كم من السهل الحديث عن الحاضر والماضي. وكم من الصعب الحديث عن المستقبل. فقد تناول كثيرون ماضي العلاقة السعودية الأميركية وحاضرها بالتحليل والتأويل. لكن ماذا عن مستقبلها بعد لقاء الرياض، بين العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز. والرئيس الأميركي باراك أوباما، بحضور كبار رجال الإدارة والقرار في الدولتين؟
أستلهم هدوء ورصانة ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز، لأستشرف الآفاق المستقبلية التي تحكم العلاقة التاريخية بين أكبر دولة عالمية. وأهم دولة عربية وإقليمية. فأقول سلفا إن هذه الثنائية المميزة بطولها، لن يطرأ عليها تغيير. ستظل ثابتة. مستقرة، لأن لا مشكلة تنتاب هذه الفرادة الثنائية، في عالم خطر. متقلب. ومتغير.
المشكلة، إذن، أين؟! كان لا بد من هذا اللقاء. والأرجح أن لقاءات ثنائية، ستعقد على مختلف المستويات، بين الدولتين. الهدف تفادي استفحال التباين في الرؤية. التفكير. السلوك. الممارسة، بين الدولتين، في تناول قضايا عربية وإقليمية.
هذا التباين بات يلحق الأذى بمصالح وسياسات كل منهما، إزاء هذه القضايا. لن أستخدم اللغة الخشبية في الزعم، بأن لقاء الرياض توصل إلى تنسيق. أو حلول ثنائية مشتركة. فمن المنطق القول إن دولتين تتمتعان بالسيادة والاستقلال، لا يمكن أن تمارسا سياسة موحدة تماما، في العلاقة مع دول أخرى في المنطقة وخارجها.
باختصار، ما حدث في الرياض هو تعميق الفهم المتبادل لمواقف كل منهما، إزاء السياسات التي تتبعانها مع الدول والقضايا المعنية. وأقول بصراحة إن التفاهم غير الفهم. ومن الظلم للسعودية الزعم بأنها باتت، بعد اللقاء، متفاهمة أو مشاركة للولايات المتحدة، في سياساتها ومواقفها الغريبة غير المقبولة عربيا وقوميا.
لست متشائما. هناك مجال متاح لانتقال الدول من الفهم المتبادل، إلى التفاهم والتعاون المشترك. لا بد من المشورة الدبلوماسية، والاتصال السياسي، وصولا إلى حوار مغلق أو علني يفرض، مثلاً، على إدارة أوباما اتباعه مع القيادة السياسية السعودية، عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرار أميركي، كالاقتراب من إيران.
إيران جارة بحرية للسعودية. إلى الآن، ما زالت السعودية تداري هذه الجيرة المتعِبة، بغض النظر عن الإعلام الذي يتمتع بحرية قادرة على اتهام إيران، بتهديد الأمن العربي، بما فيه الخليجي، بالتدخل في سوريا. لبنان. العراق. حماس غزة، لإلحاقها بعجلة السياسة الإيرانية.
العتب على أميركا أوباما سيكون كبيرا في المستقبل، إذا لم تتشاور مع السعودية، في الفصل بين ما هو «افتراضي»، وما هو واقعي في العلاقة الأميركية مع إيران. تم الاتفاق النووي المبدئي مع إيران، من دون إلزامها في الحاضر والمستقبل، بوقف انتهاكها للأمن العربي والسيادة القومية في المشرق والخليج.
مع حسن روحاني، قد تلجم أميركا الخطر النووي (الافتراضي). لكن روحاني لم يتمكن من زيارة السعودية. عندما خرج، بعد تعيينه رئيسا، ليعلن أن سوريا «خط أحمر». بمعنى لا ترحيل لبشار. لا وقف لتدمير مدن السنة. لا منع للقتل الجماعي بسلاح الميليشيات الإيرانية والعراقية المتسللة إلى سوريا بعلم نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي، بالإضافة إلى مرتزقة «حزب الله» المتسللين من لبنان.
ما هو مستقبل الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، بعد انهيار أنظمة الإسلام السياسي (الإخواني) التي خطفت الانتفاضات العربية بتأييد ودعم أميركيين؟ مع الأسف، ما زال الخطاب السياسي الأميركي والإعلامي «إخوانيا». في مصر، تخلت إدارة أوباما عن القوى الشبابية التي نزلت من عالم «الإنترنت» الافتراضي، لتصنع الانتفاضة على أرض الواقع. فقد كانت عاجزة بتبعثرها، عن وقف زحف الإخوان إلى السلطة.
ما سمعه أوباما، في لقاء الرياض، عن حاجة العرب إلى مصر للمشاركة في الدفاع عن الأمن القومي العربي، قد يجعله مستغنيا عن الحملة الأميركية الإعلامية وغير الإعلامية على السيسي المرشح الرئاسي. الامتحان العربي لأوباما سيكون بتسليم أميركا مصر طائرات الهليكوبتر (أباتشي) لمكافحة العنف «الجهادي» الذي ترعاه في سيناء حماس من غزة.
وعد السيسي مصر بالديمقراطية والأمن والاستقرار. شكل قوة نخبة في الجيش لمكافحة عنف الإخوان و«الجهاديين». ومن المنتظر أن يخفف من عناء مفتي الديار المصرية في الموافقة على إعدام 529 إخوانيا و«جهاديا» معظمهم هارب من وجه العدالة. ولا شك أن الدول الخليجية التي دعمت بسخاء التنمية وتعويم الاقتصاد المصري، سوف ترحب بتخفيف هذه الأحكام.
المنافسة الديمقراطية وضعت المرشح الناصري القوي شعبيا حمدين صباحي، في مواجهة المرشح السيسي الأقوى حظا. كنت أتمنى لو أن عمرو موسى المرشح لإدارة حملة السيسي الانتخابية يتفادى هذه المنافسة، بحيث يغدو خمسة ملايين مصري صوتوا لصباحي ضد محمد مرسي، قاعدة شعبية متينة لحلف سياسي بين السيسي وصباحي، طالما أن الرجلين غير راغبين في إزعاج النظام العربي، في ممارسة دور جمال عبد الناصر في الشارع العربي.
الانقسام العميق داخل إدارة أوباما. وعجزها عن السيطرة والتعاون مع مجلسي الكونغرس، يزيدان في مأساة الاستراتيجية الأميركية المستقبلية. التردد الأميركي في سوريا أدى إلى حسم بوتين أزمة أوكرانيا، باستعادة شبه جزيرة القرم الاستراتيجية بالنسبة للأسطول الروسي في البحر الأسود.
أوباما هو محصلة عجز كل رؤساء أميركا، في ربع الساعة الأخير من القرن العشرين، عن التعامل مع العرب كأمة لها وزنها بحكم إطلالتها، على مداخل ومخارج أهم البحار والمحيطات. وامتلاكها النفط الذي ما زال مصدر الطاقة الأول للحضارة الإنسانية.
ازدواجية أوباما المتراوحة بين بث الطمأنة العلنية المتعالية، بأن أميركا ما زالت في «الخدمة» كحامية للأمن الخليجي، ثم الانسحاب التدريجي من المنطقة، للاختفاء في مجاهل آسيا، هذه الازدواجية سوف تتناقض مع الواقع في منطقة استراتيجية عربية يتقرر فيها مصير دول كبرى وصغرى في العالم.
في أي تعامل مع الاستراتيجية السياسية الأميركية، لا بد من حسب الحساب للإعلام الأميركي في خدمة هذه الاستراتيجية أو الإساءة إليها. ليست هناك وزارة إعلام تحكم وتنظم العلاقة بين الدولة والصحافة ووسائل الإعلام المتنوعة، في الدولة الديمقراطية الغربية. إنما هناك علاقة خفية بين النظام والإعلام.
هذه العلاقة تقوم غالبا، على أساس تزويد نخبة المحررين والمخبرين بالمعلومات. والأخبار. والأسرار، في مقابل الدعاية. والترويج لسياسات الدولة الكبرى في الداخل والعالم. إدارة أوباما تضمن صداقة وولاء كبريات الصحف السياسية الأميركية، عبر هذه الآلية المحكمة لبث ما تريد ترويجه سلبا وإيجابا، عن الأنظمة والدول التي تتعامل معها.
وهكذا، تنتشر في المنطقة العربية شبكة كبرى من المكاتب ومراسلي وكالات الأنباء والصحف الأميركية الكبرى، لتستخدم تفوقها المهني والتقني، في شن الحملات لتأييد أنظمة. وتنظيمات. ورجال، أو الإساءة إليهم، حسب مصالح النظام الحاكم في واشنطن. فلا تصدِّق اغلب التصريحات الرسمية، عن الحماية. والطمأنة. والثقة. وتبديد القلق والزعل. إذا كنت واثقا من وعيك السياسي، فيكفي أن تقرأ هذا المارد الإعلامي الجبار، لتعرف بين السطور ما يدور في عقل وفكر الإدارة عنك. وعن بلدك. وعن صناع القرار فيه.
-------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الثلاثاء، 15/4/2014.