارة النظام الإيراني لعلاقاته التعاونية، التي بلغت حدا استراتيجيا مع كل من روسيا والصين، في حال احتدام المواجهة بين أي من الدولتين والقوي الغربية. بل إن أي اصطفاف إيراني بجانب المصالح الغربية قد يحمل مخاطر مواجهة سياسات عدائية من الدولة الروسية المتاخمة لإيران. وقد شرعت روسيا بالفعل في تعزيز علاقاتها التجارية والاقتصادية مع تركيا خلال زيارة الرئيس الروسي، بوتين، لهذا البلد في نوفمبر 2014.
3- مواجهة تحديات تقليص وزن المقوم الإمبراطوري في بناء الشخصية القومية الإيرانية، والأخطر مواجهة تحديات إعادة هيكلة وزن المؤسسات الإيرانية التي مثلت ركيزة إيران في مد نفوذها الإقليمي، ودور هذه المؤسسات، خاصة الحرس الثوري الإيراني، لمصلحة تطوير خيارات غير عسكرية أو مذهبية لتعزيز نفوذ إيران الإقليمي، وهو ما لا تبدو أي مؤشرات إلي إمكانية حدوثه في الأمد القريب. وكذلك قد تواجه إيران احتمالات الاضطرار إلي عمليات خفض لقواتها العسكرية -أو علي الأقل تقييد برامج تطويرها العسكري وتسلحها المستقبلي- في إطار أي إجراءات متبادلة لبناء الثقة مع الأطراف الإقليمية الأخري. وفي هذه الحال، فإن توافر الخيارات البديلة لإدارة السياسة الإقليمية لن يكون هو التحدي الوحيد الذي قد يواجهه النظام الإيراني، بل قد تشهد إيران انقلابا عسكريا ما لم تتم إعادة الهيكلة تلك بشكل محسوب بدقة، خاصة فيما يتعلق باقتسام عوائد أي رفع للعقوبات بين مختلف أجنحة النظام الإيراني شديدة التعقيد.
في هذا الإطار، يحاول هذا الملحق فحص ماهية المحددات الداخلية والخارجية لأي تحول في سياسة إيران الإقليمية، في إطار الترتيبات، للتوصل إلي تسوية نهائية للمواجهة بشأن برنامج إيران النووي، أو في اليوم التالي لتلك التسوية.
هوامش:
1- يلاحظ أن المخاوف الأمريكية تفاقمت مع إصرار الشاه رضا بهلوي علي امتلاك القدرات اللازمة لتنفيذ الدورة الكاملة للوقود (النووي)، وإعادة إنتاج البلوتونيوم، الأسلوب الأيسر، آنذاك، لتغذية سلاح نووي من استخدام اليورانيوم المخصب. وبدت واشنطن، التي كانت لا تزال تترنح جراء تجربة الهند النووية عام 1974، متشككة تجاه برنامج الشاه النووي، وطالبت إدارة جيرالد فورد بضمانات تثبت أن النيات الإيرانية كانت سلمية.
وتكشف الوثائق، التي رفعت عنها السرية أخيرا، أن القضايا نفسها التي تسببت في المواجهة النووية الحالية بين إيران والغرب -الوصول إلي التكنولوجيا الحساسة، ومخزون الوقود، وضمانات إضافية- كانت موضع خلاف خلال المفاوضات النووية المريرة بين الولايات المتحدة وإيران بين عامي 1974 و.1978 وعندما تعذر التوصل إلي اتفاق، حظرت حكومة الولايات المتحدة علي الشركات الأمريكية بيع تكنولوجيا نووية لإيران. وبالتبادل قرر الشاه "أنه ما لم يكن واضحا أن إيران لن تعامل كبلد من الدرجة الثانية"، فإنه سيبحث عن باعة آخرين. انظر في هذا السياق:
Abbas Milani, The Shah (New York: Palgrave Macmillan, 2011); William Burr: “A Brief History of US-Iranian Negotiations”, Bulletin of Atomic Scientists, 65 (2009): 21-34.