نسرين جاويش - باحثة في العلوم السياسية
Beyond War: Reimagining the American influence in a new Middle East,
David Rodhe, (New York: Penguin Books , 2013)
أثبتت السنوات التي تلت الحرب التي شنتها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج بوش" (2000- 2008) علي الإرهاب بؤس وضآلة النتائج التي خلفتها تلك الحرب علي نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، واستقرار النظم الداعمة لها. فالحرب لم تؤد إلا إلي مزيد من الاضطراب في المنطقة، ودخولها في حرب طائفية باردة. ثم جاء ثورات وانتفاضات ما عرف بـ "الربيع العربي"، وما أثارته من حروب أهلية، واضطرابات سياسية واسعة النطاق وبعيدة المدي، لتثبت مدي خلخلة الأوضاع في المنطقة، وعدم قدرة واشنطن علي التحكم في مسارها. وقد دفع هذا المحللين والكتاب الأمريكيين لمحاولة إعادة تأطير السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط الجديد. إحدي هذه المحاولات يمثلها كتاب ديفيد رود "ما وراء الحرب".
مؤلف الكتاب، ديفيد رود، صحفي وكاتب أمريكي غطي حروب الولايات المتحدة في المنطقة. وفي عام 2008، أثناء تغطيته العمليات العسكرية في أفغانستان، تعرض للخطف، وظل محتجزا لمدة تزيد علي سبعة أشهر، حتي استطاع الهرب من خاطفيه. وقد وثق لخبرة الاختطاف والهروب في كتابه "حبال وصلاة Rope and Prayer"، وفد أضفت هذه الخبرة طابعا واقعيا عن المنطقة.
سياسة الارتباط البناء في الشرق الأوسط:
يصف رود كتابه بأنه محاولة لوصف "منهج أمريكي أكثر فعالية وبرجماتية للتعامل مع العالم الإسلامي". ويري "أن الاقترابات الأكثر اقتصادية وأقل عسكرية سوف تحقق نتائج أكبر من تلك التي حققتها حربا أفغانستان والعراق. فعلي الرغم من أن الضربات التي تقوم بها الطائرات دون طيار، والعمليات السرية قد تكون ضرورية، فإن الاستثمار في السياسات الاقتصادية والتعليم من شأنه أن يمثل سلاحا قويا، فعلينا أن نطور فهما أكثر تركيبا للمنطقة ولكيفية التعامل معها".
ويؤكد أن المنطقة الآن تزخر بشباب يتطلع إلي الوجه الآخر للوجود الأمريكي، فهو يريد منها أن تلعب دورا بناء في الاستثمار، والتعليم، والتجارة، والتكنولوجيا، خاصة أن استطلاعات الرأي العام في دول مثل مصر، وليبيا، وتونس تشير إلي إعجاب شعبي بالثقافة والتكنولوجيا الأمريكية، وفي الوقت ذاته لا يريدون أن يحكم الجهاديون المتشددون بلادهم.
الكتاب موجه بالأساس إلي صانع القرار الأمريكي، فالكاتب يؤكد أن إدارة أوباما في فترتها الثانية عليها أن تعتمد سياسة تحالف مع العرب والجنوب آسيويين الملتزمين بالقيم الديمقراطية، والمعارضين للعنف، ويجب أن يكون تركيز واشنطن علي إيجاد سبل مستمرة لتقوية هذه المجموعات الديمقراطية علي المدي الطويل، إذ إنها، لا الجنود الأمريكيين، تمثل السلاح الأكثر قوة وكفاءة في مواجهة الجهاديين والمتطرفين.
غير أن هذه العملية ليست بالسهلة، فالمشهد السياسي في هذه البلدان معقد للغاية، ويعج بالأحزاب والحركات ذات الاتجاهات المتنوعة. لكن رود يعول علي الأحزاب الإسلامية ذات الشعبية والمؤمنة بالانتخابات مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وحزب النهضة التونسي. وعلي الرغم من أن هذه الأحزاب ليست بـ "المثالية" بشأن الديمقراطية المطلوبة، فإنها مغايرة للجماعات السلفية العنيفة التي يعدّها "أعداء" الولايات المتحدة.
تقوم السياسة الأمريكية المرجوة -طبقا لرود- في المنطقة علي ركيزتين، هما استهداف الجماعات المتطرفة، والتركيز علي النمو الاقتصادي للمنطقة. وتتميز المنطقة بأن 60٪ من سكانها تحت سن الثلاثين، وهو الأمر الذي يعني أنه بحلول عام 2020، سيكون من الضروري توفير مئة مليون وظيفة عمل لشباب المنطقة، وهو أمر من ناحية يتطلب استثمارا كبيرا، ومن ناحية أخري يمثل فرصة للارتباط البناء بالمنطقة. ويرصد الكتاب أكثر من 67 مليار دولار أنفقتها الولايات المتحدة في مشروعات البنية التحتية والإعمار في أفغانستان، وباكستان، والعراق. وبين عامي 2001و2011، نفذت مشروعات لدعم المؤسسات، والصحة، والتعليم، والشرطة المحلية، والقضاء، ومؤسسات الحقوق المدنية في هذه الدول. غير أن هذه المليارات وتلك الجهود كان لها نتائج هزيلة، إذ إن واشنطن في الوقت الذي كانت ترعي فيه هذه الجهود، تجاهلت حلفاءها، ولم تدعمهم بالقدر الكافي. والأهم من ذلك أنها تجاهلت استخدام أسلحتها الأكثر فاعلية، وهي التكنولوجيا الأمريكية والاستهلاكية، والاستثمار الاقتصادي.
حلفاء المستقبل المحتملون:
يركز رود علي السياسة الأمريكية في شمال إفريقيا، خاصة تجاه مصر، وليبيا، وتونس. ويبدو أن معضلة العلاقة بين الإسلام والديمقراطية هي أخطر ما يواجه إعادة بناء هذه الدول من وجهة نظر الكاتب، وغيرها في العالم الإسلامي، بعد سنوات الثورة والاضطراب. ويري رود أن أحزابا مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وحزب النهضة في تونس باستطاعتهما أن يحلا هذه المعضلة، من خلال اعتمادهما سياسة ديمقراطية في حكمهما في البلدين اللذين وصلا فيهما للحكم، حيث يستطيعان أن يجسرا الهوة بين الشباب المتعلم والمعولم والمؤمن بقيم الحرية والديمقراطية، وأن يدفعا بالمزيد من دمج هذا الشباب في العملية السياسية بما يوسع من قاعدة شرعية السلطة الحاكمة.
ومن ناحية أخري، سيكون علي إدارة أوباما أن تستثمر المزيد لدعم اقتصاد هذين البلدين بما قد يقضي علي أساب الاضطراب الدائم، والمتمثل في القهر السياسي، والحرمان الاقتصادي للأغلبية.
ويفرد رود فصلا عن ليبيا، فقد أسهمت واشنطن بفاعلية في إسقاط نظام القذافي، غير أنها لم تسع لملء الفراغ الناجم عن هذه العملية. لقد استطاعت العناصر المتطرفة أن تملأ جزءا كبيرا من هذا الفراغ، وكان الهجوم الدامي الذي تم علي السفارة الليبية في أواخر 2012، ونجم عنه مقتل السفير الأمريكي كريس ستيفنز، علامة علي انفلات الأمور في ليبيا. وعلي الرغم من هذه الضربة، فلم تعالج واشنطن الموقف علي نحو جدي، فظلت مرتبكة إزاء ما يحدث. ويعزو رود هذا التعثر إلي أن الولايات المتحدة فشلت في تعزيز مقاوليها وهيئاتها الاستثمارية والتعاونية مثل USAID في ليبيا بما تركها غنيمة في يد المتطرفين.
وعلي الرغم من أن كتاب رود يمثل جهدا مختلفا من حيث اقترابه وأهدافه لإعادة توجيه السياسة الأمريكية في المنطقة، فإنه قد وصل إلي نتائج سرعان ما أثبتت الأحداث عدم صحتها. لقد اتضح مثلا أن الإسلام السياسي المعتدل الذي تمثله جماعة الإخوان المسلمين لم يكن بالديمقراطية التي تصورهم بها واشنطن. لقد فشلت تجربة الإسلاميين بمصر، وأدي هذا الفشل إلي دخول البلاد في صراع سياسي لا يزال مستمرا. أما إخوان تونس، فقد تراجعوا عن الاستئثار بالحكم، ولم ينجحوا في بناء "تجربة حكم إسلامية".
ومن ناحية أخري، تجاهل الكتاب العديد من الملفات الأخري في المنطقة والمؤثرة في مستقبل النفوذ الأمريكي. فالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي يثبت في كل مرة قدرته علي توليد الاضطرابات والحروب الدموية في المنطقة. غير أن الصعود غير المسبوق للجهاديين في سوريا والعراق يثبت صحة دعوة رود واشنطن لأن تعيد بناء سياستها من جديد، مع دخول المنطقة في اضطراب غير معهود، وحروب غير معهودة في تاريخها.