4 مايو 2014
يستلّ الاتفاق الأحدث للمصالحة الفلسطينية بين حركتي "فتح" و"حماس"، الذي جرى توقيعه في 23 أبريل الماضي، موقعه المغاير لنظرائه السابقين، من مأزق الطرفين الحرج، الذي قارب حدوده غير المردودة، إزاء المشهد العربي الإقليمي المأزوم، منذ زهاء السنوات الثلاث، والأفق المسدود لعملية التسوية السلمية، والحال المتدهور في الأراضي المحتلة بفعل العدوان الإسرائيلي المتصاعد، دونما انفراجة في نهاية النفق المعتم.
ورغم الترحيب الشعبي الفلسطيني بالتفاف الفصيلين، الأكبر حجماً وتنظيماً في الساحة المحتلة، حول إنهاء الانقسام "بإعلان الشاطئ" في غزة، بهدف تحقيق الوحدة الوطنية المضادّة للاحتلال، فإن عنصر التريث الحذرْ يبقى سيدّ الموقف، إلى حين جدية نفاذه، عبر محكيّ "الحكومة" و"الانتخابات"، وقدرة الصمود أمام التهديد الأمريكي-الإسرائيلي "بالعقاب الاقتصادي"، و"العزل السياسي".
وإذا كانت معطيات ما عده البعض "اتفاق المأزق" حاضرة في حساب تقدير إنجازه، بما قد يكسبه مناعة قوية لديمومة مساره وتنفيذه الفعلي، عند توافر الإرادة والنيات الحقيقية لكلا الطرفين بدعم عربي إسلامي، فإن الانشغال بالتفاصيل الغائبة عن بنوده، والمؤجل بحثها لفترة لاحقة، أو اتخاذ الاتفاق "طوق نجاة" مؤقتا من المأزق الراهن إلى حين تغير الظروف المصاحبة له، أو استهداف إخضاع أحد طرفيه لرؤية الآخر السياسية، سيجعل منه حبراً ورقياً فقط.
"اتفاق الشاطئ"
جاء اتفاق المصالحة نتاج مشاورات مكثفة استبقت بأربع عشرين ساعة الإعلان الرسمي لرئيس الحكومة المقالة بغزة، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، عن "إنهاء الانقسام الفلسطيني"، وذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك مع وفد منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة عزام الأحمد، عقد في منزل هنية عند مخيم الشاطئ بغزة في 23 نيسان (أبريل) الجاري.
ويتضمن الاتفاق جدولاً زمنياً لتنفيذ أولى خطوات المصالحة، استناداً إلى "ما تم الاتفاق عليه في القاهرة (مايو 2011)، والتفاهمات الملحقة، وإعلان الدوحة (فبراير 2012) بحسبانها مرجعية التنفيذ". وينص على أن "يبدأ الرئيس (محمود عباس) مشاورات تشكيل حكومة التوافق الوطني بالتوافق، وإعلانها خلال الفترة القانونية المحددة لمدة خمسة أسابيع"، وتخويله "بتحديد موعد الانتخابات، التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، بالتشاور مع الجميع، على أن يتم إجراؤها بعد ستة أشهر من تشكيل الحكومة على الأقل، وعقد لجنة تفعيل وتطوير منظمة التحرير في غضون خمسة أسابيع"، و"استئناف عمل لجنتي المصالحة المجتمعية والحريات العامة، وتفعيل المجلس التشريعي والقيام بمهامه".
وبذلك، يكون الاتفاق قد اكتفى بإيراد جدول زمني لتشكيل الحكومة، وإجراء الانتخابات، مؤجلاً بحث الملفات الأخرى الشائكة إلى فترة لاحقة، مثل الأجهزة الأمنية، والبرنامج السياسي، وإعادة بناء منظمة التحرير، والحريات العامة، والسلم المجتمعي، والتي شكلت في أوقات سابقة محور خلاف الطرفين حيال طريقة وآلية حسمها، نظير رؤيتين متوازيتين لم تلتقيا في قواسم مشتركة حتى الآن.
حيثيات الاتفاق
لا يستقيم الحال الفلسطيني الراهن مع المشاهد المصاحبة لاتفاقيات المصالحة السابقة أمام مشهد عربي مأزوم، لن يعرف الاستقرار قريباً، وانشغال دول الثورات بقضاياها الداخلية، ومعالجة التفاعلات المصاحبة لحراك التغيير، وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، والمرشح للاستمرار، بما يجعل عمقها العربي الإسلامي غير مؤثر، آنياً على الأقل، في تقديم الدعم والنصرة المطلوبين لها، خارج سياق المواقف التضامنية التي برزت أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير ضدّ قطاع غزة.
وإزاء ما يعتقده فرصة كافية لتعميق الخلل القائم لمصلحته بعيداً عن ضغط المساءلة والعقوبة، يمضي الاحتلال في نمط عدوانه الثابت بالأراضي المحتلة، رغم استئناف المفاوضات برعاية أمريكية، في 29 يوليو 2013، مما جعلها تبدو وكأنها غطاء سياسي لعدوانه. إلا أن الإفراج الإسرائيلي عن ثلاث دفعات فقط من الأسرى "القدامى" المعتقلين ما قبل اتفاق أوسلو (1993)، وإبقاء الأخيرة منها، التي كان مقرراً إطلاق سراحها في 29 مارس الماضي، رهينة تمديد المفاوضات بدون شروط مسبقة، خلافاً لما أتفق عليه، كان بمنزلة الضربة القاضية التي قسمت ظهيراً تفاوضياً آيلاً للسقوط.
وزاد من ذلك الاشتراط الإسرائيلي بالاعتراف "بيهودية الدولة" لبلوغ اتفاق نهائي، إلى جانب "لاءات"، تجد إجماعاً في الكيان المحتل، ضدّ "الانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو 1967، بما فيها منطقة الأغوار، وتقسيم القدس، وحق العودة، وإزالة الكتل الاستيطانية الكبرى التي تقضم زهاء 12 – 15% من مساحة الضفة الغربية المحتلة"، والتي شكلت جميعها ديدن مقترح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الذي قدمه فيما بات يعرف "باتفاق الإطار"، وجوبه برفض فلسطيني.
وقد شكلّ ذلك حرجاً كبيراً للسلطة الفلسطينية أمام جمهورها، مما دفعها، في الأول من أبريل الماضي، لإقرار الانضمام إلى 15 مؤسسة دولية، من إجمالي 64، الأمر الذى وجد استحساناً فلسطينياً، ولكنه لم يزعج الاحتلال في شيء، ذلك لأن القرار خصّ منابر تدخل ضمن اتفاقية جنيف وملحقاتها، واتفاقيات ومعاهدات تتعلق بالمرأة، والطفل، وحقوق الإنسان، ومكافحة الفساد، ليس من بينها محكمة الجنايات الدولية التي تشكل القيمة المعتبرة لخطوة مهمة كهذه.
وصلت "فتح" إلى طاولة المصالحة مثقلة بمأزق سياسي، وخلافات داخلية، وخذلان من الإدارة الأمريكية التي لم تفِ بوعد وقف الاستيطان خلال ولايتها الرئاسية الأولى، فيما أمضت الأشهر الأولى من ولايتها الثانية في جولات كيري المكوكية التي استهدفت إدامة أمد التفاوض لأجل التفاوض فقط، تزامناً مع تذمر شعبي وفصائلي من مسار تفاوضي "عبثي"، ممتد منذ عام 1991، بدون تحقيق نتائج ملموسة على صعيد الحقوق الوطنية، وعدوان إسرائيلي متصاعد، وسلطة باتت تشكل خدمة للاحتلال، في ظل التنسيق الأمني المشترك، أكثر من كونها نواة مؤقتة للدولة الفلسطينية المنشودة، التي لن تجد، وسط المستوطنات والطرق الالتفافية، مساحة متصلة لإقامة كيانها ضمنها، بعدما تم تقويض "حل الدولتين" إسرائيلياً.
ولم تكن "حماس" أفضل حالاً، وإنما جاءت هي الأخرى للاتفاق "منهكة"، بعد أشواط قطعتها من مسار الابتعاد عن "حلفها الاستراتيجي القديم"، سوريا، وإيران، و"حزب الله"، بدون أن تحصد، حتى الآن، ثمار مدّ جسور ما انقطع معه، مقابل تغيرات داخلية أصابت "حلفها الجديد"، المصري- القطري- التركي، لم تصبّ في مصلحتها، فيما لم تتحسن علاقتها بالسعودية لدرجة تضمن لها ساحة بديلة، أو الاستعاضة عن الدعم المالي الإيراني، عدا عن أن تطورات المشهد السياسي الخليجي المتشابك، غداة الخلافات التي اعترت دوله، قد تورط "حماس" فيما لا تريد.
وقد جرّت سياسة "قلب" المحاور تداعيات على "حماس"، إزاء توتر علاقتها مع القاهرة، وإذكاء خلافات داخلية أبرزت خطاباً متمايزاً بين قيادتي "الداخل" و"الخارج"، مسّ موقفها من إدارة الصراع العربي - الإسرائيلي، وحراك التغيير العربي، والمصالحة، التي فجّرت أحد اتفاقاتها (الدوحة 2012) مواطن التباين.
وطال ذلك انقطاع الإمداد المالي الخارجي عن حركة "حماس" في قطاع غزة، بينما أثرّ الحصار والعدوان الإسرائيلي سلبياً في الجوانب الإنسانية والمعيشية لأهالي القطاع، فضلاً عن الإغلاق المتكرر لمعبر رفح، متنفسهم الوحيد للعالم الخارجي، وردم غالبية الأنفاق، مصدر رزقهم الرئيسي، بدون إيجاد البديل.
احتمالات مصير الاتفاق
إن الأساس في اتفاق المصالحة تحقيق الوحدة الوطنية في مرحلة التحرر الوطني من الاحتلال. غير أن القياس إلى مسار ممتد من لقاءات واتفاقيات مشابهة أدخله في دائرة الاختبار الفلسطيني، إلى حين ثبات جديته، فيما أوجد مسارات مفتوحة لمصيره، يتمثل أبرزها في:
أولاً- "اتفاق المأزق"، بحيث يعدّ الاتفاق بمنزلة "طوق نجاة" مؤقت إلى حين تبدل الظروف والمعطيات المصاحبة لتوقيعه. بمعنى أن يشكل مأزق الحركتين الحادّ، والأحداث الجارية في المنطقة، وليس الوحدة الوطنية، دافعاً أساسياً للذهاب نحوه "تكتيكياً"، وذلك لاستخدامه من قبل السلطة كورقة مناورة للردّ على التعنت الإسرائيلي بعدم إطلاق سراح الأسرى، وإفشال العملية السياسية، ورسالة ضغط بوجود خيارات أخرى، إذا لم تتم الاستجابة لمطالب الإفراج عن الأسرى، ووقف الاستيطان والاحتكام لمرجعية عام 1967، من أجل تمديد المفاوضات، مقابل استهداف "حماس" فك الحصار الخانق، وتخفيف وطأة الأوضاع المعيشية المتدهورة في القطاع، وتحسين علاقتها مع مصر، والانفتاح للعالم الخارجي.
بيد أن اتفاقاً من هذا النوع يستهدف إدارة الانقسام فقط، وليس العمل على إنهائه، ويكرسّ مفاصله في الساحة المحتلة، ويتسبب في نزع ثقة الفلسطينيين بقيادتهم وتجاه الحركتين معاً، ويعطي مجالاً أكبر للضغط الأمريكي تجاه انتزاع تنازلات من القيادة الفلسطينية لتمديد المفاوضات، بينما يمضي الاحتلال في عدوانه الثابت بين ثنايا الانقسام الفلسطيني.
ثانياً- "اتفاق مؤقت"، ولا تختلف المحصلة النهائية لهذا الاتفاق عن سابقه، ولكنها تغايره هدفاً. فإذا كان السقف الزمني المؤقت مقرراً ضمنياً لدى الطرفين، في الاحتمال السابق، فإن غلبة تعثر التنفيذ على هدفه الأساسي تؤدي إلى فشله، هنا، رغم توفر الإرادة والنيات الحقيقية الجادة للمصالحة، وتحقيق الوحدة الوطنية المضادّة للاحتلال، والطاردة لانعكاس ملابسات أحداث المنطقة في الساحة الفلسطينية. إلا أن الانشغال بالأدوات الفنية لتطبيق الاتفاق، وبروز خلافات حول ملفاته، أو استهداف طرف لاخضاع الآخر سياسياً، قد يؤدي إلى عرقلة مساره.
وقد يبرز الشدّ عند مشاورات تشكيل الحكومة القادمة، أو إجراء الانتخابات، فيما تطلّ قضية التنسيق الأمني بين أجهزة السلطة والاحتلال برأسها الثقيل على أفق الاتفاق، عدا عن مطالبة "حماس" بإبقاء سلاح المقاومة دونما مساس، مع دمج أفراد الشرطة والأمن في قطاع غزة ضمن إطار الأجهزة ألأمنية التابعة للسلطة، غير أن الأخيرة صرحت أكثر من مرّة بأن الدولة المنشودة ستكون منزوعة السلاح.
ويقف تباين البرنامج السياسي حجر عثرة عند الإيغال بعيداً في تطبيقات لجنة تفعيل وتطوير المنظمة، التي تستهدف دخول حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" تحت مظلتها، وذلك إزاء استلال "حماس" للمقاومة المسلحة، وعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني، وتحرير كامل فلسطين التاريخية، مقابل أخذ "فتح" بمسار التفاوض خياراً استراتيجياً أوحد، وبالمقاومة الشعبية السلمية فقط ضدّ عدوان الاحتلال.
ولأن الأجندة الفلسطينية حافلة بمشاهد تصافح الطرفين أمام عدسات الكاميرا في آخر سبع سنوات عجاف من جدية نفاذها، فإن الشكوك تغلب على مصير "اتفاق الشاطئ" المباغت، الذي جاء بعد أيام من رسائل ترطيب الأجواء المتبادلة، وإجراءات أمنية مصرية إيجابية بحق "حماس" في مصر.
ثالثاً- "اتفاق دائم"، إن مفاعيل المشهد العربي المأزوم، وانشغال الدول بقضاياها الداخلية، وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، قد تسهم في تنفيذ خطوات المصالحة، بحسبانها مصلحة وطنية عليا، في ظل توافر الإرادة الحقيقية عند الحركتين، وإدراك خطورة المأزق الفلسطيني الراهن، وعدم تحقق قدرة الصمود أمام العدوان الإسرائيلي، المدعوم أمريكياً، إلا بالوحدة الوطنية، أسوة بتنفيذ الخيارات الاستراتيجية للمرحلة القادمة، ومنها استكمال المسعى الأممي، وتعزيز المقاومة الشعبية، والتحرك الدبلوماسي تجاه تطبيق الاعتراف بفلسطين "دولة مراقب"، غير عضو، بالأمم المتحدة، في نوفمبر 2012.
إن المضيّ قدماً في تشكيل الحكومة يخلق أجواء الثقة بين الطرفين، ويعزز المصداقية والجدية في تنفيذ المصالحة بين صفوف الشعب الفلسطيني، كما يهيئ المناخ المناسب لإجراء انتخابات في ظل وحدة وطنية. فيما يشكل الصفّ الفلسطيني الموحد دعامة مضادّة للتهديدات الأمريكية الإسرائيلية بالعقوبات الاقتصادية أمام اتفاق، إذا ما قدّر له النفاذ الفعلي، فإن عوائد الاقتصاد الفلسطيني الموحد الناجمة عنه ستقدر بأكثر من 3,5 مليار دولار سنوياً، عند تحييد المؤثرات الخارجية، وفق تقدير فلسطيني، بينما تعدّ الإسهامات الأمريكية في قيمة المساعدات المقدمة لخزانة السلطة، منذ تشكيلها (عام 1994)، متواضعة لم تتعد 15% من إجمالي 25 مليار دولار، بمعدل متوسط 400 مليون دولار سنوياً، يذهب معظمه للبنية التحتية، ومشاريع أمريكية، وبناء قدرات ألأجهزة الأمنية الفلسطينية.
إلا أن ثمن المصالحة قد يكون باهظاً في حال تنفيذ العقوبات الإسرائيلية، والمتعلقة تحديداً بحجب أموال الضرائب المستحقة للجانب الفلسطيني، المقدرة بنحو 140 مليون دولار شهرياً. ومن هنا، تأتي أهمية الدعم العربي الإسلامي، وتفعيل شبكة الأمان المقرّة في قمم سابقة، لتعزيز الصمود الفلسطيني أمام الاحتلال.
ومع ذلك، لن يمضي الطرفان بعيداً في تهديداتهما، إذ لا مصلحة لهما بدفع الحال الفلسطيني إلى مأزق البحث عن خيارات بديلة للعملية السلمية، في ظل الإجماع الوطني على وقف المفاوضات، واستكمال المسعى الأممي، وتعزيز المقاومة، بشتى أشكالها، بما فيها المسلحة.
وفي المحصلة، فإنه لا نصير لحركتي "فتح" و"حماس" سوى المظلة الوطنية الفلسطينية، عبر توفر الإرادة والجدية الحقيقية لإنهاء الانقسام، وتحقيق الوحدة الوطنية المضادّة، بدعم عربي إسلامي، لعدوان الاحتلال المتواصل ضدّ الشعب الفلسطيني.