لا تكفي إدانة الهجوم على المجلة الفرنسية "تشارلي أيبدو" والقول إنها نتاج فكر متطرف . . أو من عمل "جهاديين" كما يسميهم الغرب . فالجريمة لها جذور جعلت البعض يستسهل القتل ويجد من يبرر له ذلك ويدعمه في شروره طالما أنها تجري في أماكن بعيدة عنه . هل نقول مثلاً إن الدول الغربية ومخابراتها عملت منذ غزو أفغانستان على تجنيد الشبان العرب وإرسالهم للقتال تحت مسمى "الجهاد" في إطار الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والمعسكر الغربي؟ وهل نقول إن العائدين من "العرب الأفغان" عاثوا فساداً وقتلاً في بلادهم، كما حدث في مصر في أواخر الثمانينات وفي الجزائر وغيرهما؟ وهل نقول إن هذه الشرائح المختلفة ممن وصفهم الغرب ب"الجهاديين" تم فتح المجال لها رحباً لكي تهرول إلى سوريا لمقاتلة النظام وحظوا بالمال والسلاح والتدريب حتى الآن؟ ولعل الفشل في حرب سوريا جعلهم يتدحرجون نحو العراق وبعضهم انكفأ عائداً إلى بلاده أو تم توجيههم إلى ليبيا وتونس كما يحدث الآن!
من تابع تدفق ما يسمى ب"الجهاديين" إلى سوريا منذ البدء، لاحظ الدعم والتعاطف والتسهيلات الغربية مخابراتياً لهذا التدفق طالما أنها تنفذ "أجندة" خبيثة في سياق تدمير الدول العربية وجيوشها وليس اسقاط انظمة فقط، فالقاتل والمقتول في النهاية عرب ومسلمون، والدمار يحل في دول عربية ولا ضرر يلحق بالغرب منهم .
مسيرة ما يسمى بهؤلاء "الجهاديين" هي نفسها مسيرة عناصر "القاعدة" فبعد أن كانوا يحظون برعاية الغرب ومخابراته خاصة الأمريكية في افغانستان إرتدّوا لاحقاً وانقبلوا على أسيادهم وحالياً يتكرر الأمر نفسه مع هذه العناصر "الجهادية" التي لم تجاهد قط في سبيل أهداف عربية أو إسلامية بل لتحقيق أهداف غربية لعل أهمها تشويه صورة الاسلام .
في مسألة المجلة الفرنسية، وان كان هذا الهجوم إجرامياً ومداناً إلا أنه يفرض طرح التساؤلات السابقة وضرورة تغيير الغرب بمجموعه في طرق تعامله مع العالم العربي، رغم أن فرنسا هي الدولة الغربية الوحيدة الأكثر تفهماً للقضايا العربية وتحظى سياستها بالتقدير والاحترام من الشعوب العربية كافة . فالغرب إن لم يدعم نظاماً شمولياً تجده يدعم أحزاباً وقيادات أكثر شمولية واستبدادية ولا يتواضع لكي يبسّط الأمور والقضايا من منطلق الحوار المشترك الهادف إلى تعاون من موقع الند وليس الدونية . فالنظام الفرنسي وان كان حامل لواء الحرية بثورته الفرنسية الرائدة إلا أنه مثلاً يحرم انكار المحرقة اليهودية ولا يحرم انكار الذات الإلهية؟ مع أن انكار المحرقة لا يعني عدم حدوثها . . ويجرم التعدي على الحرية الشخصية والخصوصيات ولا تجريم لمن يشهر بالرموز الدينية السماوية؟ قد تكون المجلة تمادت فيما ذهبت إليه من اساءة للاسلام، لكن هذا لا يبرر القتل مثلما لا تبرر حرية التعبير التطاول على الأديان وتمجيد "الاسلاموفوبيا" التي يغذيها المتطرفون اليمينيون في أوروبا أو المتطرفون من الجماعات المتأسلمة . ولعل الدين الإسلامي هو الوحيد الذي يدعو إلى الايمان بالرسل جميعاً والكتب السماوية كما ورد في قوله تعالى (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) وبعكس المتطرفين فإن المسلم لا يمس أي رمز أو شعائر دينية مسيحية أو يهودية، بل يدعو إلى البر بأهل الكتاب .
وفعل حسناً ونطق خيراً عندما قال الرئيس الفرنسي إن هؤلاء لا يمثلون الاسلام . ولعل مثل هذه الجريمة قد تكون بداية لإعادة النظر في مجمل السياسيات الغربية تجاه الدول والمجتمعات الإسلامية وخاصة العربية، فلا يجب أن ننسى ان قرابة أربعمئة ألف جزائري ومغربي قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي ضد النازية . فهل يشطب مثل هذا التاريخ بعمل فردي من اناس لم يتتلمذوا في مدارس عربية بل عاشوا في فرنسا فقط! فما حدث يخرج عن نطاق الانتقام للرسول صلى الله عليه وسلم، لأن نبينا كان متسامحاً مع من أساء إليه وعفا عن المسيئين، ولم يفوض أحداً الانتقام نيابة عنه، ففي كل يوم نشهد تفوهات وممارسات "إسرائيلية" يقوم بها متطرفون تجاه الرموز الدينية الاسلامية والمسيحية أيضاً، ولا يتحرك العالم لشجبها بل يتم تجاهلها والتغاضي عنها . فعندما طرح الأمريكيون فكرة التحالف لمحاربة الإرهاب المتطرف اجتهدوا بانتقائية فجة لحصره في "داعش"، وعندما طرحت مصر مثلا الإرهاب الذي تعاني منه تم تجاهل مطلبها بضرورة أن تكون الحرب على الإرهاب شاملة من دون انتقائية سياسية محددة . ولعل هذه الانتقائية هي التي تسمح للإرهاب بأن ينتعش وينتشر . فالإرهاب والتطرف ليسا حكراً على جماعات تدعي الاسلام، فهناك دول وأحزاب وتيارات سياسية ودينية يهودية ومسيحية تحمل الفيروس نفسه، ومواجهتها يجب أن تكون شاملة وليست انتقائية .
---------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الثلاثاء، 2015.