في الثاني من سبتمبر2014، أصدرت الخارجية السودانية بياناَ مقتضباً أعلنت فيه إغلاق المركز الثقافي الإيراني، وفروعه المنتشرة في السودان، مع إمهال الملحق الثقافي الإيراني ومعاونيه مدة اثنتين وسبعين ساعة لمغادرة البلاد. وقد تباينت الآراء بشأن طبيعة هذا القرار، بين من عده نقلة نوعية، ربما تؤثر فى العلاقات السودانية- الإيرانية، ومن ذهب إلى كونه تطبيقاً لمبدأ التقية الشيعى، بغية تفادى غضب الغرب ودول الخليج العربي من تنامى العلاقات بين الخرطوم وطهران.
في هذا الإطار، يسعى التقرير إلى إلقاء الضوء على العلاقات السودانية- الإيرانية، موضحاً أسباب التقارب بين الجانبين، ودوافع القرار السوداني بإغلاق المركز الثقافي الإيراني، وتوقيت هذا القرار، ومواقف القوى السودانية منه، ورد الفعل الإيراني على القرار، وآثاره المحتملة على العلاقات السودانية- الإيرانية، ومدى انعكاسه على العلاقات السودانية- الدولية.
دوافع التقارب
البداية، كانت في عام 1974 عندما افتتح السودان سفارة في طهران، في ظل تلاقي النظامين إيران الشاه، وسودان النميرى، حيث الدوران في الفلك الأمريكي. غير أن العلاقات بين الدولتين انحسرت إثر الثورة الإيرانية عام 1979، وتأييد السودان للعراق في حربه ضد إيران. ثم أخذ منحنى العلاقة في التصاعد في عهد الصادق المهدي، ليصل إلى مستوى التحالف الاستراتيجي، في ظل نظام الإنقاذ الوطني، الذي يحكم السودان منذ عام 1989.
ويعود التقارب بين الدولتين إلى عوامل عديدة، أهمها: التوجه الإسلامي المشترك، والاستهداف الخارجي، ووقوفهما ضد الضغوط الأمريكية الغربية، فضلاً عن كون السودان يمثل مدخلا للدائرة العربية والإفريقية أيضاً، حيث رأت إيران أن السودان بوابة لتصدير الثورة، إذ وصف وزير الدفاع الإيراني السابق، مصطفي محمد نجار، السودان بأنه حجر الزاوية في الاستراتيجية الإيرانية بالقارة الإفريقية. كما تسعى إيران إلى كسب المزيد من التأييد الدولي لمواقفها، وتوجيه رسالة إلى الدوائر الغربية تحديدًا، مفادها أن لديها القدرة على الانفتاح لتغيير الصورة النمطية عنها، والتي توصف من خلالها دائمًا بالتشدد.
في المقابل، يرى السودان في إيران حليفاً استراتيجياً، ربما يمنحه الفرصة للخروج من عزلته الدولية، في وقت كان السودان يشهد فيه حصاراً سياسيا واقتصادياً، بعد إدراجه ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس البشير، وعدد من كبار معاونيه منذ عام 2009.
كما يسعى السودان إلى الاستفادة من الخبرات الصناعية الإيرانية، مدنياً وعسكرياً، بدلاً من التقيد باستخدام السلاح الروسي والصيني، فضلاً عن طموحه في الاستفادة من الدعم الإيراني في تخفيف وطأة الديون الخارجية التي تجاوزت 45 مليار دولار.
وقد عبر هذا التقارب عن نفسه من خلال مؤشرات عديدة، أهمها: كثافة الزيارات المتبادلة رفيعة المستوى بين الجانبين، وتنامي التعاون بينهما كما ونوعاً في مجالات التنسيق السياسي، والاستثمار، والتجارة، والزراعة، والطاقة، والبنية الأساسية، والخدمات الصحية، والتبادل العلمي، والتدريب العسكري، والاستخباراتي، والقضائي، والتسليح .. إلخ، حتى إن الرئيس الإيراني السابق، د. محمود أحمدي نجاد، أكد لدى زيارته للخرطوم عام 2007 أن العلاقات بين الدولتين لا سقف لها.
تحولات مفاجئة
بيد أنه في خضم هذا التفاعلات، فوجئت الحكومة السودانية ببعض الإجراءات التى تعكس اتجاهاً صوب تحجيم العلاقات مع إيران، ومن ذلك إغلاق الأجنحة الإيرانية في معرض الخرطوم الدولي للكتاب، وذلك لأكثر من مرة منذ عام 2006، فضلاً عما كشفه وزير الخارجية السوداني، علي كرتي، في مايو2014، عن رفض الخرطوم لعرض إيراني بإنشاء منصة دفاع جوى على ساحل البحر الأحمر للحد من عمليات القصف الإسرائيلي للأراضي السودانية، حتى لا ترى السعودية أنها موجهة ضدها.
لكن التطور الأبرز في هذا الصدد كان هو إغلاق المركز الثقافي الإيراني بالخرطوم، الذي أقيم في عام 1988، بالإضافة إلى إغلاق فروعه التي تبلغ ستة وعشرين، وذلك بالتزامن مع إغلاق الجناح الإيراني بمعرض الكتاب السوداني، وإبعاد موظفيه في سبتمبر 2014 الجاري.
وقد بررت الخرطوم ذلك بأن المركز الثقافي الإيراني أصبح يمثل تهديداً حقيقياً للأمن الفكري والاجتماعي في البلاد، خاصة أن المجتمع السوداني هو مجتمع الإسلام الوسطي المتسامح، لذا فهو لا يحتمل أي تدخلات من أطراف دولية، أو مدارس فكرية تحاول تغيير روح المزاج السوداني، وتعكير صفوه، حيث يتبع السواد الأعظم من السودانيين المذهب السني المالكي، كما تنتشر في ربوعه الكثير من الطرق الصوفية.
الواقع أن دوافع هذا القرار تكمن في التخوف من تغلغل المذهب الشيعى في السودان، وتنامي الاحتجاجات الداخلية بعد افتتاح نحو خمس عشرة حسينية في البلاد، والتوسع في برامج التدريب، والمنح الدراسية، ونشر المطبوعات التي تروج للمذهب الشيعى، حيث تجاوز عدد الشيعة في السودان 12 ألف مواطن.
كما افتتح للمرة الأولى عدد من المساجد الشيعية في الخرطوم والمدن السودانية. وأصبح الاحتفال بمولد الإمام المهدي، والسيدة فاطمة من الأمور المستحدثة في البلاد. واتضح للخرطوم أيضاً أنها لم تستفد كثيراً من الاقتصاد الإيراني المحاصر أيضاً، حيث إن حجم التبادل التجارى، والاستثمارات، والدعم المالي الإيراني ظل متواضعاً للغاية، ولا يتسق مع التطورات التي جرت على المسارين السياسي والثقافي، وما تقدمه الخرطوم من تسهيلات لطهران. وفي هذا السياق، قال الرئيس عمر البشير: " إن الحصار الاقتصادي على السودان هو ثمن موقفنا من قضية القدس، وعلاقاتنا مع إيران".
فضلاً عن ذلك، فإن العلاقات مع إيران أسهمت إلى حد كبير في تفاقم عزلة النظام السوداني لتتجاوز المستوى الدولي إلى المستوى الإقليمي أيضاً، وذلك بعد توتر العلاقات مع مصر، بسبب الموقف السوداني من قضية سد النهضة، وتلويح بعض المسئولين السودانيين بإعادة فتح قضية حلايب.
يضاف لذلك توتر العلاقات مع دول الخليج، خاصة السعودية، وإيقاف الرياض تعاملاتها المصرفية مع البنوك السودانية، وتقليص وارداتها من اللحوم السودانية، وذلك ضمن إجراءات عقابية للنظام السوداني، بعد استضافته لسفن حربية إيرانية في ميناء بورسودان. كما تعرض السودان للعديد من الغارات الجوية الإسرائيلية، منذ عام 2009، والتي كان آخرها قصف مجمع اليرموك للصناعات العسكرية عام 2012، وهو ما يعنى أن السودان لم يستفد كثيراً في علاقاته الخارجية من دولة هي نفسها رهينة حصار شديد.
تأثيرات القرار السوداني
وبالنسبة لتوقيت صدور القرار، فهو يمثل خطوة استباقية مهمة قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في السودان في عام 2015، وتزايد التكهنات بشأن استمرار البشير في السلطة من عدمه. كما أنه يرتبط بتنامى المعارضة السياسية والمسلحة ضد نظام البشير، والجمود على المسار التفاوضي بالنسبة للقضايا المعلقة مع جنوب السودان، فضلاً عن غلبة التيار المعارض لتدعيم العلاقات مع إيران بقيادة وزير الخارجية، على كرتي، في مواجهة التيار الداعم لتلك العلاقة، والذى يقوده نائب الرئيس السوداني السابق، على عثمان طه.
أما عن ردود الأفعال إزاء القرار، فقد لقي القرار ارتياحاً كبيرا لدى معظم القوى السياسية السودانية، بما في ذلك أحزاب المعارضة، والجماعات السلفية والصوفية، مثل مجمع الفقه الإسلامي، والمجمع الصوفي العام، وجمعية أنصار السنة المحمدية، وكذا الأوساط الشعبية، ومواقع التواصل الاجتماعي، التي وصفته بأنه خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح.
ومرد ذلك أن السودان سوف يتمكن بذلك من التفرغ لإعادة ترتيب البيت من الداخل، وتصحيح مسار العلاقات التي تجمع السودان تاريخياً بمحيطيه العربي والإسلامي، لتكون أكثر نفعا وجدوى، بدعوى أن الواقع أثبت عدم جدوى علاقات السودان بإيران، وذلك لضعف العائد منها. بل إن الرأي العام السوداني في معظمه يرى في إيران مصدرا للقلق والإزعاج الشعبي في البلاد، وهو ما يفسر ربط السودانيين بين إيران وإسرائيل، بدعوى أن كلتيهما تمثل خطراً حقيقياً على الإسلام.
في المقابل، انفرد حزب المؤتمر الشعبي بانتقاد القرار، مؤكداً أن وجود المركز الثقافي الإيراني بالخرطوم ذو طابع سياسي أكثر منه دينيا، وأنه يعبر عن تقارب البلدين، وأن إغلاق هذا المركز سوف تكون له تبعات سلبية على العلاقات السودانية- الإيرانية، وأنه كان بالإمكان البحث عن معالجات أفضل من قرار الإغلاق، ومن ذلك تشديد الرقابة على المركز، وإلزامه بعدم مخالفة قوانين البلاد، وحصر دوره في الجانب الثقافي فحسب، ومنعه من الترويج للأفكار الشيعية.
أما عن رد الفعل الإيراني، فقد بدا واضحاً أن القرار جاء صادماً للنظام الإيراني، وهو ما يفسر رد فعله، الذي تراوح بين التشكيك في صدور القرار ابتداء، ومحاولة إرجاعه إلى أطراف داخلية وخارجية تريد إفساد العلاقات السودانية- الإيرانية، والسعي لإثناء الخرطوم عن قراراها، والتحذير من مغبة انتشار التطرف الديني في السودان، خاصة ضد الشيعة، وذلك بعدما أعلن رئيس البرلمان السوداني عن اتجاه لسن تشريع يجرم التشيع في البلاد.
وفيما يتعلق بانعكاسات القرار على العلاقات السودانية- الإيرانية، فمن المتوقع أن تنحسر العلاقات الثقافية بين الدولتين، دون أن يؤثر ذلك بشكل جوهري فى التعاون في المجالات الأخرى، على الأقل في الوقت الراهن.
ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن إيران ربما تتضرر بشكل مباشر من اتجاه الخرطوم الجديد، حيث إنه من شأنه تضييق تحالفاتها الإقليمية، بعد تفجر الأوضاع في سوريا، وخسرانها للإطلالة الاستراتيجية على البحر الأحمر، والتأثير فى دورها في دعم الحوثيين في اليمن.
وبالنسبة لأثر القرار على العلاقات الخارجية للسودان، فإن القرار يمثل رسالة للأطراف الخارجية عموما، وللمحور الخليجي السعودي- المصري، بوجه خاص، مفادها أن الخرطوم جادة في تحجيم علاقاتها والتزاماتها إزاء معسكر إيران وحماس، وهى العلاقات التي أسهمت في توتر العلاقات السودانية مع دول الخليج العربي ومصر، في ظل خلفية نظام الخرطوم الإسلامية، وعلاقته مع الدوحة، والتنظيم العالمي للإخوان المسلمين.فإذا ما انعكس ذلك بالإيجاب على المواقف الخليجية- المصرية من السودان، فمن المنتظر أن تمضى الخرطوم قدماً في فك الارتباط مع إيران، وإن كان بشكل تدريجى. في المقابل، من المتوقع أن تعاود المساعدات الاقتصادية، والاستثمارات الخليجية التي تبلغ زهاء 30 مليار دولار طريقها إلى السودان.
ويعنى ذلك أن النظام السوداني سيصبح أكثر براجماتية، بالاستجابة لضغوط المعارضة الداخلية، وتداعيات ثورات الربيع العربى، بما يجعله يعطى الأولوية لاستقرار البلاد، وضمان سلامتها الإقليمية، والحفاظ على كيان النظام الحاكم، على حساب العقيدة والأيديولوجيا، التي دفعته في وقت سابق إلى توثيق العلاقات مع إيران.