دأبْتُ في السنوات الثماني الأخيرة على طَرْق موضوع سياسات الدين، أو كيفية إدارة الملفّ الديني في عالم الإسلام. وأذكر أنّ الدافع لذلك كان بالدرجة الأولى صعود نجم «الإخوان المسلمين» في الأوساط الشعبية بمصر وبلدان عربية أخرى. إذ الواقع أن الموجة الثانية لهذا الصعود حدثت بعد وصول حزب أردوغان الإسلامي للسلطة بتركيا العلمانية عام 2002. وكان الباحثون وقتها مشغولين بصعود العنف باسم الإسلام بعد هجوم «القاعدة» على الولايات المتحدة عام 2001. وكانت وجهة نظري أن ظاهرة العنف باسم الإسلام شديدة الخطورة، لأنها تمسّ أمْن العالَم بقدر ما تمس أَمنَ الأمة العربية. إن هذه الظاهرة هي ظاهرة أمنية أولا وفكرية ثانياً وينبغي معالجتها أمنياً ثم فكرياً. وهي لن تستمر لأن معظم المسلمين يكرهون العنف والعنيفين. وإنما قد تؤدي عوامل أخرى إلى تطويل عمرها لجهتين: لجهة الهجمة الإيرانية على العرب باسم التشيع مما يثير الحفائظ والجهاديات. ولجهة تلاعُب السياسات الدولية والإقليمية بالمتطرفين وتحويلهم إلى الاقتتال الداخلي لزعزعة المجتمعات والدول. أما الأخطر فهو ما صار يُعرفُ بالإسلام السياسي، والذي يدّعي أنه يملك أُطروحة سياسية باسم الإسلام. وقد اكتسب أرضيةً ليس لدى الفقراء فقط، بل ولدى الفئات الوسطى المتدينة، بسبب سلميته الظاهرة، وبسبب تآكُل شرعية أنظمة الدولة الوطنية الأمنية والعسكرية عبر عدة عقود. ووقتها (أي بعد العام 2003 وغزو العراق) ما بدت تحذيرات الخطورة من «الإخوان» مسوَّغةً أو ذات صدقية، لأن المراقبين اهتموا بتصاعد عُنف «القاعدة» ومتفرعاتها وفظائع الزرقاوي.. وصولا لفظائع «داعش» وأبي بكر البغدادي الآن. وما اقتصر الأمر على عدم الاهتمام، بل كان هناك من تصدى لتحذيراتي من تيارات الإسلام السياسي وجاذبيتها. فقد قلت في بعض المداخلات إن العنف القاعدي أيضاً يصب في كيس «الإخوان» وجماعة أردوغان. لقد رد علي وقتها تلميذي وصيدقي الدكتور حسام تمام رحمه الله بكتابين؛ أحدهما عنوانه «تآكُل الأُطروحة الإخوانية» (2008)، والثاني عنوانه «تسلُّف الإخوان المسلمين»(2010). وقد توفّي حسام عام 2011 بعد مرض عُضال، لكنه في مداخلاته الأخيرة كان مندهشاً من صعود نجم «الإخوان»، ومن تصادُمهم مع السلفيين الذين ما توقع حسام أيضاً أن يُظهروا قدرة على التسيُّس. وما استطاع «الإخوان» في النهاية الاستمرار في السلطة بمصر لأكثر من عام، لكنهم أحدثوا ارتجاجات في المشهد السياسي العربي قد تستمر أعواماً.
ما أردْتُ العودة هنا للمعالجة والمقارنة بين خطري الإسلام السياسي والآخَر الجهادي. بل موضوعي هو السياسات الممكنة لإدارة الملف الديني في العالم العربي. فهو موضوع شديد الإلحاح وَيَمُت بِصِلة وثيقة لثوران «داعش» أيضاً. فقد انفجر الملف الديني في العالم العربي في أيدي الأنظمة والمؤسسات الدينية التي تحتضنها. وولَّدت الانفجارات المتوالية الجهاديين الجدد، و«الإخوان». فكلتا الظاهرتين تريد الدولة الدينية، إنما تسميها الجهاديات «خلافة»ً، بينما تسميها الإخوانيات «تطبيق الشريعة»! وقد رأيتُ بالإجمال أنه لابد من مكافحة العنف الديني بالقوة لحماية المجتمعات والدول، وبخاصة أنه هو الذي أراد فَرْض نفسه بهذه الطريقة. أما التيارات التنظيمية الأَوسع فلا يزيلها العنف بسبب شسوع امتدادها وقوة تنظيمها؛ بل لابد من الدخول في عمليات نهوض ديني تتضمن نقداً لتحويل المفاهيم، وخلط الدين بإدارة الشأن العام. كما لابد من النهوض بالمؤسسات الدينية لتتولى بكفاءة الوظائف والمهام التي ما استطاعت القيام بها على وجه مَرْضي في العقود الأخيرة.
لقد كان ذلك كله موضوع كتابي «أزمنة التغيير.. الدين والدولة والإسلام السياسي»، الصادر عن هيئة أبوظبي (2014). فقد تتبعْتُ فيه تجربة الأُوصوليات الإسلامية في القرنين التاسع عشر والعشرين، من جهاديات القتال أو الهجرة إلى جهاديات «القاعدة»، وأسلمة المجتمع والدولة على يد «الجماعة الإسلامية» للمودودي بباكستان، و«الإخوان المسلمين» على اختلاف مسمياتهم في مصر والعالم العربي طوال ستة عقود وأكثر. واستعرضتُ في الكتاب مشكلات العرب والمسلمين الآخرين مع الدولة الحديثة عبر القرن العشرين. وتتبعْتُ ظهور الدول الوطنية في حقبة ما بين الحربين، وظهور الأنظمة العسكرية والأمنية في البلدان العربية والإسلامية بعد الحرب الثانية. وقد أدّى فشل هذه الأنظمة في معالجة الملفات الوطنية والقومية، وشيوع القمع والتهميش، إلى صعود الإسلاميين التنظيميين والجهاديين على حد سواء. وقد استخدم الدوليون الجهاديين في أفغانستان مما أدى إلى تعملُقهم. كما راحوا يغازلون التنظيميين ويهدّدون بهم الأنظمة الحليفة لهم لدفعها باتجاه الانفتاح والديمقراطية، كما قالو! أمّا التنظيميون من جهتهم فتمسكوا بفكرة «الشرعية» التي اعتبروا أنفُسهم ورثتها وحُماتَها بعد ذهاب الخلافة، وراحوا يطورون أُطروحة «النظام الكامل» الإسلامي في عمليات تحويل ضخمة للمفاهيم، أعانتهم فيها عدة وقائع وعوامل: فشل الدولة الوطنية، والسياسات الدولية الضاغطة في زمن الحرب الباردة، وحملات المثقفين العرب الكبار على الموروث الديني والثقافي. وقد قلتُ في النهاية إن الخروج من المأزق الذي يشكل خطراً على الدين والدولة يكون بثلاثة أمور: النهوض بعمليات نقد تحويل المفاهيم، والاهتمام بإعادة بناء أنظمة الحكم الصالح، كما الاهتمام بإعادة بناء المؤسسات الدينية.
قبل شهرين ترجمت سلسلةُ «عالم المعرفة» الكويتية كتاباً شديد الأهمية لسكوت هيبارد حول «السياسة الدينية والدول العلمانية». والسياسة الدينية التي يقصدها الكاتب الأميركي هي المسارات التي اتبعتها الدول والأنظمة السياسية خلال ثلاثة عقود إزاء الدين في مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية. يعتبر الكاتب أن الصحوة الدينية عامة في سائر الأديان الصغرى والكبرى في عالم ما بعد الحرب الثانية. وما أحدثتْها الدولُ بحد ذاتِها، بل هي من نتاجات الحداثة والعولمة، والمخاوف المتصاعدة لدى الجماعات الإثنية والقومية والدينية على الهوية الخاصة. ولا يربط هيبارد تلك الصحوات أو الأصوليات بطبيعة النظام السياسي كما يتبين من النماذج التي ذكرها. فالولايات المتحدة نظامٌ ديمقراطي قديم. والهند نظامٌ ديمقراطي حديث. ومصر نظام أوتوقراطي شديد التمركز. والجامع بين هذه الأنظمة تحول سياساتها تجاه الدين. ففي الولايات المتحدة، وتحت وطأة الانقسام السياسي تجاه الحقوق المدنية، وتجاه حرب فيتنام؛ اتجه الحزبان الجمهوري والديمقراطي- والأول أكثر من الأخير بكثير- إلى الإفادة من تيارات الهوية، والإنجيليات الجديدة، من أجل المكاسب الانتخابية. وكانت النتيجة ازدياد تأثير الجماعات الدينية الجديدة في السياسات الداخلية والخارجية. فقد دعم الإنجيليون جيمي كارتر الديمقراطي. ثم انصب دعمهم لصالح ريجان وبوش الابن، فضلا عن تأثيرهم في الملفات الاجتماعية بالداخل الأميركي، والسياسية تجاه الاتحاد السوفييتي، وتجاه إسرائيل، وفي مسألة غزو العراق. وهو يرى أن هذه الموجة انكسرت في الولايات المتحدة بتأثير قوة الدولة، وإعراض الشباب عن الأصوليات. لكن موجات الأصولية العميقة ستظل تؤثر لعقود خالطةً الدين بالدولة وسياساتها.
وكان هيبارت قد بدأ بحالة مصر، والتحويلات التي أدخلها السادات في الدستور عام 1971 لصالح دسترة الدين، والتحالفات التي أقامها مع الجماعات الدينية التي قتلته في النهاية. قال السادات إنه يقيم دولة العلم والإيمان. وما تراجع مبارك عن شيء من ذلك، وإن استمرت ضغوطه على الجماعات وعلى «الإخوان». وهكذا استمرت عمليات أسلمة المجتمع والدولة بموافقته وبدونها، مما أدى إلى تفكك وزوال السياسات المدنية والعلمانية والتنموية السابقة، وما بقي غير الانفتاح الاقتصادي الجشِع والرأسماليات الطفيلية والفساد ومطامح التوريث. وكانت النتيجة الصادمة حدوث ثورة عام 2011 وما بعدها!
----------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الأحد، 6/7/2014.