شهدت العلاقات التركية الإقليمية بعد ثورة الـ 30 من يونيو مسارات مختلفة. ففي الوقت الذي تباعدت فيه العلاقات التركية- المصرية، أخذت العلاقات التركية -الإسرائيلية مستوى جديدا من التقارب نتج عن تطورات سياسية في الداخل التركي. ولتوضيح مستوى العلاقات التركية الإقليمية، ومساراتها المختلفة، عقد المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط ورشة عمل حول "التطورات الداخلية والإقليمية في السياسة التركية، وكيفية التعامل المصري معها"، وحضر الندوة عدد من الخبراء والمتخصصين المصريين والأتراك في هذا الشأن.
في بداية الندوة، أكد د. محمد مجاهد الزيات، رئيس المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، أن تركيا تشهد في الوقت الراهن حالة من عدم الاستقرار السياسي الداخلي، وهو ما انعكس على علاقاتها بدول الجوار في منطقة الشرق الأوسط، فلدى تركيا مشكلات مع كل دول الجوار في تعبير واضح عن انتهاء سياسة تصفير المشكلات التي اتبعتها لفترة طويلة. وقال المتحدث إنه في ظل ما تتعرض له تركيا من ضغوط داخلية وإقليمية حالياً، فإنها تفكر في تطوير وتعزيز علاقاتها مع إسرائيل، وكذلك مع إيران، من خلال تغيير بوصلة تركيا الإقليمية.
ومن جانبه، أوضح د. عمرو عبدالسميع، الكاتب الصحفي بالأهرام، أن تركيا تتعرض لمجموعة من الدوائر المنفصلة والمتصلة داخلياً وإقليميا،ً في ظل وجود حالة من الصخب وعدم الاستقرار السياسي داخل المجتمع التركي، مع اقتراب إجراء الانتخابات المحلية أواخر مارس 2014، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في شهر أغسطس القادم، وكل ذلك يؤثر فى الوضع الإقليمي لتركيا. وبالتالي، قد يشهد الإقليم حالة من التقارب المتوقع بين تركيا وإيران، في محاولة منها من أجل التغلب على الأوضاع الإقليمية المترتبة على انهيار التحالف التركي مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بعد أن تمت الإطاحة بها، وكذلك انهيار العلاقة بينها وبين حزب النهضة في تونس، وحركة حماس في غزة، وبالتالي تحاول تركيا علاج بعض الآثار المترتبة على ذلك، خاصة الاقتصادية منها، حيث تعمل على فتح أسواق لها في إيران. وأضاف المتحدث أن تركيا تعمل في الوقت نفسه على تعزيز علاقاتها بإسرائيل، رغم معارضة بعض التيارات السياسية التركية لذلك، وهو ما كان يتعارض مع توجهات حزب العدالة والتنمية.
التطورات الأخيرة في الداخل التركي:
وفي إطار الحديث عن التطورات الداخلية في تركيا، تحدث د. علي جلال معوض، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، عن التطورات الداخلية في تركيا، قائلا إن هناك قضايا الفساد كثيرة ظهرت أخيرا في تركياً، حيث ثبت أنها تتسع وتنتشر بشكل كبير داخل المجتمع التركي، خاصة قضايا الفساد السياسي التي تورطت فيها مجموعة من الوزراء في الحكومة الحالية وأبنائهم، موضحا أن هذه القضايا كشفت عن حجم الفساد وقدرته على إحداث نوع من التغيير الجذري في قيادات حزب العدالة والتنمية. كما كشفت عن أزمات كبرى يعانيها المجتمع التركي من خلال رصد قضايا الفساد، وأثر هذه القضايا على مستقبل حزب العدالة والتنمية، وكذلك تأثيرها فى مستقبل السياسة الخارجية التركية في المنطقة.
وعن تأثير هذه القضايا فى مستقبل حزب العدالة والتنيمة، أشار المتحدث إلى استطلاعات رأي حديثة تشير إلى تراجع شعبيته منذ تفجر الأزمة بنسبة 38%. ومع اتساع نطاق التسريبات الحالية لرئيس الوزراء التركي أردوغان، وعدد من الوزراء المتوطين في هذه القضايا، وعن مستقبل الحزب في السلطة، أكد المتحدث وجود تصورين، هما:
- التصور الأول: يشير إلى استمرار حزب العدالة والتنمية في السلطة، وذلك لعدم وجود بديلا ملائم.
- التصور الثاني: يشير إلى التراجع الكامل للحزب وانهياره، ومن مؤشرات ذلك وجود بعض الانقسامات داخل الحزب، وتقديم بعض أعضاء الحزب استقالاتهم.
الأبعاد الخارجية لتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية:
تحدث د. على معوض عن أهم هذه الأبعاد والمتمثلة في تراجع النموذج التركي، وتراجع القوة الناعمة التركية عن الانتشار في دول منطقة الشرق الأوسط، والتي كانت تنظر إلى النموذج التركي كنموذج ملهم يمكن تطبيقه في هذه الدول، وإمكانية امتداد التأثيرات السلبية من قبل حزب العدالة والتنمية، وسعي السلطة التنفيذية لتطويع باقي المؤسسات لمصلحتها. وأضاف المتحدث أن هناك تأثيرات اقتصادية سلبية تتمثل في انخفاض قيمة العملة التركية، وتراجع معدلات نمو الاقتصاد التركي، وهو ما يؤثر سلباً فى تراجع مستويات المعيشة داخل المجتمع، نتيجة لانخفاض وتراجع الاستثمارات، كما يمكن أن يؤثر ذلك فى توجهات السياسة الخارجية لتركيا، وتصاعد حدة التوترات بالنسبة لبعض الملفات المهمة، خاصة الملف الكردي، وفي الوقت نفسه يوجد تأثير لهذه التطورات على العلاقات المصرية- التركية، خاصة من خلال توظيف الأزمة المصرية في الأحداث التركية الداخلية.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية التركية، تحدث بشير عبد الفتاح، رئيس تحرير مجلة الديمقراطية، موضحاً أنها تغيرت وشهدت نقلة نوعية منذ صعود حزب العدالة والتنمية عام 2002 ، عندما أراد أن يحرر السياسة الخارجية التركية من حسابات الحرب الباردة التي أثرت فيها فترة طويلة من الزمن، وذلك من خلال فتح دوائر جديدة للعلاقات كانت مغلقة من قبل، بالإضافة إلى ابتكارات وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، حيث كانت له نظريتان في هذا الشأن، هما العمق الاستراتيجي، ونظرية تصفير المشكلات.
وأضاف بشير عبدالفتاح أن تركيا حالياً تشهد تحولاً من الدولة العميقة إلى الدولة الموازية التي شكلها فتح الله جولان، من خلال التغلغل في مؤسسات الدولة المهمة لتقويض تجربة حزب العدالة والتنمية. وقد حدث ذلك في ظل وجود حالة من الغضب الشعبي تجاه سياسات أردوغان الداخلية والإقليمية، وغياب التوافق الوطني حول هذه السياسات، وعدم بلورة سياسة خارجية تركية ناجحة.
وأضاف المتحدث أن هناك متغيرين مهمين يتعلقان بالسياسة الخارجية الإقليمية لتركيا، يتمثلان في عدم اتضاح معالم البيئة المحلية والإقليمية والدولية للسياسة الخارجية التركية، وعدم قدرة حزب العدالة والتنمية على اتخاذ قرارات واضحة في هذا الشأن، على الرغم من تلك المحاولات الرامية إلى تقليل الخسائر، وترميم العلاقات مع دوائر غير عربية لإحداث التوازن، غير أنه من السابق لأوانه الحديث عن سياسة خارجية إقليمية تركية حالياً، حيث إن شبكة العلاقات الإقليمية لم تتضح بعد، حتى تضع الثورات العربية أوزراها، في ظل الحديث عن مخططات لتقسيم المنطقة في إطار "سايكس- بيكو" جديد، في ظل متغيرات جديدة تشهدها المنطقة في الوقت الراهن. كما أن ما يحدث على الصعيد الدولي، خاصة في أوكرانيا، والتدخل الروسي في الأزمة الأوكرانية، سوف يؤثر فيما يحدث في الإقليم.
العلاقات التركية- الإسرائيلية:
وفيما يتعلق بالحديث عن العلاقات التركية- الإسرائيلية، تحدث د. طارق فهمي، رئيس وحدة الدراسات الإسرائيلية بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، عن وجود العديد من المحاولات التركية لتعزيز علاقاتها بإسرائيل، وإن كانت مسارات هذه العلاقات قد تأثرت بعد حادث السفينة مرمرة، ودخولهما في مفاوضات برعاية أمريكية، إلى أن تم حسمها من خلال "دبلوماسية الاعتذار".
وأوضح المتحدث أن إسرائيل من الداخل ترى أن مصار الخلاف المختلفة تتمثل في وجود أزمة حقيقية داخل تركيا، وهو ما ينعكس على ما بعد المصالحة، كما تتوقع إسرائيل فشل رجب طيب أردوغان. وأضاف المتحدث أن هناك رهانا إسرائيليا على قدرة أردوغان على تجاوز الأزمة الحالية، وترى في النظام الإقليمي في تشكيل مجلس أعلى للسياسات، وتقارب إيراني- تركي تأثيرا فى العلاقات الإسرائيلية- التركية، في ظل وجود مجموعة من الدوافع الاقتصادية للتقارب الإسرائيلي- التركي (استثمارات متبادلة- تأمين الحصول على الطاقة والنفط).
وقد توصلت ورشة العمل إلى نتجية رئيسية، مفادها أن ما تعانيه الساحة الداخلية التركية من أزمات في الوقت الراهن يؤثر فى تحركاتها في منطقة الشرق الأوسط، من خلال ما تتخذه من سياسات خارجية تسعى من خلالها إلى تعويض ما يحدث في الداخل، وتجاوز أزمتها الداخلية، حيث تسعى تركيا لبناء شبكة من العلاقات الاستراتيجية مع بعض دول الجوار في الإقليم مثل إيران وإسرائيل. غير أن هذه التحركات في بعض أبعادها تؤثر سلباً فى العلاقات التركية- المصرية، والدليل على ذلك تحركاتها في إفريقيا من خلال تعزيز علاقاتها مع إثيوبيا، وهو ما يأتي في إطار سعي تركيا لحصار الدور المصري في إفريقيا. يتضح ذلك أيضاً من خلال المحاولات التركية الدائمة لاستغلال ما يحدث في مصر حالياً، وهو ما أدى إلى التأثير فى حجم العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، خاصة مع تصريحات المسئولين الأتراك حول ما تشهده مصر من أحداث بعد ثورة 30 يونيو، وعلاقتها بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين منذ سنوات طويلة، ودور حزب العدالة والتنمية في الدفاع عن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، ورعايتهم في تركيا.