ما زالت "إسرائيل" تتعمد تجاهل المجتمع الدولي، وتعمل على تعزيز برنامجها النووي السري، غير مبالية بالأضرار التي قد تلحق بدول الجوار . هذا الضرر لا يتوقف على ما قد تجلبه القنابل والرؤوس النووية من مخاطر كبرى على هذه الدول، بل هناك ما هو أشد خطراً، ويتمثل في الإشعاعات التي تتسرب من المنشآت النووية، وتنتقل عبر الأجواء لتصيب البشر، وتتسبب في ظهور الأمراض الخطرة مثل السرطان .
ففي المناطق الغربية من الأردن والمحاذية لدولة الاحتلال، ازدادت معدلات الأمراض الخطرة بشكل مرعب، وترافق ذلك مع ازدياد نسبة الإشعاع في هذه المنطقة، وقال رئيس هيئة الطاقة الذرية الأردنية خالد طوقان: "إن المناطق الغربية بالبلاد تشهد ارتفاعاً في نسبة الإشعاع جراء انتقال مواد مشعة من المفاعلات النووية "الإسرائيلية" بفعل الرياح"، وقال طوقان إن الدليل على ما تردد في أكثر من وقت حول ارتفاع الإشعاع في المنطقة المذكورة، كشفه مسح جوي أجراه الأردن في الثمانينات من القرن الماضي . وبيّن أن مواد مشعة انتقلت إلى الأردن بفعل الرياح من المفاعلات "الإسرائيلية"، ولم يحدد رئيس هيئة الطاقة الذرية الأردنية نسبة الإشعاع في تلك المناطق، لكنها، بلا ريب، كبيرة والدليل هو ارتفاع نسبة بعض الأمراض، من بينها السرطان، خلال السنوات الماضية، وتردد أن سبب هذه الأمراض هو "انتقال إشعاعات من مفاعل ديمونة "الإسرائيلي" في صحراء النقب إلى هذه المناطق" . ويبدو أن هذا الأمر بات يحتاج إلى إجراءات دولية عاجلة للكشف عن هذه الأسباب، لكن كيف العمل ولا يزال مجلس الأمن الدولي يتجاهل نداءات دول المنطقة، بضرورة وضع المشروع الذري "الإسرائيلي" تحت الرقابة الدولية تجنباً لحدوث أية كوارث مفجعة؟
وكانت "إسرائيل" منذ قيامها على أرض فلسطين عام ،1948 قد شعرت بأن أمنها لا يتحقق إلا بامتلاكها أسلحة فتاكة تضمن تفوقها، وفرض وجودها، وتحقيق أطماعها التوسعية في الأراضي العربية، لذلك كان الشغل الشاغل لأول رئيس ل"إسرائيل" حاييم وايزمان (عالم الكيمياء العضوية) هو إنشاء أول هيئة نووية "إسرائيلية" سماها "قسم البحوث والتخطيط العلمي" في نفس عام ،1948 وألحقها بوزارة الحرب بسرية تامة، وأسند ذلك إلى الدكتور أرنست ديفيد بيرغمان، وقامت الهيئة بالتنقيب عن اليورانيوم في مناجم الفوسفات بصحراء النقب . وفي عام 1953 وقّعت "إسرائيل" اتفاق تعاون مع فرنسا، وبالرغم من أن تفاصيل هذا الاتفاق لم تعلن، إلا أن فرنسا وافقت عام 1957 على تزويد "إسرائيل" بمفاعل قوة 25 ميغاوات، يستخدم اليورانيوم الطبيعي والماء الثقيل . وهذا المفاعل المقام في ديمونة وما حوله من المنشآت لم يخضع للتفتيش الدولي أبداً . وقد سارت "إسرائيل" إلى اتباع سياسة الغموض الذري، حتى اعترف حاييم هيرتزوج في 13 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1990 في رسالة وجهها إلى عضو البرلمان البريطاني ديفيد شيسل، بأن "إسرائيل" تمتلك الأسلحة النووية .
وباستعراض إمكانات وقدرات "إسرائيل" يتضح أن هذه الدولة تمتلك القدرة على إنتاج القنبلة الذرية، وإعدادها للاستخدام في زمن قياسي، وأن قدرات الإنتاج "الإسرائيلي" في المجال النووي توفر مخزوناً يتراوح نظرياً ما بين 134-136 قنبلة ذرية بنهاية عام 2000 .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إلى متى ستصبر دول الشرق الأوسط المحيطة ب"إسرائيل" على ما يجري في هذه الدولة؟ فالمسألة اليوم أصبحت تتعلق بالأمن القومي الوجودي لهذه الدول، فدولة الأردن المجاورة، مثلاً، أصبحت مهددة بوجودها بفعل الإشعاعات التي تدخل إلى أراضيها دون استئذان . ولا نعلم فربما هناك مشكلة كبيرة داخل دولة الاحتلال "الإسرائيلي"، يتم التكتم عليها لدواعٍ أمنية وعسكرية . ولكن لماذا لم يبادر الأردن بالكشف عن الآثار المدمرة لهذا الإشعاع الذي يهدد حياة الأردنيين؟ أليس من المفترض أن يتحرك المجتمع الدولي بشكل فاعل لوضع حد للتهرب "الإسرائيلي" من الخضوع لإجراءات المراقبة الدولية على النشاطات النووية؟ فهذه المفاعلات الذرية ليست منشآت ترفيهية، بل هي مصانع للموت والدمار، وهذه المفاعلات بحاجة إلى صيانة ومتابعة، ولا أحد يعلم ما إذا كانت "إسرائيل" مهتمة بهذا الموضوع، خصوصاً أن مفاعل ديمونة في صحراء النقب مضى على إنشائه أكثر من خمسين عاماً، وربما هو الآن في حالة تصدع ما يؤدي إلى تسرب الإشعاعات، ولاسيما أشعة غاما القاتلة .
إن استمرار الصمت الدولي، وخصوصاً الغربي، بحجة الخوف على "إسرائيل" من جيرانها، هو أمر لم يعد مقبولاً، بل بات من الضروري التحرك على مستوى مجلس الأمن، أو على مستوى منظمة الطاقة الذرية لتفتيش منشآت "إسرائيل" الذرية، وهي ليست في ديمونة فقط، بل في المثلث والجليل أيضاً . ذلك أن خضوع هذه المنشآت لإجراءات المراقبة الدولية يعطي دول المنطقة الإحساس بالأمن والاستقرار، لأن الرقابة الدورية عليها أن تكشف إن كان فيها عيوب أو تسرب، وبالتالي المسارعة إلى إصلاح الخلل الموجود فيها . ولو فرضنا، مثلاً، أن زلزالاً وقع في فلسطين المحتلة، وهو أمر غير مستبعد، فكيف سيكون مصير هذه المفاعلات، ألن تنفجر لتوزع الدمار والرعب والقتل يميناً وشمالاً . وقد رأى العالم كيف انفجر أربعة مفاعلات ذرية في اليابان بسبب زلزال حدث في منطقة فوكوشيما عام ،2011 وأدى ذلك إلى مقتل أكثر من عشرة آلاف ياباني، إضافة إلى إحداث دمار هائل بالممتلكات . مع العلم أن منشآت اليابان تخضع للمراقبة الدولية الدورية، فكيف الأمر بمفاعلات "إسرائيل" السرية؟ فما ذنب الشعوب التي تعيش إلى جوار هذه الدولة، هل عليها أن تبقى في حالة خوف دائم وأن تدفع ثمن أخطاء "إسرائيل" غالياً؟
وعلى العرب أن يتذكروا قول الشاعر الحكيم: ما حكَّ جلدَكَ مثلُ ظِفرك فتولَ أنت جميعُ أمرك
-----------------------------
نقلا عن دار الخليج، الأحد، 5/5/2014.