خلال نيسان (ابريل) 2011 وصل عدد الباحثين عن تعبير «اتفاقية سايكس - بيكو» في محرك غوغل الى ذروته. وبعد تراجع عاد قافزاً في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 إلى نسبة 95 مما كان عليه آنذاك. أكبر نسبة من الباحثين عن التعبير كانت من مصر تليها السعودية.
لنتأمّل في المعطيات. بحث الناس عن المصطلح غداة اندلاع ثورات 2011 حين اندفع قوميون ويساريون لوصف زلزال شارك فيه الملايين كمرحلة متقدمة من مخطط إعادة تقسيم المنطقة إمعاناً في تفتيتها، بعدما فتّتتها اتفاقية سايكس - بيكو. نسي الناس الأمر لأن الثورات لم تقسّم المنطقة حتى جاءتنا «داعش».
ثمة مبدأ في سيكولوجيا القراءة: في أزمنة الارتباك. يبحث القارئ المتوسط عن أجوبة تطمئنه وتؤكّد قناعات مسبقة لديه لا عن أجوبة تزيده قلقاً وتجبره على إعادة صوغ منظومته الفكرية. ويدرك الكاتب (والقائد السياسي) الساعي الى الجماهيرية هذه القاعدة فيسعى الى تقديم طبق سهل الهضم لجمهوره. في هذه الخانة أضع شعبية «سايكس- بيكو». لا أعرف كاتباً أو خبيراً اعترف بأنه لم يشاهد الخريطة التي تم الاتفاق عليها، لأن مناطق النفوذ التي رسمتها لا تشبه من قريب أو بعيد شكل منطقتنا اليوم. وليس هذا نفياً لوجود أطماع استعمارية، بل للقول إن الوقائع والتطورات المجتمعية فرضت نفسها في نهاية المطاف على إرادة السياسيين وهي تفرضها من جديد عقب قرن من التطورات المجتمعية التي عجزت النظم الحاكمة عن التكيّف معها.
خريطة سايكس - بيكو ترسم مستعمرة تحت الحكم البريطاني المباشر تمتد من شمال بغداد إلى ساحل الخليج العربي وصولاً إلى قطر، ومنطقة أخرى ذات حكم محلي ولكن تحت انتداب بريطاني تمتد من حدود إيران شرقاً إلى نهر الأردن غرباً. أما مناطق النفوذ الفرنسي فمستعمرة تضم وسط تركيا والموصل والساحل السوري ولبنان فيما يكون الداخل السوري منطقة انتداب فرنسي تحت حكم محلي. بعد أقل من عقد على توقيع الاتفاق، كان كل من تركيا والعراق وسورية والأردن ولبنان دولاً موحّدة فيما انفصلت الكويت والبحرين وشرق السعودية عن «مستعمرة» البصرة.
لتكوّن الدول أو انقسامها منطقه الخاص والقوى الخارجية التي تنجح في مد نفوذها هي التي تتساوق مع هذا المنطق وتقاوم شطحات خيال سياسييها الذين يعتقدون أن في وسعهم خلق هذا المنطق. شنّ كمال أتاتورك حربه التحريرية مجبراً الفرنسيين على التخلّي عن أحلامهم في تركيا. واكتشف الإنكليز أن كلفة الاحتلال المباشر للعراق وقمع التمردات الشعبية تستنزف مواردهم. واضطرت فرنسا إلى القبول بسورية موحّدة. وهكذا لم يعد لاتفاق سايكس – بيكو وجود على أرض الواقع.
ومع هذا، ما زلنا نصرّ على نبش قبري هذين الرجلين كلّما أربكتنا تحوّلات المنطقة: احتمال استقلال كردستان، انتصارات «داعش»، بل حتى صراعات ليبيا التي لم ترد في خاطر الرجلين إطلاقاً. ولا يبالي من يلعنهما وهو ينسب اليهما كذبة تأسيس دولنا المعاصرة بأن يتأسّى على انهيار اتفاقهما لأن «داعش» أزالت الحدود بين العراق وسورية. لا يبالي بأن دولة عريقة مثل اليمن الشمالية وهي من الدول القليلة التي لم تعرف الاستعمار قط تكاد تنقسم على نفسها فيما لا تنطرح قضية التقسيم أو التوحيد في بلدان أكثر «اصطناعية» مثل الأردن والإمارات العربية المتحدة التي لم تتأسس إلا عام 1971. لا تبالي جماعة سايكس - بيكو بكل هذا ما دام المتلقّي يشعر بأنه حصل على جواب يبني على مناهج تم تلقينه إياها في سني الدراسة (ولعل هذا يفسّر جزئياً لماذا كان السعوديون والمصريون الذين لم يسمعوا بالاتفاقية هم أكثر الباحثين عنها في غوغل).
مأساة منطقتنا لا تكمن في حدود دولها ولا في امتداداتها الجغرافية، بل لا تكمن في تنوّعها القومي أو الديني أو المذهبي. ولا بد من أن القارئ بات يشعر بالملل من تكرار أمثلة «الدول المصطنعة» المتنوعّة التركيب التي لا يخطر التقسيم أو التوحد مع بلدان أخرى على بال مواطنيها: سويسرا، الهند، الولايات المتحدة. إن كان للاصطناع معنى علمي، فالأحرى استعماله لفهم عملية بناء الأمم لا الدول، لأن الأمة ليست معطى ثابتاً عبر الزمان أو المكان. إنها تكوين من البشر يتماسك حين يندمج في عملية اقتصادية متكاملة يشعر هؤلاء من خلالها بأن فرصهم في الكسب متكافئة، وحظوظهم في احتلال مواقع القيادة والإدارة متكافئة. وهو تكوين يتماسك حين تنجح نظم التعليم والإعلام في زرع تشكيلة قيم يتشاركون بها وتؤمّن في الوقت ذاته فرصاً متساوية لكل تنويعة من تنويعات المجتمع لبثّ قيمها الخاصة. وهي تشكيلة تتماسك حين يستحضر الناس من تاريخهم، الحقيقي أو المتخيل، مواجهات خاضوها معاً في مجابهة آخر غارسة فيهم الشعور بالانتماء الجمعي.
شبّه آرنولد ولسن، الحاكم العسكري البريطاني للعراق عام 1920، علاقة الأكراد بالعرب في العراق بالعلاقة بين الإنكليز والإسكتلنديين: «لا يطيق أحدهما الآخر، لكنهما لا يستطيعان العيش إلا معاً». وسواء صحّ هذا التشبيه أم لا، فهو يعود إلى ما يقارب القرن. خلال العقد التالي لحكم ولسن كان على بريطانيا تقديم تقرير سنوي إلى عصبة الأمم يبين «درجة تقدّم العراقيين في القدرة على حكم أنفسهم» تمهيداً لنيل الاستقلال. في كل تقرير سنوي كانت الأم تتحدّث بفخر عن نجاح جهودها في الارتقاء بمستوى الإبن، إلا في تعلّم درس واحد. فكان على العراق التوقيع على تعهّد بالعمل على تنفيذه بعد نيل الاستقلال عام 1930: أن يعهد للأكراد بإدارة مناطقهم وأن يستخدموا لغتهم في التدريس والإدارة وأن يشاركوا في الحكومة المركزية. انهارت عصبة الأمم بعد فترة وجيزة ولم يعد البريطانيون الحاضنون لحليفهم العراقي يرون موجِباً للضغط عليه لتنفيذ ما تعهّد به.
في العقد الأول لعراق ما بعد الاستقلال، أثار سحق الملك غازي لانتفاضة الآشوريين شعوراً بالفخر بين العراقيين الذين رأوا في الأمر تثبيتاً لهيبة الدولة. وبعد عقدين لم تخرج تظاهرة واحدة، لم يصدر بيان واحد، لم يصدر عمل أدبي واحد يحتج على قانون إسقاط الجنسية الذي سهّل ليهود العراق النزوح الجماعي عن وطنهم. أي مدينة تستطيع الحفاظ على توازنها الاجتماعي والاقتصادي إن فقدت ربع سكانها خلال عام واحد؟ ومع هذا تظاهر البغداديون بأن شيئاً لم يحصل.
هل كان عقد الثمانينات من القرن الماضي فرصة صدّام حسين لبعث فكرة بناء أمة عراقية؟ في النصف الأول من ذلك العقد كان الشعب الكردي يلملم جراح انكسار ثورته عام 1975، والعراق يفيض بثروات النفط التي تمكّن السلطة من نشر المنافع على البلد كله، ومئات ألوف الجنود من العرب الشيعة يُقتلون في المعارك ضد عدوهم الشيعي «الفارسي». يعرف التاريخ طغاة نجحوا في اقتناص فرص كهذه مثل بسمارك ومازيني موحّدي ألمانيا وإيطاليا. ولكن التاريخ يحفظ أسماء أعداد أكبر بكثير من أمثال صدّام حسين الذي لم تغب الفكرة عن باله، لكنه لم يكن مشغولاً بمشروع بناء أمة مقدار انشغاله بتخليد نفسه. استحضر رمزيات التاريخ العراقي فنحت تمثال حمورابي وهو يسلّمه الراية. ولبس السدارة، قبّعة الرأس التي كان أول ملوك العراق فيصل الأول يعتمرها. لكن الرمزيات تتحوّل إلى كاريكاتير إن لم تقم على أساس مادي مقنع. أكان في وسع نظام البعث وضع الشيعة والأكراد في موضع صنّاع القرار، أي قادة فاعلين في مجلس قيادة الثورة وأجهزة المخابرات؟ أكان في وسعه تغيير منظومته القيمية؟ أكان في وسع شعار «العراقي يتقدّم» الذي أريد له خلق لحمة بين العراقيين أن يتفوّق على شعار الحرب «الدفاع عن البوّابة الشرقية للأمة العربية»؟ أكان في وسع نظام البعث تصوير حربه، مثلما صوّر الغرب حربه ضد النازية، كحرب ضد أيديولوجيا ونظام حكم استبداديين فيما أيديولوجيته ونظام حكمه أكثر استبداداً؟
كان لا بد من سايكس - بيكو. أمة عربية تفتّتت ومؤامرة فارسية جديدة للإمعان في تفتيتها. وعلى الكردي الدفاع عن البوّابة الشرقية لأمة لا ينتمي اليها. سرديّة القومي الكردي للتاريخ مرآة للسردية القومية العربية. فمؤامرات الغرب قسّمت أمّته وعليه النضال من أجل تحريرها وإعادة توحيدها. لكن حظ الأكراد ظل أقل من حظ نظرائهم العرب. فـ «مؤامرات الغرب» انتجت للعرب 22 دولة فيما لم يحصل الأكراد على دولة واحدة.
كتبت في «الحياة» أخيراً أن فرصة بناء أمة عراقية تضم من يعيشون فيه اليوم قد ضاعت إلى الأبد. في وسع القومي العربي هز رأسه بأستاذية: قلنا لكم. تلك هي المرحلة الجديدة من سايكس - بيكو. لكن ليس في وسعه، ولا في وسع أناس مثل كاتب هذه السطور حلموا بأمة عراقية، الوقوف في وجه العمليات الموضوعية لتكوّن الأمم.
وحتى ذلك الحين سيظل شبح سايكس وبيكو يطاردنا.
---------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الإثنين، 9/9/2014.