حمل تجميد المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية - مع نهاية شهر إبريل 2014، وعقب توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية بين منظمة التحرير وحركة حماس - في طياته إرهاصات التطور الحالي للوضع العسكري على الساحة الفلسطينية-الإسرائيلية، والذي أدى إلى إطلاق الجيش الإسرائيلي عملية "الجرف الصامد" ضد قطاع غزة.
واقتبست إسرائيل مسمى عمليتها العسكرية من الكتاب المقدس، ليحمل معنى التطهير والصمود، وهو ما يشير إلى أن اليمين الإسرائيلي يشكل لاعبا أساسيا في إدارة الحرب على غزة، في ظل تراجع دور اليسار أمام غضب الرأي العام الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، كما يحاول تعبير "الصمود" تصدير الطبيعة الدفاعية للعملية العسكرية الإسرائيلية.
ثبات الدوافع وتغير السياقات:
عبر تاريخ طويل لعملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، تراكم لدى كل من الجانبين إدراك، يصل في بعض الأحيان إلى درجة اليقين، بأن المسار التفاوضي لن يحقق لكل طرف ما يصبو إليه. فالفلسطينيون لم يتمكنوا من الحصول على تسوية عادلة لقضيتهم تمنحهم بعض حقوقهم المسلوبة، كما أن الإسرائيليين لم يتمكنوا من شرعنة وضعهم الحالي، عبر اتفاقية تؤمّن استمرار الدولة الإسرائيلية، وضمان حياة هادئة للأجيال القادمة.
وبالتالي، نما إدراك في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بأن اللجوء إلى العنف واستخدام القوة العسكرية هو الخيار الوحيد كلما تعقدت الأمور على الأرض، مع ملاحظة أن العنف واستخدام القوة العسكرية هو الأصل في أي "صراع". وعلى ذلك، أصبح لدى الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي دوافع كامنة ودائمة للعنف، وغالباً ما تنتظر هذه الدوافع نشأة سياق سياسي مُعقَّد، لتشكّل بدورها أسباب مباشرة يتم من خلالها تبرير الاتجاه نحو العنف أو استخدام القوة العسكرية.
أبعاد "الجرف الصامد":
رداً على إطلاق كتائب عز الدين القسام ما يقرب من 40 صاروخاً من غزة في 7 يوليو 2014 – سقطت 30 منها داخل إسرائيل – بدأت إسرائيل عمليتها العسكرية ضد قطاع غزة تحت مسمى "الجرف الصامد"، حيث شن الطيران الإسرائيلي ما يقرب من 440 غارة إلى الآن منذ بداية العملية، أسفرت عن مقتل ما يقرب من 60 فلسطينياً وسقوط أكثر من 350 جريحاً.
وبدأت إسرائيل عملية "الجرف الصاعد" بهدف واضح – كما تشير تقارير إسرائيلية- وهو تدمير البنية التحتية لحركة حماس، والقضاء التام على القدرات العسكرية والصاروخية للحركة، وذلك على نحو سريع لا يسمح باندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة أو تشكيل اصطفافات إقليمية ودولية مناهضة لإسرائيل ومتعاطفة مع الفلسطينيين.
وتسعى إسرائيل من خلال تدميرها للبنية التحتية لحركة حماس إلى وقف إطلاق الصواريخ على الجنوب الإسرائيلي، والتي تعطل حياة السكان المدنيين الذين يعيشون هناك وتقوّض نسيجهم الاجتماعي، وتخلق نوعاً من "توازن الرعب"، كما تسعى أيضاً إلى تقويض تجربة المصالحة الوطنية الفلسطينية وإفشال حكومة الوحدة الوطنية الجديدة.
على الجانب الأخر، فثمة تطور نوعي للعمليات العسكرية التي تقوم بها كتائب عز الدين القسام، وهو ما يمكن رصده من خلال:
- تداولت الصحف الإسرائيلية تقارير عدة قبل " الجرف الصامد" ، حول امتلاك حماس لصواريخ بعيدة المدى تستطيع الوصول حتى منطقة تل أبيب ويصل مداها إلى نحو 60 كيلومتر، إلى جانب صواريخ القسام المعروفة والقديمة والتي يغطّي مداها جميع بلدات الجنوب، وصواريخ من نوع "كورنت"، وهي ذات الصواريخ المضادة للدبابات التي استخدمها حزب الله في حرب لبنان الثانية، بالإضافة إلى قذائف الهاون. ولكن اتضح مع تطور الهجمات الصاروخية لكتائب عز الدين القسام امتلاكها لصواريخ (براق 90، وفجر 5 مطوّر)، والتي أرسلتها إلى تل أبيب (بمدى 75 كيلومتر)، فيما أعلنت أنها استهدفت بصاروخ (رنتيسي 160 كيلومترا) مدينة حيفا المحتلة، لكن المصادر الإسرائيلية أشارت إلى وقوع الصاروخ في الخضيرة (100 كيلو متر عن غزة). ونصل بذلك إلى استنتاج مفاده؛ تطور القدرات التسليحية لكتائب عز الدين القسام.
- تطور أسلوب تخزين وإخفاء الصواريخ لدى الكتائب بحيث يصعب الوصول إليها وتدميرها جميعاً، حيث أشارت تقارير إلى وجود ثلاث أنواع من مخزونات الصواريخ، وهي:
* المخزون الروتيني: وهي صواريخ مُقسمة في مناطق قطاع غزة، وخصوصاً في المنازل والمخازن التابعة لعناصر الكتائب، وهي جاهزة بشكل فوري للإطلاق.
* المخزون الإضافي: وهي صواريخ موزعة ومخبأة في المنازل والمنشآت بين السكان المدنيين.
* صواريخ مفككة: وهي صواريخ مخزنة وهي مفككة، حيث أنه يتم تخزين جسم الصاروخ بشكل منفرد عن الدافع الذي يعمل بالوقود. وعند الحاجة، يتم تركيب الأجزاء تركيباً سريعاً.
- قيام كتائب عز الدين القسام للمرة الأولى بعمليات عسكرية استباقية لهجوم بري إسرائيلي متوقع، حيث نفذت عملية تسلل بحرية إلى قاعدة "زيكيم" البحرية في عسقلان عبر مجموعة من "الضفادع البشرية"، حيث أعلنت كتائب القسام أن الوحدة التابعة لها التي اقتحمت القاعدة البحرية أوقعت خسائر كبيرة في صفوف العدو وقتلت جندي إسرائيلي، بينما ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن أربعة مسلحين قتلوا على الشاطئ. كما قامت الكتائب بتفجير برج مراقبة إسرائيلي عبر نسف نفق محفور تحت موقع كرم أبو سالم جنوب قطاع غزة، دون الإعلان عن وقوع خسائر في الأرواح.
دوافع التصعيد المسلح:
يأتي هذا التصعيد المسلح وانطلاق عملية "الجرف الصاعد"، في ظل حالة من الإحباط نتجت عن فشل المفاوضات الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في شهر إبريل الماضي 2014 بعد 10 شهور من الرعاية الأمريكية لها. وقد جاء تطور الأحداث بشكل تدريجي ليُشكل مع مجموعة من الأسباب المتراكمة والمباشرة، أدت كلها في نهاية الأمر إلى تفجير الوضع الراهن، فعلى الجانب الفلسطيني يمكن تلخيص أسباب التصعيد في الآتي:
- إصرار الحكومة الإسرائيلية على الاستمرار في الاستيطان في المناطق الفلسطينية المحتلة بكثافة لم يسبق لها مثيل.
- تنكر إسرائيل لالتزامها بإطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين.
- تدهور أوضاع الأسرى الفلسطينيين، حيث مر ما يقرب الشهرين على الإضراب عن الطعام الذي بدأه الأسرى الفلسطينيون الإداريون الذين يقبعون في السجون الإسرائيلية منذ سنوات طويلة من دون محاكمة، ومن دون توجيه لوائح اتهام ضدهم. وقد صرح المسئولون الإسرائيليون مراراً أن إسرائيل لن تطلق سراحهم، وأنها ستستمر أيضاً في اعتقال المزيد من الناشطين الفلسطينيين اعتقالاً إدارياً، ومن دون تقديمهم للمحاكمة.
- استمرار تضييق الخناق على السلطة الفلسطينية وحماس، وفرض إسرائيل للمزيد من العقوبات الاقتصادية والمالية على السلطة الفلسطينية، أبرزها حجب أموال التحويلات الجمركية.
- انهيار المفاوضات الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وانتفاء أي أمل في التوصل لحلول عادلة – حتى وإن كانت مؤقتة - للقضايا المعلقة بين الطرفين.
- استمرار الغارات الإسرائيلية ضد قطاع غزة وكذلك عمليات العنف من جانب القوات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وذلك على خلفية اختطاف ثلاثة مستوطنين إسرائيليين شبان، وقد تصاعدت هذه الغارات عقب اكتشاف مقتل المستوطنين الثلاث.
- تزايد أعمال العنف الموجه من جانب اليهود المتطرفين ضد الفلسطينيين، وقد وصل الأمر لذروته مع اختطاف وقتل الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير (16 عاماً) في مدينة القدس، في 2 يوليو 2014، على خلفية انتقامية من قبل يهود متطرفين، بالإضافة إلى الاعتداء المبرح على ابن عمه طارق أبو خضير.
أمّا على الجانب الإسرائيلي، فيمكن تلخيص أسباب التصعيد العسكري، وصولاً إلى بدء عملية "الجرف الصاعد"، في الآتي:
- توقيع اتفاق المصالحة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس، وهو الأمر الذي أحرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام المعسكر اليميني في حكومته -حزبي "إسرائيل بيتنا" و"البيت اليهودي"- الذي لم يتوقف عن مهاجمته أثناء المفاوضات، بسبب رؤيتهم أن نتنياهو قدم المزيد من التنازلات للجانب الفلسطيني، وما تبع ذلك من تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي أثارت استياء الوسط السياسي الإسرائيلي.
- تصاعد الأحداث بوتيرة أسرع، مع اختطاف ثلاثة شبان يهود، هم جلعاد شاعر ونفتالي فرينكل وإيال يفراح، بالقرب من مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية في 12 يونيو 2014، وبعد عملية بحث طويلة عثر الجيش الإسرائيلي في 30 يونيو 2014 على جثث الشبان الإسرائيليين الثلاثة بالقرب من منطقة حلحول. واتهمت إسرائيل حماس بأنها المسئولة عن خطف الشبان الثلاثة. ولم تنف حماس أو تؤكد ضلوعها في الأمر، وهو الأمر الذي أثار موجة غضب عارمة داخل إسرائيل على كافة المستويات.
- قيام كتائب عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة حماس، في السابع من يوليو 2014 بقصف مدن إسرائيلية في جنوب إسرائيل بما يقرب من 40 صاروخاً. في الوقت الذي ذكر المتحدث العسكري الإسرائيلي "بيتر ليرنر" أن نشطاء في غزة أطلقوا أكثر من 80 صاروخاً على إسرائيل، بينما قال مسئولون عسكريون إسرائيليون أنه تم إطلاق أكثر من 200 صاروخ على إسرائيل على مدى الثلاثين يوماً الماضية.
وقد جاءت العوامل المُحفِزة لتؤكد حتمية لجوء كافة الأطراف إلى تبني خيار العنف واستخدام القوة المسلحة، وهي كالآتي:
- اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي تجاه تطور الأحداث، والتي كشفت عنها نتائج استطلاع للرأي أجراه معهد "فانلس بوليتيكس" ونُشر في صحيفة "معاريف"، ويُظهر الاستطلاع عدم رضا الجمهور الإسرائيلي عن ردود أفعال حكومته تجاه إطلاق الصواريخ من قطاع غزة. حيث يعتقد 60% من المستَطلَعين أن الجيش الإسرائيلي لم يرد بقوة على إطلاق الصواريخ باتجاه بلدات الجنوب في الأسبوعين الماضيين. وتصل هذه النسبة إلى 77% وسط سكان الجنوب الإسرائيلي، بالإضافة إلى تأييد 56% منهم إلى شن هجوم بري على قطاع غزة من قبل الجيش الإسرائيلي.
- على الجانب الإسرائيلي، استمرت الدوائر اليمينية في الحكومة والكنيست في الضغط على رئيس الوزراء لدفعه في اتجاه التصعيد تجاه حركة حماس وقطاع غزة، حيث دعا وزير الخارجية الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان إلى ضرورة شن هجوم جوي وبري واسع النطاق على قطاع غزة، رداً على مقتل الشبان الثلاثة، وذلك قبل أن يعلن في 7 يوليو 2014 عن إنهاء تحالفه السياسي مع نتنياهو، أي فصل كتلة "إسرائيل بيتنا" برئاسته عن كتلة الليكود البرلمانية، ولكن مع بقاءه في الحكومة، وذلك على خلفية انتقادات ليبرمان لسياسة الحكومة بخصوص كيفية الرد على الاعتداءات الصاروخية الفلسطينية، ودعوته إلى غزو القطاع وإسقاط حكومة حماس. بالإضافة إلى إقرار الكنيست الإسرائيلي القراءة الأولى لمقترح قانون يضع قيوداً على الحكومة الإسرائيلية لمنعها من إطلاق سراح أسرى فلسطينيين، وذلك في محاولة لتقويض أي محاولات مستقبلية للتوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين ودفعها إلى التصعيد.
وعلى الجانب الفلسطيني، ذهب العديد من المحللين إلى أن كتائب عز الدين القسام – بعد أن قامت بإطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل - ومجموعة النشطاء المتورطين في قتل المستوطنين اليهود الثلاث، هم المسئولون بنسبة كبيرة عن توريط حماس وقطاع غزة في هذا التطور العسكري، وذلك في التوقيت الذي يأتي التصعيد العسكري في غير صالح حماس وحكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية الجديدة، وأشارت عدة تقارير إلى أن حماس فقدت السيطرة على ذراعها العسكري "كتائب عز الدين القسام بعد أعلنت استقلالها في ظل الصعوبات المالية التي تواجه حماس، والتي جعلت قدرة حماس على فرض الانضباط متواضعة.
يمكن القول أن اللاعبين الإقليميين والدوليين في المنطقة لم يتمكنوا من صياغة موقف حازم تجاه تطورات الأحداث على الساحة الفلسطينية الإسرائيلية، ولم تظهر وساطات جادة لتحول دون تطور الموقف، وهو الأمر الذي ربما يعود إلى انشغال هؤلاء اللاعبين بالتطورات على الساحة الليبية والعراقية والسورية، إلى جانب وجود سوء تقدير للموقف من جانب هؤلاء اللاعبين وهو الأمر الذي حال دون توقعهم لمآلات المشهد.
وعلى ذلك، يبدو أن التطورات الميدانية قد أفرزت مشهدا معقدا، يصعب معه استشراف مآلات العملية العسكرية الإسرائيلية، وحدود الرد الفلسطيني، وقد تلجأ إسرائيل تحت ضغوط الرأي العام والمعسكر اليميني في الحكومة إلى شن عملية برية تقتلع معها الترسانة الصاروخية لحماس، خاصة في ظل تداخل أماكن تخزين وإطلاق هذه الترسانة مع التجمعات السكنية، والتي لن يتمكن الطيران الإسرائيلي من تدميرها دون ارتكاب مجازر بشرية ضخمة في حق الفلسطينيين، وهو ما قد يستدعي بدوره ردود فعل دولية قوية تجاه إسرائيل.لذلك، تظل الآمال معقودة على رد فعل عربي ودولي قوى، وجهود وساطة حقيقية، تحول دون استمرار عملية " الجرف الصامد".