** أحمد عبد ربه
فى منتصف عام ٢٠١٢ تقريبا خطرت ببالى فكرة لم أتمكن من تنفيذها حتى الآن، تتلخص الفكرة ببساطة بعمل لقاءات مكثقة مع قادة الفكر والرأى من الأجيال الأكبر، أتركهم فيها يسهبوا معى فى الحديث دون قيود باحثا عن مساحات الخبرة والحكمة فى الحياة والسياسة معا. كانت فكرتى هى رد فعل على ما لمسته من تشاحن واضح بدء بين الأجيال الأكبر والأصغر فى مصر حول قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية حمل الشباب فيها الأجيال الأكبر مسئولية الفشل، فيما اتهم بعض المفكرين المنتمين للأجيال الأكبر الأصغر سنا بعدم تحمل المسئولية، واعتبروهم السبب فى ضياع ثورة انتهت إلى ما انتهت إليه.
كنت أريد الاقتراب من هذه الأجيال بهدوء والحصول على ما لديهم من خبرات ونشرها فى كتاب أو فى سلسلة مقالات ومحاولة عمل حوار على ما ورد بها من قبل الشباب لعلى أتمكن من تقليل مساحات التشاحن والاستقطاب، لكنى لم أنجح لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن. مرت الأيام والشهور حتى أتيح لى أخيرا الجلوس والاقتراب من شخصيات هامة لعبت أدوارا مختلفة فى تاريخ مصر والعالم العربى، كنت محظوظا بالحديث إليهم شخصيا بعيد عن أى سياقات رسمية أو حتى شبه رسمية، جلست مع المفكر الكبير سمير مرقص وسمعت منه بهدوء وحكمة معتادة منه عن خبرات كثيرة من تاريخ ثورتنا، ثم جلست أيضا مع الكاتب الصحفى والمفكر الكبير أيمن الصياد الذى كان من حسن حظى مجاورته فى السكن فكان لى نصيب اللقاء المتكرر والنهم من خبراته فى الكتابة والمواقف فى العمل العام والخبرات الحياتية أيضا، ثم تكرر الأمر مع الأستاذ جميل مطر الذى ساندنى بقوة أخيرا حينما أصابنى اليأس وقررت التوقف عن الكتابة، ثم كان اقترابى مجددا من أستاذى الدكتور أحمد يوسف أحمد بعد سنوات طويلة من الغربة ابتعدت عنه فيها.
قابلت أستاذى عدة مرات بعد عودتى من الغربة لكن اللقاء الأطول كان فى باريس العام الماضى حينما زرته بعد إجراء عملية دقيقة أقلقت الآلاف من تلاميذه. جلست معه ما يقرب من ساعة وحاولت قدر الإمكان عدم إجهاده وهو فى فترة النقاهة، لكنى لم أستطع منع نفسى من الاستفادة من علمه وخبراته فى العمل العام والأكاديمى، وهى خبرة أعتقد أنها تنقص أبناء جيلى لأسباب عديدة. عاد أستاذى إلى مصر بالسلامة وشغلتنى الحياة كالعادة إلى أن قرأت مقالا له أخيرا فى جريدة الوطن بعنوان «حصاد السنين»، فشعرت بقلق شديد عليه وخاصة أن المقال يبدو حزينا بشكل غير مسبوق وخشيت أن يكون قد أصابه مكروها فهاتفته ورد على بتواضعه المعتاد الذى سرعان ما يزيل أى رهبة، وعدت لأرهقه مجددا بأسئلتى عما يؤرقه ويحزنه بهذا الشكل، فتحدثنا طويلا عن تجربة معهد البحوث والدراسات العربية الذى يديره الآن أستاذتى الدكتورة نيفين مسعد بعد أن تسلمت راية العمل من الدكتور أحمد الذى كان أطول من شغل منصب مدير المعهد (١٩٩٣ حتى ٢٠١٣). فهمت من أستاذتى عدة نقاط هامة لابد أن أشاركها مع القارئ سواء كان مواطنا عاديا أو صانعا للقرار فالأمر بالفعل مقلق:
تم إنشاء المعهد بقرار من جامعة الدول العربية فى عام ١٩٥٣، ثم انتقل المعهد إداريا تحت إشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم فور إنشائها عام ١٩٧٠ هادفا إلى خلق جييل جديد من الأكاديمين العرب المتخصصين فى عشرة مجالات للعلوم الاجتماعية وهى التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون واللغة والإعلام والتربية والتراث، مانحا درجة البكالوريوس وكذلك درجتى الماجستير والدكتوراة فى بعض هذه العلوم.
يهتم المعهد أيضا بالدراسات العلمية المتخصصة فى المجالات السابقة ويربطها بالأساس بالهموم والقضايا العربية موفرا دراسات علمية ومنهاجية محايدة للتعامل معها، وبصفتى أحد من قمت بالإشراف والمشاركة على بعض هذه الدراسات فقد شاهدت بعينى الجهد المبذول لإخراج دراسات محايدة وعلمية وغير مؤدلجة ومرتبطة بالبيئة والسياق العربى.
يوفر المعهد أطرا ومنتديات حوارية بين مئات الطلاب العرب الدارسين بالمعهد والمقيمين فى مصر وبين صناع القرار وقادة الفكر والرأى على مستويات وطنية وقومية مما يدعم ويقوى من الهوية العربية عبر مناقشة موضوعات عربية على مستويات ثقافية واقتصادية وسياسية واجتماعية ومؤسسية مع تبادل الأراء بين النخب والمتخصصين من ناحية وبين الطلاب العرب من ناحية أخرى.
كنت شاهدا أيضا كيف وأنه فى أحلك الظروف التى تمر بها بعض الدول العربية فقد حرص المعهد دوما على استقبال طلابها بفضل المصاريف الرمزية التى يوفرها المعهد لطلابه، وقد شاهدت بعينى كيف يستقبل المعهد الطلاب الفلسطنيين والعراقيين وطلاب الصحراء بالمملكة المغربية جنبا إلى جنب مع طلاب باقى الأقطار العربية مما مكن ألاف الطلاب على مر العقود من البحث والدراسة فى المعهد ومنهم من يتبوأ الآن مقاعد القيادة فى دوله.
يتعرض المعهد الآن لبوادر خطة غير حسنة النية لتغيير قياداته وتعطيل أنشطته عبر اختلاق أسباب وهمية وحيل مصطنعة للتخلص من إدارته الحالية عبر دفع أطراف عربية أخرى لهذه اللعبة عن طريق الإيحاء لها بغير الحقيقة للإيقاع بينها وبين إدارة المعهد لتكتمل معالم الخطة فى نفس الوقت.
سألت أستاذى هل للحساسية تجاه دور مصر القيادى والريادى فى منظومة العمل العربى المشترك سبب فيما يحدث؟ فأكد بالنفى ثم فاجأنى بأن السبب الحقيقى على ما يبدو هو الحساسية من منظومة العمل العربى بأكملها وأن أطرافا كالعادة لا يرضيهم العمل العربى المشترك فيتفننون فى إيقاف أصر التعاون الجادة والمنهجية ولا يحركهم فى ذلك سوى قصر نظرهم وسوء نيتهم.
انتهى حوارى مع أستاذى الذى يرى أن سنوات عمره تضيع أمامه بسبب مراهقات صبيانية غير مسئولة من أطراف وصفها فى مقالته المشار إليها مسبقا «بالمغول»، وليسمح لى أستاذى فى أن أقول أن لفظ «مغول» فيه تكريم لهؤلاء فحتى المغول رغم تخريبهم كان لديهم فتوحات وإمبراطوريات وخطط وتوسعات، أما هؤلاء فبكل تأكيد أقل مقاما، هم مجرد مراهقين لا يفهمون فى أصول العلاقات الدولية أو الترتيبات الإقليمية أو العمل العربى المشترك على كل علاته.
اعتقادى أن رئاسة الجمهورية على علم بالخطة وأن الخارجية المصرية وجامعة الدول على علم بها أيضا وربما بدأ التحرك لمواجهة هذه الخطة، وأتمنى أن تستمر جهود هذه المؤسسات لمواجهة أى ضربات جديدة للعمل العربى المشترك الذى لم يعد يتحمل المزيد من الضربات أو التراجعات بفعل تفاهات أو تصرفات خاطئة من هنا أو هناك.
إذا كنا نختلف أحيانا مع الأجيال الأكبر ورموزها فى الفكر أو الرأى، وإن كان بعضنا يحمل بعضهم المسئوليات عن هذه التراجعات أو تلك، إلا أن الاعتراف بأفضال وخبرات وتضحيات البعض الآخر منهم ومنهن يصبح واجب والتواصل معهم وفهم تفكيرهم والاستفادة من خبراتهم وتفهم دوافعهم أو تخوفاتهم يصبح واجب عين. سعيد أنى تواصلت وكتبت عن أساتذتى الدكتور أحمد يوسف والدكتورة نيفين مسعد وأتمنى فى يوم قريب أن أستكمل باقى الفكرة وأخرج بعمل كامل عن حواراتى مع الأجيال الأكبر فالحياة فى النهاية هى تواصل بين الأجيال.
----------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الأحد، 30/1/2014.
** مدرس علوم سياسية بجامعة القاهرة