عرض، طارق راشد عليان، باحث علوم سياسية
حذر ميكيافيلي، منذ قرون مضت، في عمله الإبداعي "الأمير" من أنه عندما يتم التعرف على التهديدات مسبقًا بدرجة كافية، فإنه يتسنى التعامل معها بسرعة. لكن "عندما يُسمح لها بأن تنمو، بسبب عدم تشخيصها، إلى أن يصير بمقدور الجميع التعرف عليها، يكون أوان العلاج قد فات". وفي هذا السياق، ترى إيليم بوبليتيه، المدير السابق لمكتب لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي، في تحليل نشرته مجلة "ناشيونال إنترست" في موقعها على الإنترنت، أن الولايات المتحدة، للأسف، تبدو عازمة على تكرار هذه الأخطاء نفسها مع إيران، خاصة مع تصاعد نشاطها في أمريكا اللاتينية.
ورغم أن أولوية النظام الإيراني العاجلة، بحسب الكاتبة، هي التأثير فى التطورات في جواره، كالعراق، وقطاع غزة، وسوريا، ولبنان، وبعض دول الخليج ، فإنه يعكف على توسيع تحالفاته في أماكن أخرى لتطويق وتهديد من يتصور أنهم أعداؤه، وفي الوقت نفسه، لتقليص التكاليف الفعلية أو المحتملة الناجمة عن سياساته، وواحدة من المناطق التي يعدها المسئولون الإيرانيون أرضًا خصبة، هي أمريكا اللاتينية.
النشاط الإيراني في أمريكا اللاتينية
ترصد الكاتبة النشاط الإيراني في أمريكا اللاتينية، حيث التقى النائب الأول للرئيس الإيراني، إسحاق جهانغيري، منذ فترة قريبة الزعيم الفنزويلي نيكولاس مادورو. وكما فعل كثير من الزعماء الإيرانيين من قبله خلال زياراتهم التي قاموا بها إلى أمريكا اللاتينية، وصف جهانغيري العلاقات الإيرانية - الفنزويلية بأنها "أساسية"، وأكد استعداد إيران الدائم لتوسيع الروابط بين البلدين على المستويات كافة. وقال السفير الفنزويلي في طهران لوكالة أنباء فارس الشهر الماضي إن فنزويلا مستعدة لأن تصبح محورًا للصادرات الإيرانية إلى دول أمريكا اللاتينية الأخرى.
وترى الكاتبة أن هذه التحركات تأتي في سياق سعى النظام الإيراني منذ بداية الثورة الإسلامية إلى "تصدير" أيديولوجيته الراديكالية باستخدام كل الوسائل الضرورية. وأوضحت: "تواصل الكيانات المدعومة من إيران، مثل "بيت أمريكا اللاتينية في إيران"، ترعرعها في المنطقة بهدف ظاهره حميد، وهو "تعزيز العلاقات بين الشعب الإيراني وشعوب أمريكا اللاتينية"، غير أن هدفها الحقيقي يبدو أنه تشجيع العنف، والقمع، والإضرار بمصالح الولايات المتحدة".
واستضاف بيت أمريكا اللاتينية رئيس نيكاراجوا دانيال أورتيغا، كما أعلن أخيرا عن نيته نشر خلاصة لمقالات ورسائل الرئيس الكوبي السابق، فيدل كاسترو، بالإضافة إلى كتاب حول كوبا والشئون الدولية بالتزامن مع "حملة التضامن بين إيران وكوبا".
ودخلت العلاقات الثنائية بين إيران وكوبا مرحلة جديدة بعد زيارة قام بها فيدل كاسترو إلى إيران في مايو 2001، حيث صرح كاسترو- خلال لقاء جمعه مع المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي- قائلا: "تستطيع إيران وكوبا، بالتعاون فيما بينهما، تركيع أمريكا". ومن جانبه، أكد خامنئي بقوله: "الولايات المتحدة ضعيفة وهشة للغاية في يومنا هذا.. يمكن تحطيم الجبروت الأمريكي".
في السياق نفسه، وثق الكونجرس الأمريكي مجهودًا ممنهجًا استمر على مدى عقود لإقامة وزرع نقاط وعملاء استخباراتيين سريين باستخدام المنشآت الدبلوماسية الإيرانية الرسمية، بالإضافة إلى المؤسسات التعليمية، والدينية، والثقافية كغطاء لشبكتهم الإرهابية، على حد قول الكاتبة. وفي السنوات الأخيرة، أعرب المسئولون الأمريكيون عن شواغلهم بشأن الوجود المتنامي لأفراد من "قوة القدس" النخبوية الإيرانية - التي تتزعم جهود طهران العالمية، والضالعة في أنشطة النظام ذات الصلة بالمقذوفات والقدرة النووية - في أمريكا اللاتينية، وبالأخص في فنزويلا. وتم الكشف – بحسب الكاتبة- عن شبكات تعمل في أمريكا اللاتينية، وتفيد إيران وشركاءها في "الإرهاب"، بمن في ذلك تجار مخدرات، ومهربو سلع استهلاكية، ومزيفون، وغاسلو أموال يستخدمون شركات، وبيوت صرافة، ومؤسسات مالية أمريكية كواجهة.
ورغم أن الولايات المتحدة تفرض عقوبات على الكيانات، أو الأفراد، الذين يُعتقد أنهم ينتهكون العقوبات ذات الصلة بإيران، فإن الكاتبة تنتقد أسلوب اهتمام بلدها بأمريكا اللاتينية، كأولوية من أولويات الأمن القومي الأمريكي، حيث قلما تحظى بحسبان السلطة التنفيذية عند اتخاذها قرارات بشأن الاستراتيجية، والموارد، والتمويل لمواجهة التهديدات الخطيرة كالإرهاب والانتشار، حيث ركّز الاستعراض الدفاعي الذي يُجرى كل أربع سنوات لسنة 2014، على سبيل المثال، على تغير المناخ العالمي بدرجة أكبر من تركيزه على التطورات الأمنية في أمريكا اللاتينية.
وأشارت بوبليتيه إلى أنه عادة ما يُنظر في الاستراتيجية الأمريكية إلى أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي من خلال عدسة المخدرات، أو العنف الإجرامي، أو الهجرة غير الشرعية، وتلك رؤية ضيقة تتعارض مع توسيع إيران نطاق عملياتها في المنطقة.وتضيف الكاتبة أن الأجهزة الأمريكية المسئولة عن سيل من البيانات همشت الصلة العابرة للحدود الوطنية والعابرة للأقاليم بين الإتجار في المخدرات، وشبكات الأسلحة والجماعات الإرهابية كحزب الله.
النشاط الإيراني قبل أحداث 11 سبتمبر
وتستحضر الكاتبة النشاطات الايرانية في أمريكا اللاتينية قبل هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة بسبع سنوات. وتشير إلى أن تفجير جمعية الصداقة الأرجنتينية- الإسرائيلية في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس في 18 يوليو 1994 برهن بوضوح على أن المنطقة زودت "حزب الله" بكل ما يحتاج إليه لتنفيذ عملية معقدة كهذه في ساحة الولايات المتحدة الخلفية. وفي 17 مارس 1992، قاد مفجر انتحاري شاحنة صغيرة مليئة بالمتفجرات، واقتحم بها السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس، وهو الهجوم الذي كان مقدمة لمزيد من الهجمات التي شُنت بعد ذلك بسنتين فحسب.
وقد أعلنت جماعة تعرف نفسها باسم تنظيم الجهاد الإسلامي مسئوليتها عن الهجوم، لكن خبراء كثيرين يعتقدون أن هذه الجماعة تحظى بدعم من إيران وحزب الله، وتجمعها بهما روابط.
وحسب الكاتبة، فقد انتهت التحقيقات الدقيقة التي قام بها الادعاء العام في الأرجنتين على مدى سنوات كثيرة إلى أن الهجوم على جمعية الصداقة الأرجنتينية- الإسرائيلية "جاء بقرار وتنظيم من أعلى قيادات الحكومة الإيرانية الذين عهدوا بدورهم تنفيذ هذه العملية إلى جماعة حزب الله اللبنانية". وقد وافق على هذا الهجوم مسبقًا كل من المرشد الأعلى لإيران، آية الله على خامنئي، ووزير خارجية إيران آنذاك، علي أكبر ولاياتي، ووزير الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني آنذاك، علي فلاحيان، وما يسمى بالرئيس الإيراني آنذاك، الذي تصفه وسائل الإعلام الدولية وبعض القادة الغربيين بأنه "معتدل"، علي أكبر هاشمي رافسنجاني.
وفي 9 نوفمبر 2006، أصدر القاضي الأرجنتيني رودولفو كانيكوبا كورال، بناء على طلب من المدعي الخاص في قضية جمعية الصداقة الأرجنتينية- الإسرائيلية، أوامر اعتقال بحق رافسنجاني، وفلاحيان، وولاياتي، بالإضافة إلى غيرهم من المسئولين الإيرانيين. وسرعان ما أصدر الإنتربول بعد ذلك أوامر تسليم دولية بحق عميل "حزب الله" ،عماد مغنية، وبحق المسئولين الإيرانيين: فلاحيان، ورضائي، ووحيدي، ورباني، وأصغري، مما يسمح بتبادل أوامر اعتقال هؤلاء الأفراد عالميًا وتسليمهم. وحتى الآن، لم يتم إيقاف وإلقاء القبض على أي منهم.
واستنادًا إلى خبرته في التحقيق في الأنشطة الإيرانية التي سبقت تفجير جمعية الصداقة الأرجنتينية- الإسرائيلية، والتي أعقبته، شدد ألبرتو نِسمان على أن النظام الإيراني يستخدم "الإرهاب كآلية لسياسته الخارجية" دعمًا لـ"هدفه النهائي المتمثل في تصدير رؤيته ذات الصبغة الراديكالية للإسلام، والقضاء على أعداء النظام".
تناقض أمريكي حول النشاط الايراني
وفي يوليو 2013، قدمت وزارة الخارجية إلى الكونجرس تقريرا يزعم أن النفوذ الإيراني في أمريكا اللاتينية آخذ في التضاؤل، مشيرا إلى عدم الحاجة إلى تغيير نهج الولايات المتحدة. وطعن أعضاء بالكونجرس، وخبراء أمريكيون ودوليون في الاستنتاجات الواردة في هذا التقرير، استنادا إلى الأدلة المتزايدة على ما هو عكس هذا الاتجاه ، بما في ذلك ازدياد الاتفاقيات الثنائية، والبعثات الدبلوماسية، وتعاظم وجود عملاء من وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية، والحرس الثوري الإيراني، وفيلق القدس.
لكن الكاتبة تقول إن هناك دراسة سبقت هذا التقرير للكونجرس الأمريكي في العالم 2012 حول وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية، تشير إلى بعض الطرق والتكتيكات التي توظفها الاستخبارات الإيرانية لتوسيع نطاق عملياتها وقدراتها في أمريكا اللاتينية، ومنها أن العملاء قد يمارسون نشاطهم سرا كدبلوماسيين في السفارات الإيرانية، أو في وظائف أخرى في الشركات مثل الخطوط الجوية الإيرانية، أو فروع البنوك الإيرانية، أو حتى شركات القطاع الخاص.
ومع ذلك، فإن التقرير الذي قدم بعد ذلك ببضعة أشهر من جانب وزارة الخارجية، بموجب قانون التصدي لإيران في أمريكا اللاتينية، لم يأخذ فى الحسبان الوقائع التي ضلعت فيها إيران أو "حزب الله" في هذه المنطقة.
استراتيجية أمريكية شاملة
ترى بوبليتيه أنه ينبغي أن ينصب التركيز في الولايات المتحدة على وضع استراتيجية متكاملة للتصدي للتحديات الأمنية بالنشاط الإيراني في أمريكا اللاتينية. وتقول الكاتبة: "إن اتباع نهج شامل كان سيأخذ فى الحسبان دور شبكات المخدرات غير الشرعية في تيسير تمويل الأنشطة الإرهابية في المنطقة عبرها".
وتشير الكاتبة هنا إلى ما قاله رئيس العمليات السابق بإدارة مكافحة المخدرات، مايكل براون، بشهادة أمام الكونجرس، تفيد بأن المنظمات الإرهابية، مثل حزب الله، "تدرك أن كارتلات تجارة المخدرات المكسيكية تهيمن الآن" على هذه البنية التحتية غير الشرعية في الولايات المتحدة. هذه الجماعات الإرهابية تدرك بكل يقين القيمة الاستراتيجية لاستغلال ذلك النشاط لنشر رؤيتها في هذا الجزء من العالم". كما يجري أيضًا استغلال ممرات الإتجار في المخدرات بمعرفة حزب الله، ووكلاء إيران الآخرين لتهريب "بضائع محظورة وأشخاص" إلى الولايات المتحدة.
وتشير الكاتبة أيضا إلى تصريحات الجنرال جون كيلي، الذي يترأس القيادة الجنوبية الأمريكية المسئولة عن منطقة البحر الكاريبي وأمريكا الوسطى والجنوبية، والتى قال فيها إن حزب الله يستفيد بالفعل من التقارب بين الجريمة والإرهاب.
غير أن تقرير وزارة الخارجية لسنة 2013 إلى الكونجرس تعامل مع إيران وحزب الله بحسبانهما متمايزين أو منعزلين عن أحدهما الآخر، ونفى الرابط بين أنشطتهما في أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي وأنشطتهما في الولايات المتحدة.
وبعد ذلك بسنة، لم تستعرض الإدارة النتائج التي توصلت إليها، على نحو ما وعدت الكونجرس بفعله. ولا توجد مؤشرات على أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية كُلفت بمزيد من استقصاء الأنشطة الإيرانية في أمريكا اللاتينية ، ولا على توفير موارد إضافية. وبحسب بوبليتيه، فإن غياب التنسيق عبر الإقليمي أو التكامل لا يزال مستمرًا إلى حد كبير. ويجب معالجة أوجه القصور هذه فورًا، كما ينبغي إعطاء التطورات في الأمريكتيْن أولوية كبرى.
وأكدت بوبليتيه ضرورة تضمين أمريكا اللاتينية في الحسابات الأمريكية المتعلقة بكيفية التصدي لإيران عالميًا، ومن نواح أكثر من مجرد فرض عقوبات شكلية محدودة على حفنة من داعمي طهران. فالمعلومات المستمدة من عمليات النظام الإيراني في أمريكا اللاتينية يمكنها توليد معلومات مفيدة، سواء لحماية الداخل الأمريكي، أو حلفاء واشنطن في هذه المنطقة.
وتقول يليم بوبليتيه: "لقد أثبت التاريخ البعيد، فضلاً عن الأحداث الأخيرة مع الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، أن ميكيافيلي على صواب". وشددت الكاتبة على ضرورة أن ينتبه واضعو السياسات إلى هذا التحذير، وألا يرتكبوا الأخطاء نفسها فيما يخص الأنشطة الإيرانية في أمريكا اللاتينية .