أحد الضباط العراقيين قال في لقاء مع «بي بي سي» إنهم هربوا رعباً مما قد يفعله بهم «داعش». سكان بغداد على استعداد لذلك لو شاهدوا سيارة واحدة من «داعش» أو رجالاً ملثمين يرتدون السواد. هذا مشهد رعب لم يشهده العالم الإسلامي منذ غزو التتار الذين يشتركون في نزعة الذبح من دون تمييز.
كيف تشكلت هذه الصورة؟ ومن قام بصناعتها؟ وما الهدف من ذلك؟
في الوقت الذي يمكن تصنيف جميع الجماعات الإرهابية ورسم ملامح واضحة لها، يبدو «داعش» سلسلة متنامية من الأسئلة ومتاهة حيرة، فهو لم ينشأ اعتباطاً استناداً إلى درجة تنظيمه وطبيعة تسليحه ونوعية علاقاته المتشابكة، لا يمكن أن يبتكره رجل محاصر ومعزول.
كان السائد أنه صناعة المخابرات الإيرانية، بسبب دوره في محاربة الجيش الحر وتعاونه الواضح مع النظام السوري واستقراره بأمان في الرقة. إلا أن دخوله الموصل وتهديده باستهداف الشيعة فجّر أسئلة ولم يقدم إجابات.
هل خططت إيران لذلك وصولاً إلى تقسيم العراق؟ هل الهروب المفاجئ مدبَّر لفرض واقع جديد أم أنه فضيحة لنظام متهالك؟ هل من المعقول أن تهرب الجيوش في أكثر من منطقة من دون رصاصة واحدة؟ وهل يوجد نظام في الكون لا يستحي من فضائح مهينة كهذه؟ ولماذا طلبت الحكومة فرض الطوارئ؟ وماذا تريد من ذلك؟
هل حصول التنظيم على الكم الهائل من الأسلحة المتقدمة أمر واقع، أم أنه ستار للقيام بعمليات ضد مناطق سنية؟ هل الغاية إشعال حرب طائفية تفرض التقسيم ضرورة استفادة من تجربة السودان؟ هل الاحتقان الطائفي الذي صنعه المالكي علانية واستهدافه القصدي للسنة مقدمة مبرمجة لما يحدث اليوم؟ هل السرعة في إعلان العجز وطلب الدعم الدولي تمهيد لدخول إيران في العراق بغطاء قانوني والحركة الحرة في أراضي العراق بحجة القضاء على الإرهاب؟ لماذا تستعجل الحكومة العراقية تحصين بغداد وحمايتها وكأن وصول «داعش» إليها مسألة وقت؟ ما الذي دفع التنظيم إلى الجرأة على اقتحام الموصل وفي هذا الوقت بالذات؟ ولماذا استدعى فصائله من الرقة من دون خوف على وجوده هناك؟ هل التركيز على غنائمه المالية الضخمة تبرير مصطنع لتغطية قدراته المالية أم أنها مكاسب حقيقية؟ هل فعلاً ساندته وشاركته قوى داخلية وبعثية للخروج من ظلم المالكي؟ وإذا كان الأمر كذلك فلما ينسب الفضل إلى «داعش»؟ وأين هذه القوى من المشهد؟ وما حقيقتها وطبيعة أهدافها؟ كيف يمكن جماعة تدعي السنية المتطرفة أن ترتبط بقوى بعثية ونقشبندية؟ هل فعلاً قياداته العسكرية من ضباط الجيش العراقي السابق؟ هل هو وجود حقيقي أم مجرد مظلة أم أنه تمرد على صانعه واستقل بنفسه؟ هل هو خطة أميركية لتنفيذ ما يسمى الشرق الأوسط الجديد؟
في كل الأحوال، يظهر «داعش» لغزاً محيراً للجميع، والكل يدعي الجهل به أو أن يكون له علاقة. الأكيد أن الخليج منه براء، فالسعودية عانت الإرهاب ولم تنقطع يوماً عن محاربته بكل الوسائل.
مرة أخرى، مهما كانت مآلات «داعش» فهو أسس أفقاً جديداً لم يعرفه النشاط الإرهابي من قبل، وأعاد إحياء وتغذية هذه النزعة لدى قطاعات من الشباب الغاضب والمتحمس، ليعيدوا النظر إيجاباً نحو الجماعات الجهادية، وهو يكتشف فجأة أن حلم الدولة ليس مستحيلاً، بل هو أيسر مما يتوقع. ما يحدث في العراق سيحرض التنظيمات الأخرى على القيام بعمليات مماثلة، حتى لا تبدو أنها ضعيفة وتخسر شعبيتها ومصادر تغذيتها بشرياً ومالياً.
حتى لو تم القضاء على «داعش» كتنظيم، فإن كوادره ستتوزع ناشرة التفجير والقتل والتخريب، وسيشهد العالم جولة إرهابية أقسى وأمر من كل المراحل السابقة.
من السهل صناعة الإرهاب وترويجه لكن قد تستحيل السيطرة عليه، ويخطئ من يظن غير ذلك، إذ لا يزال نموذج الجهاد الأفغاني حياً ونشيطاً.
العالم لم يتعلم من درس أفغانستان وربما لا يريد ذلك، أو أن البعض تعلم بطريقة ذكية فأبقى الصناعة وتحصن من المخاطر.
--------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الأحد، 15/6/2014.