بعد الأنبار ومُدُنها وبلداتها، اجتاحت «داعش» الموصل، وتراجع الجيش العراقي وقوات الأمن والشرطة العراقية، ودعا المالكي مجلس النواب العراقي إلى الاجتماع لفرض قانون الطوارئ.
إنها سنوات عشر وأكثر من العذابات يمرُّ بها العراق العزيز، دون أن يبدو ضوء في نهاية النفق. إذ بعد الغزو الأميركي، والإمعان في تدمير الدولة العراقية، جرت ثلاثة انتخابات، وكان التأزم يزداد بعد كل انتخاب. والتأزم في النظام السياسي، صاحبتْهُ موجات من العنف الهائل، ما أمكن للأجهزة الأمنية والعسكرية أن تُخمد أُوارَها، أو للنظام السياسي أن يرسم للعراق حاضراً أو مستقبلاً آخر.
لا يشكو العراق من داء واحد، بل من أدواء عدة. بيد أن أبرز أدوائه هذا النظام السياسي العاجز والفاسد والمنقسم على نفسه، والواقع دائماً على شفا الحرب الأهلية والطائفية، وعلى شفا التقسيم والشرذمة، وعلى نار التهجير والقتل والبؤس الذي لم يعرف العراق مثيلاً له في تاريخه الحديث.
ظهرت «القاعدة» قبل الغزو الأميركي للعراق، وكان وجودها فيه أحد مبرّرات الغزو المذكور، بينما هي لم تحضر إليه في الحقيقة إلا بعد الغزو وفي أعقابه. وكان العلاج واضحاً وممكناً: خروج الاحتلال، واستعادة الدولة والنظام السياسي الأفضل من نظام صدّام. لكن النظام السياسي قام على عوج وتمييز لا يزالان مستمرين، كما لا يزال العنف مستمراً من الطرف أو الأطراف. ففي السنوات الأولى للغزو وعندما كان يجري بناء الدولة الجديدة على أنقاض القديمة، ظل النظام السياسي الجديد نصف معطل ومليئاً بالانسدادات. ومنذ البداية أُضيف إلى هَول الغزو وهَول البناء السياسي المشوَّه، هولُ الإرهاب والتطرف. وكان المعروف عن «القاعدة» أنها تخوض هجمات كر وفر إلا في العراق، حيث ادعت إقامة دولة العراق الإسلامية. وها هي وبعد أكثر من عقد تضيف إلى اسمها الشام (!) لتصبح دولة العراق والشام، ولتتعمد نشر الخراب والمذابح الطائفية والتفجيرات القاتلة.
لقد وجدت «القاعدة» بيئة أو بيئات لها في أوساط السنة العرب، الشاعرين بالهزيمة والتمييز والاضطهاد. إنما حتى الجنرال بترايوس، وبشيء من التفهم والإنصاف، أمكن له إيقاظ ما عُرف بالصحوات التي أخرجت «القاعدة» خلال أشهُر من الأنبار وغير الأنبار. وراح المضطهدون ينتظرون انتهاء زمن التمييز، بينما راح المالكي وراحت أجهزتُهُ تزيد من التمييز، وتتبادل الألاعيب مع سياسيي السنة العرب المشاركين في النظام الجديد! وكانت هناك آمال مع خروج الأميركيين (2010-2011) أن تتغير الأمور، لكنها ازدادت سوءاً. فحتى الأكراد شبه المستقلين في الإقليم الذي يسيطرون فيه، والمتحالفين منذ البداية مع الشيعة السياسية الناشئة، وجدوا أنفسهم على خلاف شديد مع المالكي، إلى حد التهديد بالاستقلال. وعندما هبت رياح التغيير العربي في بلدان العسكريات والأمنيات، أقبل العراقيون السنة على التظاهر السلمي لأكثر من عام وبثلاثة مطالب: إنهاء التهميش، وإسقاط قانوني مكافحة الإرهاب واجتثاث «البعث» عن رقابهم. بيد أن ملايين المتظاهرين هؤلاء ما استطاعوا تحقيق شيء. بل زاد الطين بلّة إقدام الحكومة وقواتها على تشريد تظاهراتهم، وإخلاء ساحات مدنهم. وسرعان ما حل محل المتظاهرين «القاعديون» الجدد. ولا ندري كيف تستطيع الحكومة إزاحة الملايين من الساحات، ولا مكافحة مئات المسلحين الإجراميين المغيرين تحت اسم دولة العراق ثم دولة العراق والشام. فما اكتفى «القاعديون» الجدد هؤلاء بتدمير المدن والبلدات، بل تدخلوا في سوريا (إلى جانب الأسد عملياً)، لإخماد الثورة هناك. وكل ذلك تحت اسم الإسلام!
ليس لـ«الدولة الإسلامية» الميمونة غير نماذج مثل «داعش»، وحكومة البشير الإسلامية بالسودان، ونظام ولاية الفقيه بإيران، والتنظيمات الإيرانية والطائفية المسلحة في أربع أو خمس دول عربية.
يقع العراقيون اليوم، بل منذ سنوات بين أصوليتين بل أصوليات: حكومة المالكي بمواصفاتها المعروفة، وإيران التي تتغلغل في كل مكان، والتنظيمات الشيعية المسلحة والمدرّبة من إيران التي تقاتل في العراق وسوريا! والداعشيون الذين جرى تحويلهم من العداء لأميركا للعداء لكل العراقيين والسوريين المسالمين، يقولون إنهم ضد حكومة المالكي ويريدون إقامة الدولة الإسلامية. ثم يقومون بأعمال القتل والتفجير، ويخصون مناطق العرب السنة بتخريباتهم الهائلة، وتهجير مئات الألوف.
لا حل للعراق إلا بالعروبة المنفتحة وغير الطائفية وغير الرجعية. القتل باسم التسنن لا يصنع وطناً ولا دولة، والقتل باسم التشيع لا يصنع وطناً ولا دولة. إنهما أصوليتان قاتلتان أنشأتهما أجهزة المخابرات لتدمير حياة الناس. وكل منهما ضرورية للأخرى. فوجود «داعش» يبرر وجود تنظيم «أبي الفضل العباس» و«عصائب أهل الحق»، وغير ذلك مما اخترعه الجنرال سليماني وأرسله للقتل في العراق وسوريا واليمن ولبنان. لا أدري كيف يكون المرءُ إنساناً صاحب خلق ودين ويصبح «داعشياً»!
لقد وقعت عروبتنا بأيدي أنظمة «البعث» في سوريا والعراق ولبنان على مدى العقود الماضية. وإذا بصفوفنا تخلو من القومية ومن الإنسانية، وتتوطن فيها الأُصوليات. ويضاف إلى مصائبنا التدخل الإيراني لشرذمة المجتمعات والدول.
بالأمس دعت مصر الرئيس الإيراني حسن روحاني للاحتفالات التي أقامتها بمناسبة فوز رئيسها في الانتخابات. وما حضر روحاني إلى مصر، بل مضى إلى تركيا، وراح يبشرنا من هناك بديمقراطية الأسد وشعبيته وشرعيته الباقية. فالذين استبشروا بروحاني واعتداله، هم مثل الذين استبشروا بمدنية الأسد أو البشير أو القذافي أو صدام. فليس لنا إلا العروبة الجامعة بعد ذهاب الأسد وصدام، وبعد أن أقبلت بلداننا على التشرذم والتفسخ!
خلال أقل من أربع سنوات، يوشك العرب أن يفقدوا نصف مليون قتيل، معظمهم من المدنيين العُزَّل: فكيف تقتل دولة «داعش» (الإسلامية) بالعراق وسوريا؟! وكيف تقتل التنظيمات الإيرانية باسم التشيع في كل مكان؟! لا أضع تنظيم «أبي الفضل العباس» في وجه «داعش»، لتبرئة الذمة أو لتحميل طرف آخر مسؤوليات القتل. بل لا مبرر لظهور «داعش» مهما بلغ علينا الظلم والبهتان. وإلا يكون علينا التحدث مثل «حزب الله» عن التكفيريين الذين يتحتم قتلهم لإنقاذ الدين!
إن أكبر خدمة لديننا وأوطاننا وإنساننا إنما تتحقق إذا زالت «داعش» وزال خصومها (أو حلفاؤها) أهل الأصوليات العسكرية والأمنية، وقامت الدولة العراقية العربية وقامت الدولة السورية العربية، التي لا تقتل مواطنيها ولا تشردهم. فلا يمكن كسب الناس بإهانة دينهم وأخلاقهم، وشرذمة مجتمعاتهم.
ماذا يخسر المالكي إن دعا لمؤتمر وطني يجري التوافق عليه بالقاهرة مثلاً، ويُسقط الحواجز بين الفئات والمكوِّنات؟ وماذا تنفع الولاية الثالثة للمالكي إذا كانت ستتسبب بتقويض ما بقي من العراق، وبزيادة الحساسيات الطائفية؟ لا بد من عروبة الانتماء والثقافة والقومية، فهي التي تجمع وليس الأُصوليات السنية والشيعية والعامل كلٌ منهما لجهة أو جهات يعرفها كل أحد.
يحسب المالكي، مثل الأسد، أن ثوران المتطرفين خدمة كبيرة لهما، لإقناع العرب والدوليين ببقائهما. أما الواقع، فإن ولاءهما لإيران، وعملهما ضد استقرار شعبهما ووحدته، سقطةٌ كبرى تستدعي سقوطهما قبل «داعش» وبعدها!
--------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الأحد، 15/6/2014.