عندما أعلن المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية المصرية في 7 سبتمبر الجاري حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على استتباب الأمن في ليبيا وتحذيره من مغبة التدخل الخارجي فيها، كان يقصد بطبيعة الحال التدخل السلبي الذي يؤدي إلى مزيد من تفاقم الأزمة وتعقيدها. غير أنه قد لا يكون ممكناً وضع حد لهذه الأزمة من دون تدخل إيجابي يساعد في إنقاذ ليبيا وشعبها من حرب أهلية مدمرة، ويسهم أيضاً في وضع حد لخطر الإرهاب العابر للحدود الذي يهدد الأمن القومي لدول عدة في المنطقة. لذلك تطرق المتحدث باسم الرئاسة المصرية في السياق نفسه إلى أهمية تعزيز العمل العربي المشترك في المجالات كافة، ومن بينها مكافحة الإرهاب. فالتعاون العربي ضروري لإنقاذ ليبيا، التي انفلت الصراع فيها –وعليها– وبلغ مبلغاً يهدد بنشوب حرب أهلية تختلط فيها النزاعات السياسية بأخرى أيديولوجية وعقائدية تجد تنظيمات إرهابية مجالاً واسعاً للتمدد فيها، وتتداخل مع خصومات تقليدية قبلية وجهوية (مناطقية)، في مجتمع تركه حكم العقيد معمر القذافي أنقاضاً بلا مؤسسات وطنية. لذلك انتشرت الفوضى فور سقوط هذا الحكم، وتصاعدت في ظلها صراعات من كل نوع نتيجة سوء إدارتها ومحاولة بعض الأطراف استغلالها لمصلحته. فقد تعامل المؤتمر الوطني الانتقالي مع هذه الفوضى بطريقة أدت إلى استفحالها، إذ عجز عن وضع أساس صحيح لبناء جيش وطني محترف غير مسيَّس، فلجأ إلى الاعتماد على عدد متزايد من المليشيات التي ظهرت خلال المعارك ضد قوات القذافي.
وتحولت هذه المليشيات إلى «جيوش» متوازية تحصل على مخصصات من الدولة بلا أي ولاء لها. وكانت القوى ذات الخلفيات الأصولية المتطرفة، والتوجهات «السلفية الجهادية» التي تمثل الأساس الفكري للإرهاب، هي الرابح الأول من خطة «دمج المليشيات» التي سرعان ما تبين أنها صارت مصدر خطر كبير.
وكان هذا الوضع مغرياً لجماعة «الإخوان» وذراعها السياسية «حزب العدالة والبناء»، رغم خصوصية المجتمع الليبي الذي لا يتيح مجالاً واسعاً للاتجار بالدين. فقد حاول «الإخوان» تعويض محدودية انتشارهم في ليبيا المترامية الأطراف وقلة عددهم عبر تحالفات قبلية وجهوية وعلاقات قائمة على تبادل المنافع، من أجل تغيير تركيب المؤتمر العام المنتخب في يوليو 2012. كما لجأوا إلى العزل السياسي لإبعاد كل من اضطر إلى العمل في أي موقع في إدارات «الجماهيرية»، وليس فقط في مطبخ نظام القذافي، حين لم يكن هناك خيار آخر أمام الليبيين.
وكانت هذه هي بداية الاستقطاب الراهن الذي سعى «الإخوان» لخلقه في ليبيا، مثلما فعلوا في مصر وكما حدث في تونس بدرجة أقل. فلم يكن بإمكان «الإخوان» تنفيذ خطتهم في وضع غير مهيأ لها إلا عبر صناعة استقطاب مجتمعي واسع ومتعدد الجوانب بحيث تستتر أطماعهم السياسية وراء طبقاته المختلطة والمتداخلة. وهذا يفسر سعيهم لتعميق هذا الاستقطاب في الأشهر الأخيرة عندما فشلوا في إدارة انتخابات مجلس النواب في يونيو الماضي، وتيقنوا من أن تركيبه لن يسمح لهم بالسيطرة عليه من داخله بطريقة شراء الولاءات، بخلاف ما كانت عليه الحال في المؤتمر العام المنتخب عام 2012.
لذلك لجأوا إلى تعميق الاستقطاب على الأرض، وعلى مستوى المؤسسات في آن معاً، عبر تصعيد الهجمات سعياً للسيطرة على طرابلس وبنغازي واستدعاء المؤتمر العام المنتهية ولايته في مواجهة مجلس النواب الذي حل محله، وتشكيل حكومة موازية لتلك التي تستند إلى الشرعية الانتخابية، وبالتالي صناعة نزاع لا أساس قانوني له على الشرعية السياسية.
لقد أصبح الاستقطاب هو السبيل الوحيد أمام جماعة «الإخوان» وحلفائها من قوى الإسلام السياسي، و«السلفية الجهادية» ذات التوجهات الإرهابية، وفي مقدمتها جماعة «أنصار الشريعة». فالاستقطاب الحاد هو الذي يوفر لها عوامل إسناد عشائرية وقبلية وجهوية، ويمكنها من استثمار الصراعات التقليدية التي تبلغ ذروتها في مثل هذا المناخ. وما الصراع بين الزنتان ومصراتة إلا مثل واحد على ذلك.
وليس بإمكان جماعة «الإخوان» وحلفائها الأصوليين خوض معركة سياسية صريحة ضد القوى الوطنية والمدنية، لأن نتيجتها محسومة سلفاً، كما ظهر في نتائج انتخابات مجلس النواب التي أُجريت في يونيو الماضي. فلم يحصل «الإخوان» وحلفاؤهم مجتمعين إلا على 23 مقعداً من أصل مائتين. وهؤلاء هم الذين يقاطعون اجتماعات هذا المجلس منذ افتتاحه في طبرق لأسباب أمنية.
لذلك يبدو أن المدخل الأساسي لدور عربي إيجابي لإنقاذ ليبيا يبدأ بالسعي لتهدئة الاستقطاب الذي دفعه «الإخوان» إلى ذروته في الأشهر الأخيرة، لأن هذا هو السبيل إلى تفكيك التحالف المجتمعي الذي يخفون أطماعهم السياسية في ثناياه. وليس صعباً تحقيق ذلك، خاصة في ظل سلوك «الإخوان» المعتاد وطريقة تعاملهم مع حلفائهم وسعيهم للاستئثار بالقرار وعدم وفائهم بتعهداتهم. وهناك خلافات بدأت تحدث بالفعل، لكن أجواء الاستقطاب تحول دون تطورها في اتجاه يُهدد التحالف الذي يستتر «الإخوان» وراءه. ومنها مثلاً الخلاف الذي حدث في بنغازي عندما أعلنت مجموعة تابعة لجماعة «الإخوان» وحزبها ومجموعات «جهادية» متحالفة معها إنشاء «مجلس شورى» لمواجهة الأزمات في المدينة في 17 أغسطس الماضي، حيث سارع «مجلس شورى ثوار بنغازي» الذي سبق أن أنشأته مجموعات «جهادية» أخرى متحالفة معها الآن إلى إدانة تلك الخطوة وشن هجوم على «الأطراف التي لا تعرف إلا مصالحها السياسية». كما حدثت اشتباكات في بنغازي للمرة الأولى بين مجموعتين من هذا التحالف في 8 سبتمبر الجاري.
لذلك يبدو السعي لكسر الاستقطاب ومن ثم تفكيك التحالف الذي يستتر «الإخوان» وراءه ضرورياً لإحباط محاولتهم تصدير المشهد إلى المجتمع الدولي كما لو أنه صراع حقيقي على الشرعية. ورغم أن انتخابات مجلس النواب حسمت هذا الصراع وفق المعايير الديمقراطية، مازال هناك انطباع لدى كثير من الدول الغربية بأن أحداً لا يملك شرعية كاملة في ليبيا. لذلك ربما تكون الخطوة الأولى في الدور العربي لكسر الاستقطاب بغية تفكيك التحالف «الإخواني»، تشجيع مجلس النواب المنتخب لكي يرتفع فوق الصراع ويتبنى رؤية وطنية شاملة بدعم من الدول الحريصة على إنقاذ ليبيا. وعندئذ يكون هذا المجلس قادراً على نيل ثقة المجتمع الدولي والبدء في اتخاذ إجراءات تُقنع أطرافاً قبلية وجهوية في التحالف الذي يستخدمه «الإخوان» بإمكان التوصل إلى حل سياسي من خلال حوار يرعاه هذا المجلس لبناء دولة وطنية لكل الليبيين الذين يؤمنون بأن ولاءهم لا ينبغي أن يكون إلا لهذه الدولة وحدها.
-------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء، 23/9/2014.