استطاع الشعب المصرى أن يقوم بثورتين فى أقل من عامين واستطاع فيهما أن يزيح نوعين من الحكم مختلفين فى شكلهما متفقين فى فسادهما. وهذا يدل من غير شك على حيوية هذا الشعب.
الثورة الأولى هى ثورة الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، والتى أستطيع أن أقول بغير أى تجاوز للحقيقة - وعلى ذلك كثير من الشاهدين - أننى كنت أحد الذين قدموا لها وكنت أحد الذين وقفوا مع الواقفين فى ميدان التحرير إلى أن قدر لثورة ٢٥ يناير أن تزيح حكم الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك.
فى ظل حكم مبارك وقبل الإطاحة به بعامين تقريبا وجهت له خطاباً مفتوحاً على صفحات «المصرى اليوم» قلت له فيه لا تفكر بأن تورّث ابنك الحكم إنه لا قبول له عند أحد وقد يكون خيراً لك أن تدعو إلى لجنة تأسيسية لوضع دستور جديد بعد التشوهات التى أدخلت على دستور ١٩٧١، والتى أطلقت عليها فى حينها «خطايا دستورية»، ولكنه لم يستمع لشىء من هذا كله وصمم على الاستمرار فى نهجه إلى أن حانت نهايته.
وقد أصدرت محكمة الجنايات حكماً تاريخياً بتبرئته من عديد من الجرائم التى نسبت له وقد طعنت النيابة فى هذا الحكم. وكان هذا أمراً طبيعياً. ولكن المحكمة إلى جوار حكمها بالبراءة أدانت الفساد الذى أحاط بفترة حكم مبارك، وقالت إنه جرّف الحياة السياسية، وأنه فى عهده انحدر مستوى التعليم وأهدرت صحة الشعب وزيفت الإرادة الشعبية، وأنه فى عهده أيضا تكالبت على ثروات مصر زمرة من الاستغلاليين وأصحاب المصالح والمتسلقين. هذا - بنصه تقريبا - هو ما جاء فى الحكم الذى أنهى الجولة الأولى - قبل النقض- من محاكمة القرن كما كان يطلق عليها.
إن هذا الذى قرره الحكم هو حكم بالإعدام «المعنوى»- إذا جاز هذا التعبير على هذا الرجل رغم تبرئته جنائيا. وعلى كل حال فقد أثار حكم البراءة غضبا عارما لدى الغالبية من الناس.
وبعد أن زال حكم مبارك وأجريت انتخابات لرئيس جمهورية جديد نجح فيها – كما قيل – الدكتور محمد مرسى. ورب ضارة نافعة كما يقولون. وما أظن أنه فى التاريخ الحديث قد جرى مثل ما جرى بعد مجىْ الإخوان المسلمين إلى الحكم. لم تكن الجماهير المصرية تظن أنهم بهذا السوء وبهذا الضلال وبهذا الأفق الضيق وبهذه الرغبة المحمومة فى الاستئثار بكل شىء وإقصاء الآخرين أجمعين عن كل إسهام فى الحياة السياسية، وعرف الشعب حقيقة هؤلاء الذين كانوا يحكمون مصر لصالح الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل وتمويل من قطر للأسف الشديد.
وفى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ هبّ الشعب المصرى ومعه ذراعه القوية – جيشه العظيم – الذى لم يقف يومًا إلاّ فى صف مصر ولم يكن يومًا جيشًا لحزب أو لفئة أو لجماعة وإنما كان دائمًا ومنذ أنشئ منذ قرنين جيش شعب مصر وليس غيره.
وبعد زوال حكم الإخوان وانهياره بدأت خريطة طريق جديدة تمثلت فى مراحل ثلاث، أولا وضع دستور جديد وشكلت لجنة الخمسين التى أدارها باقتدار وبراعة وحنكة سياسية الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية الدبلوماسى الكبير عمرو موسى واستفتى على مشروع الدستور وأقرته أغلبية شعبية كبيرة.
وكانت المرحلة الثانية وهى مرحلة انتخاب رئيس الجمهورية وفى انتخابات تعددية واضحة وشفافة باعتراف كل المراقبين الدوليين والمحليين فاز الفريق عبدالفتاح السيسى برئاسة الجمهورية بأغلبية كاسحة.
ونحن الآن على أعتاب المرحلة الثالثة: مرحلة انتخاب أعضاء البرلمان الجديد. وتقديرى أن هذه المرحلة تحيطها مخاطر عديدة لعل أوضحها ما يخشاه كثيرون- وأنا واحد منهم - أن الساحة خالية من أحزاب مدنية قوية - عدا حزب واحد قديم - والغالبية من الأحزاب الموجودة لا تعتمد على جماهير مؤمنة بهذه الأحزاب ومرتبطة بها ارتباطا حزبيا حقيقيا. وهناك محاولات عديدة لإقامة ائتلافات بين عدد من الأحزاب وبعضها ولكن لا يبدو فى الأفق أن كثيرا من هذه الائتلافات قد نجحت.
ويقول البعض إنه حتى إذا نجحت بعض هذه الائتلافات فإن نتيجة صفر زائد صفر لن تساوى إلا صفرا ثالثا تعبيرا عن مدى هزال هذه الأحزاب وعدم وجود أرضية لها لدى جماهير الشعب المصرى.
ويقف الشعب الآن أمام هذه الصورة حائرا يترقب ويضاعف من الحيرة أن قانون الانتخابات الجديد لم يصدر بعد ولم تحدث بالنسبة له مناقشات مجتمعية مفتوحة لكى يسمع أولو الشأن وجهات النظر المختلفة.
أقر أننى حضرت اجتماعاً مع المهندس إبراهيم محلب، رئيس مجلس الوزراء، وكان حاضرا فيه عدد من قادة الأحزاب وقد حرصت عندما طلبت الكلمة أن أقول إننى لا أنتمى إلى حزب من الأحزاب ولا أنوى ترشيح نفسى فى الانتخابات القادمة، فقد انتهى زمن ذلك. وفات الميعاد على حد تعبير كوكب الشرق أم كلثوم سيدة الغناء العربى. وكان واضحا من مجرى المناقشات التى دارت فى هذا الاجتماع الكبير تنوع اتجاهات الرأى وكان واضحا أن العقبة الأساسية أمام انتخابات البرلمان القادم هى العدد الضخم للأحزاب والضعف الشديد للغالبية العظمى منها. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن التحالفات التى يسعى إليها البعض للأسف الشديد تحكمها الاعتبارات الشخصية.
إننا فى مفترق طرق وقد يمتد بنا الوقت قبل أن نعبره ولكنى أؤمن دائما أن الديمقراطية هى مدرسة الديمقراطية وأننا لن نتعلم الديمقراطية إلا فى مدرستها وخوض تجاربها ودراسة تجارب الآخرين.
شعب مصر سيخوض كثيرا من المتاعب ولكنها تهون فى سبيل تحول ديمقراطى حقيقى.
---------------------
* نقلا عن المصري اليوم، الإثنين، 8/12/2014.