تحليلات - شرق أوسط

إقليم مأزوم.. رؤية لمعضلة الارتدادات في الشرق الأوسط

مأزومة---داخلي
طباعة
تحول الشرق الأوسط إلى إقليم مأزوم بامتياز، مفعم بكثير من عوامل الاحتقان والتوتر، لم تعد تفلح معه المسكنات أو الحلول الوسط، حدوده المصطنعة فشلت في صد التطرف والعنف، ومعظم قواه الرئيسية تحولت من لاعب إلى ملاعب. أزماته مترابطة ومتشابكة، ولا يمكن فصلها عن بعضها بعضًا، كأنها أوانٍ مستطرقة، كلما تصاعدت أزمة في دولة وجدت ارتدادات سريعة ومباشرة في دول أخرى.
 
اتجاهات كثيرة اعتبرت أن لغز هذا التحول يكمن في الربيع العربي، الذي قلب الموازين وغير الحسابات. أزال الحدود، ونقل الصراعات. أسقط أنظمة مستبدة، لكنها قوية، وأسس حكومات منتخبة، لكنها ضعيفة. إلا أن هذه الاتجاهات تغفل، وربما تتغافل، أن ما يحدث الآن ليس إلا نتيجة مباشرة لتراكمات سلبية منذ عقود طويلة. فظواهر الاحتقان الطائفي والاستبداد والفساد والتطرف لم تظهر مع الربيع العربي، بل سبقته بكثير. وبمعنى أدق لم تكن جزءًا من نتائجه، بل كانت قسمًا من أسبابه. وهذا فارق شاسع.
 
أزمة هيكلية في العراق:
 
فتنظيم "داعش"، على سبيل المثال، لم يكن أحد منتجات الربيع العربي؛ إذ إنه نشط وتطور في دولة لم تشهد ربيعًا أصلا، بل حاولت أن تمنعه، أي كانت ضمن "دول الضد الثوري" وهي العراق. صحيح أن ظاهرة "داعش" تصاعدت في سوريا، بعد أن تغاضى عنها نظام بشار الأسد وحلفائه في البداية بهدف تحويل الأزمة التي شارفت على إنهاء عامها الرابع، من "صراع ضد النظام" إلى "حرب ضد التنظيم"، ومن ثم إعادة تجديد شرعيته، وفتح قنوات تواصل مع خصومه الذين يسعون إلى إسقاطه، واضطر بعضهم في النهاية إلى التغاضي عن ذلك، ولو مؤقتًا، لصالح هدف القضاء على "داعش"، لكن الصحيح أيضًا أن هذا التنظيم لم يؤسس دولة إلا عندما عاد إلى العراق، حيث استغل مكامن الضعف الهيكلية داخل الدولة من أجل تحقيق هدفه الأهم.
 
هنا يستعيد الربيعُ العربي بريقه، فالمشكلة لا تكمن فيه، بل في أسباب أخرى ظهرت قبله بسنوات عديدة، يرجع بعضها إلى التراكمات التي فرضتها أخطاء السياسات الأمريكية التي سيطرت عليها، قبل أكثر من عقد، توجهات يمينية متشددة أدت في النهاية إلى إسقاط النظام والدولة في آن واحد، وإحلال تكوينات طائفية ضيقة سرعان ما ثبت فشلها في التحول إلى بديل فاعل، بما جعلها بيئة خصبة لنمو وتطور الجماعات الإرهابية التي سعت إلى مد نفوذها عبر الحدود إلى بؤر الأزمات الأخرى.
 
وبعبارة أخرى، تحول العراق، بفضل تلك السياسات الخاطئة، من "نموذج جديد" للديمقراطية في الشرق الأوسط، كما كانت تدعي إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، إلى نموذج ملهم للتطرف والعنف المذهبي، الذي تجاوز حدود العراق، وامتد إلى دول الجوار الرخوة التي تُعاني بدورها من أزمات مستعصية غير قابلة للحل في المدى القريب. وبدون شك، فإن ذلك لا يعني أن العراق كانت "واحة خضراء" قبل الاحتلال الأمريكي. 
 
بل يمكن القول إن مشكلات التخلف والجهل والفساد والاستبداد التي خلفتها أنظمة سياسية ارتكبت أخطاء لا تقل فداحة في أي حال عن الأخطاء الأمريكية، هي التي هيأت المجال أمام الاحتلال أولا، ثم انهيار الدولة ثانيًا.
 
صراع مزمن في سوريا:
 
ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة لا تتعلم من أخطائها. فقد تبنت سياسة شبيهة في سوريا، لم تعِ بسببها طبيعة المجتمع السوري المعقدة التي عمّقتها المشكلات السابقة نفسها. فقد حاولت إسقاط الأسد قبل البحث عن بديل. ودعمت قوى المعارضة قبل أن تُدرك أن بعضها متطرف، وربما لا يقل وحشية عن النظام السوري.
 
وفي النهاية لم تكتف بمنح الأسد الفرصة لوصم الثورة بـ"الإرهاب" و"المؤامرة"، بل إنها ساعدته على تجديد شرعيته وثقته بنفسه، عندما تراجعت عن "خطوطها الحمراء"، خاصة بعد اتهامه باستخدام الأسلحة الكيماوية في أغسطس 2013، وتواصلت مع حلفائه، وربما معه من خلف الستار؛ حيث تشير تقارير عديدة صدرت في الفترة الأخيرة إلى أن المعلومات التي تقدمها الاستخبارات السورية، عبر العراق، أصبحت مصدرًا مهمًّا للضربات الأمريكية ضد تنظيم "داعش".
 
 من هنا لم يعد السؤال الأهم في سوريا الآن هو: متى يسقط نظام الأسد؟ بل: هل يسقط هذا النظام أصلا؟ فالمسألة لم تعد مسألة وقت كما تصور كثيرون، بل مسألة صراع وتوازن ومصير، وهو ما يرشح الأزمة في سوريا، التي قاربت على افتتاح عامها الخامس، لمزيد من التدهور والاستنزاف المتبادل، وهو احتمال يؤشر إلى أن الجهود التي تبذل في الوقت الحالي بهدف الوصول إلى حلول وسط مقبولة من الجميع لتسوية الأزمة لن تثمر نتائج إيجابية على الأرجح، خاصة من جانب المبعوث الأممي الجديد إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، الذي لا يبدو أنه سوف يكون في نزهة وهو يتجول بين العواصم المعنية بالصراع في سوريا.
 
أصولية جديدة:
 
والمشكلة هنا تكمن في أن العراك في العراق والصراع في سوريا وفرا بيئة مناسبة لتصاعد العنف والاحتقان المذهبي في الإقليم، بعد أن ضعفت الدولة، وتسيدت التكوينات الطائفية. إذ لم يعد خافيًا أن أحد أسباب اتساع نفوذ التنظيمات المتطرفة هو تزايد القتل على الهوية، ما دفع بعض الشرائح السنية في العراق للانضمام إلى تلك التنظيمات، وهو ما يمثل أحد مكامن الضعف التي نتجت عن خفوت دور الدولة، وأحد المؤشرات التي تكشف أن القادم ربما يكون أصعب، خاصةً في العراق، حيث ما زالت عوامل الاحتقان والتوتر كامنة دون تغيير رغم إزاحة نوري المالكي رئيس الوزراء السابق الذي اتُّهم بتبني سياسة طائفية دعمت من نفوذ الميليشيات الشيعية، وهمشت من دور القوى السنية.
 
وفي ضوء ذلك، ربما يمكن تفسير أسباب التحذيرات التي أطلقتها اتجاهات عديدة بشأن ظهور نمط جديد من "الأصولية المذهبية" العابرة للحدود، خاصةً في ظل تصاعد دور ونشاط الميليشيات الشيعية التي تقاتل تنظيم "داعش" في العراق وقوى المعارضة المسلحة في سوريا، وهو ما يرشح إقليم الشرق الأوسط لمزيدٍ من الاضطراب وعدم الاستقرار، بعد أن أصبح محاصرًا بين "دول فاشلة" وتنظيمات متطرفة وأصولية من نوع جديد.
طباعة

    تعريف الكاتب

    محمد عباس ناجي

    محمد عباس ناجي

    باحث بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام