فى لحظة مفعمة بالحماس والوطنية خرجت تصريحات تقول إن مصر تسعى إلى الانضمام لمجموعة «البريكس»، وهى مجموعة تضم خمس دول، ثلاثاً منها من آسيا هى روسيا والصين والهند، ودولة لاتينية هى البرازيل وأخرى أفريقية هى جنوب أفريقيا، وهى مجموعة الدول ذات الاقتصادات الأسرع نمواً فى العالم والتى عبرت من العالم الثالث إلى الثانى، ومنها ما بات يقف على مشارف العالم الأول، ومن ثم فلم تعد أى من هذه الدول تحصل على معونات من الخارج.
ومن بين هذه الدول تعد البرازيل الأقرب لنا أو النموذج الذى يمكن السير على خطاه للعبور من حالة التخلف إلى النهضة الشاملة، فهذه الدولة اللاتينية تعد من بين الدول القليلة فى العالم التى حققت قفزات ضخمة على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هذه الدولة اللاتينية التى كانت حتى عام ٢٠٠٢ دولة مأزومة يرفض صندوق النقد الدولى منحها المزيد من القروض لشكوك فى قدرتها على السداد، أصبحت فى عام ٢٠١٢ دائنة للصندوق بمبلغ ١٤ مليار دولار.
حققت البرازيل قفزتها الكبرى بوصول الرئيس السابق لولا دا سيلفا إلى السلطة، ذلك الرئيس القادم من الطبقة العاملة والذى عمل بيديه فى المصانع وفقد أحد أصابعه، جاء لولا دا سيلفا إلى السلطة والبرازيل فى وضع متوسط، بمعنى أن من سبقه من رؤساء فى حقبة التسعينيات عملوا على تحقيق قدر من التوازن فى ذلك البلد الضخم. تمكن من سبق لولا من الرؤساء من إرساء أسس الاستقرار، ثم جاء لولا دا سيلفا وبدأ فى تطبيق رؤيته المستندة إلى مبادئ الديمقراطية الاجتماعية، حافظ على اقتصاد السوق الحرة، دعم التوجهات الرأسمالية، لكنه تمسك بتطبيق العدالة الاجتماعية والتى تمثلت بالنسبة له فى التزام الدولة بمساعدة الفئات غير القادرة وضمان حصولها على أربعة حقوق أساسية هى: المسكن الصحى، التعليم المجانى الجيد، الرعاية الصحية الجيدة، وأخيرا حد أدنى للأجور يلبى احتياجات المواطن الأساسية. تمكن الرئيس البرازيلى السابق لولا دا سيلفا من تحقيق معدلات تنمية عالية مكنته من معالجة قضايا الفقر فى المجتمع البرازيلى: نجح فى محاصرة ظاهرة مدن الصفيح والعشوائيات، تمكن من إدخال الأطفال فى العملية التعليمية، نجح فى تحقيق قفزات هائلة فى الرعاية الصحية على النحو الذى جعل البرازيل فى عهده الدولة الوحيدة فى نصف الكرة الغربية التى تدرج علاج الأسنان ضمن الرعاية الصحية المجانية.
جاء دا سيلفا برؤية وطنية تنطلق من العمل مع جميع القوى السياسية فى البرازيل: بدأ بمصالحة وطنية شاملة مع الماضى، ومع تجاوزات النظم السابقة دون تفريط فى حقوق المواطنين، ودون تراجع أمام أى قوة سياسية، ومواجهة حاسمة مع الخروج على القانون ولم يكن هناك مجال للبحث عن مصالحة مع كل من خرج على القانون، أقر بدور الدين فى حياة المواطن البرازيلى دون تزيّد ودون مبالغة، أى دون أن يخلط بين الدين والسياسة، فالدين صلة بين المواطن وخالقه وما يؤمن به ويعتقد فيه، أطلق طاقات مواطنى البرازيل فى العمل، لم يكن أسيرا للماضى، لم يندفع وراء رغبة فى الانتقام ممن كانوا خصوماً له ولتياره السياسى، وعندما أنهى دورتيه فى مواقع السلطة لم يتحايل على الدستور ولم يبحث عن سبل تبرر له الاستمرار فى السلطة، فقد أرست بلاده، مع غيرها من دول أمريكا اللاتينية، صيغاً للديمقراطية يقضى من خلالها الرئيس ما بين دورة واحدة (المكسيك وتشيلى) ودورتين (مثل البرازيل والأرجنتين)، ومن أراد الحفاظ على خط الرئيس فى الإنجاز والتنمية حقق ذلك بطرق مختلفة دون المساس بالدستور، فأهل الأرجنتين قدروا إنجازات الرئيس السابق كريشنر، الذى أمضى مدتين فى الرئاسة، ومن ثم وجب عليه الرحيل، وكان الحل هو ترشيح زوجته كريستينا كريشنر لمنصب الرئيس حتى يبقى الرجل فى القصر الجمهورى، وهو ما تحقق بالفعل حيث تتولى السيدة كريشنر رئاسة الأرجنتين وتعمل بمفردها بعد رحيل زوجها الرئيس السابق. الأمر نفسه تكرر فى البرازيل بعد أن أنهى الرئيس لولا دا سيلفا فترتى الرئاسة، محققاً أعلى معدلات تنمية فى تاريخ البلاد، واضعاً بلاده على أبواب العالم الأول. تسلم دا سيلفا السلطة فى يناير ٢٠٠٣ وصندوق النقد الدولى يرفض منح البرازيل قرضاً لعدم ثقته فى قدرة البرازيل على السداد، وترك موقعه والبرازيل دائنة للصندوق بـ١٤ مليار دولار. تمكن هذا العامل والنقابى فى نقابة عمال الحديد من تحسين أوضاع الفقراء فى بلاده عبر الضرائب التصاعدية التى وفرت له نحو ٦٠ مليار دولار خصصها للفئات الأكثر فقراً مقابل التزام هذه الأسر بانتظام الأبناء فى الدراسة. نجح هذا الرئيس، العامل والنقابى، فى تحقيق إنجازات غير مسبوقة فى جميع المجالات على النحو الذى جعله الشخصية الأكثر تأثيراً فى العالم حسب مجلة «تايم» الأمريكية فى عام ٢٠١٠. وعندما حانت لحظة الرحيل بعد انتهاء فترة الولاية الثانية فى نهاية ٢٠١٠، رشح دا سيلفا وزيرة شؤون الرئاسة ديلما روسيف فانتخبها البرازيليون لتكون أول امرأة تتولى رئاسة البلاد.
من هنا نرى أنه من المفيد جداً الانفتاح على هذه التجربة ودراستها جيدا من أجل استخلاص الدروس منها، ولابد أن يكون الاستخلاص شاملاً، بمعنى أنه يكون فى شتى المجالات، فتجربة النهوض حالة شاملة لا يمكن الأخذ ببعض جوانبها وترك جوانب أخرى لاعتبارات مختلفة، واستخدام مبررات من قبيل الخصوصية الثقافية أو الحضارية، فالتكوينة البرازيلية هى تجربة لدولة كانت تقع فى قلب العالم الثالث، شعبها كاثوليكى متدين، صحيح أنه جزء من العالم الغربى إلا أنه أكثر تديناً من الشعوب الأوروبية، وقام ببناء تجربة تنموية شاملة فى الاقتصاد، والاجتماع، السياسة والثقافة أيضاً. من المفيد أن يكلف الرئيس عبدالفتاح السيسى، وأيضاً تبادر أحزاب سياسية مدنية، بتشكيل وفود متنوعة لزيارة البرازيل ودراسة التجربة فى مجالاتها المختلفة ووضع خطط زمنية لتطبيق برامج تنموية مستفيدة من الخبرة البرازيلية.
-------------------------------------
* نقلا عن المصري اليوم، الإثنين، 5/1/2015.