تعد التحديات الخارجية التي تواجهها الدولة المصرية، في ظل الجمهورية الثالثة، ومن بين المسائل الأساسية التي يجب تحليلها عند استشراف مستقبل الدولة والنظام الجديد. فمنذ ثورة يناير 2011، يزداد دور الخارج في التأثير في الداخل، ويتخذ الدور الخارجي صورا مختلفة، منها أشكال من التواصل المباشر مع قوي وفاعلين على الساحة المصرية، وصور للتواصل غير المباشر من خلال التعبير عن مواقف وتصريحات من شأنها رفع السقف السياسي لبعض القوي الداخلية، على نحو يدفعها لتعزيز مواقفها وسلوكها ضد الدولة. وتحتاج أنماط التفاعل الأمريكية مع الأوضاع في مصر، منذ ثورة يناير وحتي الآن، إلي دراسة استقصائية وتحليلية لمعرفة كيف أثرت على سلوك عدد من الفاعلين في الداخل.
وتتخذ التحديات الخارجية التي تواجهها الدولة المصرية في ظل العهد الجديد أشكالا وصورا مختلفة، خصوصا مع تعاظم بعض الامتدادات الداخلية للخارج، وزيادة رهان قوي داخلية على التأييد الخارجي في إعادتها إلي المشهد السياسي، أو في دعم مستقبلها السياسي، وهو أمر لم تمر به مصر من قبل بنفس الحجم والمستوي. فقد كان من قبيل المحرمات السياسية اللجوء للخارج في ممارسة الضغط على الدولة، وكانت ممارسة مثل هذا السلوك تجعل من يمارسه محلا للاستهجان الداخلي، وموضعا للاتهامات باللاوطنية. لكن المشكلة أن هذا السلوك تمارسه الآن جماعة، ظَل النظر إليها طويلا كفصيل وطني أساسي، وهو أمر يعكس خطأ الإدراك السياسي، والانحراف الوطني من جانب جماعة استبدت بها لحظة السلطة، واعتبرت أنها تجسد معاني الحق، والدولة، والوطن، والنظام العام.
لكن الدولة المصرية تواجه في اللحظة الراهنة تحديات ومخاطر أخري متجسدة على الأرض، فلم تكن الحدود المصرية في يوم ما مهددة بهذا القدر من مصادر التهديد والأخطار، سواء من ناحية الغرب، أو الجنوب، أو الشمال الشرقي، وتكتسب هذه التهديدات خطورة مضاعفة في أوقات اضطراب غير مسبوقة يمر بها الإقليم والمنطقة، وهو ما يصعب عملية الحساب، أو التقدير الدقيق للتهديدات والأخطار، مع طبيعتها المتشابكة، وتحالفاتها المعقدة والمفاجئة، بمستوي المفاجأة التي مثلها استيلاء تنظيم داعش على مناطق كبري من دولة بحجم العراق. ففي إقليم مضطرب تواجه مصر تحديات وأخطارا من الجماعات الأدني من الدولة في ظل الواقع الراهن للدولة الليبية، والتشابكات بين الجماعات الجهادية على الحدود الشمالية الشرقية بين غزة وسيناء، وتواجه في الجنوب نظاما له ارتباطات من نوعيات مختلفة مع جماعات الإسلام السياسي، كما تواجه احتمالات تفاعل أزمة حول المياه، وسد النهضة.
وعلي الرغم من الاختراقات العديدة التي تمكنت مصر من إحرازها على صعيد المواقف الدولية والإفريقية، وتطور النظرة الدولية لثورة 30 يونيو، لا تزال هناك بعض الارتدادات والتوابع، تتمثل في استمرار التردد من جانب بعض القوي الدولية إزاء التفاعل الطبيعي مع الوضع الجديد في مصر، واستمرار لعب بعض القوي على الحبال بين الدولة والإخوان. ولا تزال الدولة تعاني هجمات إعلامية دولية مستمرة تحركها مصالح وتوجهات أيديولوجية متعددة. ولكن بشكل عام، يمكن القول إن منحني الموقف الدولي المتشدد ضد مصر قد بدأ في الانكسار التدريجي، وأن حجم القوي التي تراهن على عودة الأوضاع إلي ما قبل 30 يونيو هو في تقلص مستمر، لكن المؤكد أن هذه المواقف تتغير وفقا لخطوات الدولة المصرية، وليس لتغيير في المبادئ، أو تحولات في القناعات السياسية، وهو ما يشير إلي احتمال تصاعد مثل هذه المواقف مجددا مع أي فشل، أو تراجع من جانب الدولة، وهو أمر يجب الانتباه إليه.
وتواجه مصر هذه التحديات في ظل أوضاع ليست مثالية في جهازها البيروقراطي القائم على السياسة الخارجية، ممثلا في وزارة الخارجية، فمقارنة بعقدي الخمسينيات والستينيات كانت الرؤية واضحة لدي جهاز صنع السياسة الخارجية، الذي كان يخدم هو الآخر على رؤية واضحة للقيادة والدولة، بينما يعاني الجهاز البيروقراطي القائم عديد من المشكلات، ويحتاج إلي رؤية تطويرية أشمل تترجم الهدف الجديد للدولة إلي رؤي وبرامج وسياسات، وهي أمور تناولتها إحدي أوراق هذا الملف.
ومهما تكن طبيعة التحديات الخارجية أمام مصر ودرجة خطورتها، فإن جزءا كبيرا من مستقبل هذه التحديات سوف يتوقف على قدرة الدولة على التفاعل مع أصعدة وملفات أخري كثيرة. فمن المؤكد أن كل نجاح تحرزه الدولة في أحد الملفات سوف يقلص من قدرة الملف الآخر على تشكيل تحٍد ذي شأن، والعكس أيضا، وهناك مجال وفضاء آخر من شأنه التأثير في مستقبل التهديد الذي تمثله هذه الملفات، وهو الفضاء الداخلي. فكلما تمكنت الدولة من مواجهة التحديات الداخلية، تمكنت من فرض صورة خارجية تمكن من تقليص رهان الخارج على بدائل أخري في مصر، غير الدولة المصرية.
وهناك مساران أساسيان لمواجهة التحديات الخارجية، الأول: يركز على حصارها ومواجهتها من خلال حشد الطاقات لمواجهتها، وهذا مطلوب مع التحديات العاجلة والحادة، التي تمس هيبة وأمن الدولة. أما المسار الثاني، بعيد الأمد، فيتمثل في الاندفاع برؤية ومشروع قومي وطني للنهوض الشامل، ومن شأن ذلك أن يقضي على نزعات لدي قوي داخلية، أو خارجية لطرح ذاتها كبديل للدولة، أو الرهان على قوي وفاعلين أدني داخلها. ومن ثم، فض أي بوادر لتشكُل تحالفات متقاطعة بين قوي في الداخل والخارج. فلن يبقي الخارج طويلا مساندا للجانب الخاسر في مصر، بل من الأرجح أن يؤدي نجاح مصر في مسارها إلي تصدير المشكلات إليه، وحدوث عمليات تغيير تطيح بمن لم يتم تغييرهم عنده.
يفتح هذا الملف الذي تقدمه مجلة السياسة الدولية، مع بدء انطلاقة العهد الجديد، المجال لدراسة التحديات الخارجية أمام الدولة المصرية للنقاش، وهو أمر، فضلا عن أنه يقدم تشخيصا لتحديات اللحظة الحالية، فإنه يحدد الأرضية التي تنطلق منها الدولة في الوقت الراهن. ومن ثم، إمكان التحديد المستقبلي لجوانب النجاح والإخفاق، وهو يعمل أيضا على تقديم الصورة الكاملة للتحديات والأخطار كما هي، وتحديد أيها الأكثر خطورة وإلحاحا. ومن ثم، الأكثر حاجة إلي المواجهة العاجلة. وقد شارك في هذا الملف نخبة من الخبراء والمتخصصين من جهات متعددة، وهم بحسب ترتيب الأوراق: السفير هاني خلاف، ود. محمد مجاهد الزيات، وأ. هاني رسلان، ود. أيمن عبدالوهاب، ود. خالد حنفي، ود. أشرف كشك، ود. نصر عارف، والسفير رءوف سعد، ود. أيمن سلامة، والسفير محمد أنيس سالم.
وأخيرا، فهناك بجانب التحديات العديد من الفرص. وإذا كان العمل على جبهة الداخل يمثل خيارا أساسيا للدولة المصرية في مواجهة تحديات الخارج، فإن أحد الجبهات الخارجية التي يمكن أن تمثل سندا أساسيا لمصر هي دول الخليج العربي، فقد تضامنت السعودية، والإمارات، والكويت، والبحرين مع مصر، بشكل يؤكد أهمية الانتباه إلي المستقبل الاستراتيجي لمصر في إطار هذه الدائرة الخليجية التي يتعين التركيز عليها، والتطبيق العملي للرؤية المصرية التي تعتبر أن أمن الخليج جزء من الأمن القومي المصري، وهو أمر محل طلب من جانب دول الخليج، فضلا عن أنه كان أيضا محلا للتساؤل في مؤتمر عُقد بمركز الإمارات للسياسات في أبوظبي في الفترة من 15 إلي 16 يونيو 2014، حيث كان التساؤل الرئيسي في هذا المؤتمر هو: ماذا يمكن لمصر أن تقدمه للخليج؟
لقد تحملت دول مجلس التعاون الخليجي الأربع قدرا كبيرا من المخاطرة التاريخية، حين اصطفت على نحو مطلق مع مصر في مواجهة التحديات، واعتبرت أن "من يتخاذل عن (مساعدة مصر) فإنه لا مكان له غدا بيننا إذا ما ألمت به المحن وأحاطت به الأزمات"، حسب ما صرح به الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الذي تحدث بلسان قيادات الخليج، ولقد راهنت دول الخليج على مستقبل الدولة في مصر، وليس على مصالح آنية ضيقة محكومة برؤي مصالح محدودة الأفق. ومن المرجح أن دول المجلس تراهن على أن ترد مصر الجميل، إذا واجهت هي ذاتها تهديدات مختلفة أو مماثلة في المستقبل.
ومن المؤكد أن دول الخليج لم تنطلق في دعمها لمصر، من مشاعر، أو بواعث عاطفية كما لم تحركها المصالح فحسب، فمن المرجح أن هناك مبادئ كانت تحكم سلوكها ووقفتها الاستثنائية مع الدولة المصرية، وقد كان اصطفافها معنا بدافع حسابات مبدئية، وسياسية، وسيكولوجية، عربية. ومن ثم، قررت أن التحديات التي تواجه مصر هي تحديات تواجهها دول الخليج بالمثل. ومن منظور التحالفات السياسية، فإن كل جبهات العداء الراهنة للدولة المصرية سوف تعد دول الخليج أيضا أعداء لها، وهو ما يدفع إلي ضرورة البناء الاستراتيجي المصري - الخليجي عبر منظور أشمل وفي سياق كيان مشترك. وقبل التفكير في البناء في المستقبل هناك أفكار استراتيجية خصبة، لتمتين الحاضر، وهو حاضر ليس محصنا ضد الفتن، ومكائد القوي التي لا ترغب لهذا النوع من التحالف أن تقوم له قائمة.