لم يكن العرب يوماً على هذا القرب من فكرة قبول دولة كردية ضمن حدود الاراضي العراقية. فالعراق كان حتى عقود قليلة، لدى الغالبية الكبرى منهم، دولة ليس فيها غير العرب، ويشكل الحدود الشمالية الشرقية للعالم العربي، وهو «حامي البوابة الشرقية» ضد طموحات العدو الفارسي الشيعي وضد الاكراد الانفصاليين الذين اتى بهم الاستعمار الى المنطقة.
اليوم، انتهت جوانب من هذه الصورة وتغيرت جوانب أخرى منها. فالكل يعرف ان هناك شيعة من اصول عربية وحنينهم الى ايران الشيعي يقارن بنفورهم الحديث من العالم العربي السنّي. فاللغة التي تربطهم بالعالم العربي توازن الانتماء الديني الذي يشدهم الى ايران. وكذلك يعرف الكثيرون ان الاكراد سنّة ولكنهم شركاء الشيعة في المعاناة من الحكومات القومية السنّية التي قمعتهم ووصلت الى حد استعمال الاسلحة الكيماوية ضدهم بحيث تبدو القنابل الكيماوية السورية التي تهز المشاعر العربية والانسانية، وكأنها اسلحة خفيفة.
مع سقوط نظام صدام في 2003 ووصول الشيعة والأكراد الى دفة الحكم، تحول العرب السنة الى المعارضة. ولأول مرة في تاريخ العراق يجدون انفسهم محرومين من مركز صنع القرار وإدارة خيرات البلاد وقيادة مصيرها. وإذا بحثنا عن فترة وصل الشيعة فيها الى هذه الاهمية في السلطة والحضور في احد مراكز الامبراطورية الاسلامية، فعلينا ان نبحث في الحقبات القديمة من التاريخ. فالهزة كانت عميقة ولا سابق لها بالنسبة الى كل العرب السنة.
ووصل الصراع السني - الشيعي في السنوات الأخيرة، بخاصة مع دور ايران والحكومة العراقية في قمع المعارضة السنّية في سورية وازدياد حدة الخطاب الشيعي والتأكيد عليه، حداً دفع بالسنة في البلدان العربية وفي العراق الى تغيير افكارهم ولو مرحلياً حول الاكراد ومطالبهم في العراق. فنجدهم اليوم لا يعارضون حصول الاكراد على استقلال اكبر حتى وان كانت مدينة كركوك ضمن هذا الاستقلال. لقد كانوا قبل سنوات ينفرون من استعمال كلمة كردستان، وغدوا اليوم يستعملونها وكأنها موجودة في قواميسهم منذ مئات السنين.
ولا يختلف الامر كذلك في البلدان العربية التي ما زالت صامتة عما حدث في كردستان. ومع قراءتنا هناك وهناك التي تقول ان العالم العربي لن يقبل بأي شكل من الاشكال بتقسيم العراق، فان هذا التقسيم موجود ويثبت فشل العالم العربي وايديولوجياته في العراق، وكذلك فشل الحكم الشيعي في اقناع سكان المناطق الكردية بكونهم ينتمون الى عراق موحد لا تمييز فيه بين سكانه المختلفين.
أما تركيا التي ظلت خلال عقود اشرس المعارضين لكل انفتاح على المطالب الكردية، لا في تركيا فقط بل وفي العراق ايضاً، فإنها اليوم تفكر باقتصادها وما تدره عليها كردستان العراق من فوائد، وبدور اكراد العراق في تهدئة اكرادها وفي تأثيرهم على اكراد سورية. وترى أنقرة في تقوية اكراد العراق اضعافاً لحكومة المالكي، فيما لا نجد الكثير من الانتقادات التركية تجاه سياسة حكومة كردستان مع تركمان العراق. وهؤلاء قد يصوتون اكثر من اي وقت مضى مع كردستان التي توفر الأمن والأمان وحيث يستطيعون ان يحصلوا على حقوقهم المشروعة.
اما ايران اللاعبة القوية في العراق، فإنها ايضاً تملك بعض الدوافع لكي تقبل، ولو على مضض، بدولة كردية ذات علاقة جيدة معها، بدلاً من دولة تتحكم بمصيرها تركيا، عدوتها التاريخية، في فترة عودة الأفكار المذهبية التي استعملتها الامبراطوريتان العثمانية والفارسية خلال اربعة قرون من تاريخ نزاعاتهما.
فإيران دولة تنظر الى السياسة نظرة واقعية وتدرك انها فن الممكن. وإذا فرض الواقع نفسه فالأجدى ان يأخذ الانسان منه ما هو ممكن أخذه. وهكذا فدولة كردية ستكون جداراً يصد الاسلام السنّي المتطرف المتمثل بداعش والمبني اساساً على معاداة الشيعة. ثم ان ايران تعيش عدداً من النزاعات في سورية والعراق ولبنان والخليج، ومع الغرب وتركيا، ولا تستفيد ان اضافت نزاعاً آخر مع الأكراد، بخاصة أن عددهم داخل اراضيها يقارب العشرة ملايين. فهي قد تستمر في اتباع سياستها التاريخية تجاهم، اي قتل رؤسائهم، لكنها قد تضيف اليها سياسة جديدة تعتمد الانفتاح على حقوقهم الثقافية. ولن يصعب عليها وعلى حليفتها سورية ان تقيّما استقلال الاراضي الكردية في شمال شرقي سورية في شكل ايجابي لهما بوصفه يناوئ المعارضة السنّية و «داعش» وتركيا على حد سواء.
ان ايران تلهث للعودة الى الحظيرة الدولية، وبالدقة من بوابة محاربة الارهاب الاسلامي الذي يقترب من اراضيها بعد ان لعبت دوراً اساسياً في خلقه وانتشاره في العالم. وايران تحتاج الى الخروج من هذه الصورة وذاك الماضي، كما تحتاج الى الخروج من خناقها الاقتصادي. ولن تجد حرجاً في القبول بدولة سنّية في الشمال الغربي من العراق، بعد اضعاف «داعش» وتركه في حالة يبقى معها مشكلة داخلية للدولة السنّية البعثية الوليدة، شرط أن يسيطر حلفاؤها الشيعة على بغداد والجنوب الغني بنفطه وعلى مدن العتبات المقدسة.
ولكن ما يعقد الأمر بالنسبة للأكراد هو قبول الشيعة العراقيين بفشلهم، على رغم كونهم غالبية، في ادارة العراق في حين نجحت الاقلية السنّية في ذلك خلال اكثر من تسعين عاماً. فعلى الشيعة ان ينسجموا مع فكرة انهم لن يصبحوا يوماً سادة العراق. وهذا ممكن ومستساغ على رغم صعوبته. فهم يخرجون من العراق القديم، كمظلومين خلال مئات السنين وكطغاة خلال ثماني سنوات، ليملكوا عراق الجنوب وما يعود لهم فيه، وهو من أغنى مناطق العالم بنفطه. وما صياح المالكي إلا محاولة للبقاء في سلطة العراق لأنه يدرك ان لا مكان له في دولة الجنوب وحدها. فهو لا يجهل المثل الفارسي الذي يقول: «آخون بُرْد»، أي «أخذه الملاّ»، والذي يعني أن تُقرأ على الرغبة الفاتحة والسلام إذ لن يبقى منها شيء لأن الملاّ أخذ كل شيء. وقد لا يجد المالكي بعد ذلك شيئاً اسمه السلطة، وقد يضطر الى طلب اللجوء السياسي عند مسعود البارزاني. هذا إن لم تؤد عنجهيته الى هدم ما بقي في العراق من بشر ومعالم!
-------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الثلاثاء، 8/7/2014.